Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

رحيل الشاعر والمترجم المصري محمد عيد إبراهيم… أحد أبرز أصوات السبعينيات

عاش الموت عن كثب… وكتب قصائد تحتفي بالحلم

الشاعر المصري محمد عيد ابراهيم (يوتيوب)

رحيل الشاعر والمترجم محمد عيد إبراهيم (1955 – 2020) ربما كان مفاجئاً فحسب لمحبيه ومن يعرفونه عن قرب، لكنني أظن أنه كان قد استأنس فكرة الموت قبل أكثر من خمسة أعوام عندما أصدر ديوانه "عيد النساج". يتبدى الديوان للوهلة الأولى كأنه احتفاء بصورة الأب الذي ينتمي لسلم أدنى في الطبقة المتوسطة ويعمل نساجاً في أحد مصانع حقبة التأميم الناصرية. غير أن قارئ الديوان ستفاجئه استدعاءات مفرطة لموتى غير محصورين. الأب الذي مات في منتصف العمر والأم التي لحقت به وأصغر الشقيقات التي قضت نحبها قبل سنوات عدة. لم يكن غريباً في هذا السياق أن يفتتح "عيد" ديوانه بإهداء متفجع لـ "جوزيف وينكلر" من روايته "جبانة البرتقال اللاذع " يقول فيه: أحب أن أكون بين الموتى؛ لا يؤذونني، لأنهم بشر في النهاية"، ثم يفتتح ديوانه بقصيدة يتنبأ فيها بموته كما جرت وقائعه، يقول في مطلعها: "يقول ابني مات الأدمن، بعد يوم عصيب... البقاء لله! تقول زوجتي، وهي تنتف شعرة بيضاء من مفرقها: توفي الشاعر والمترجم... كان حياتي! وتقول بنتي الصغيرة وهي تأكل بيضها بالعسل: من أين طار بابا؟ لم يكن المرض الذي كان يعانيه "محمد عيد" سبباً مباشراً في تلك الروح التشاؤمية التي تحلقت حول ديوانه بل كان ألماً خفياً مما يسميه الموت المركب للشاعر بعد أن غادر الشعر موقعه الذي كان يتقدم الفنون ليكون في ذيلها تقريباً، فضلاً عن فجيعة الشاعر في مردودات الشعر بالمعنيين السياسي والاجتماعي. لم يكن عيد صائباً تماماً في تشاؤميته لأنه لم يكن ذلك الشاعر الآتي من عباءة الجماهير التي احتفى بها المذهب الوضعي، وقد قرأناه يرفض مقولات توما الإكويني وأناتول فرانس حول فكرة الأخلاق، حيث كان أكثر انحيازاً لموقف السورياليين الذين رأوا أن هذا المذهب "الوضعي" مؤلف من بلادة وبغضاء وعجرفة فارغة وذلك عبر دأبه على تملق العامة في ذوقها الذي يميل إلى الوضوح. وهو وضوح يبدو أقرب إلى البلاهة منه إلى الفن.

شعر محمد عيد إبراهيم منذ ديوانه الأول "طور الوحشة" الذي صدر عام 1980 كان يلتمس طريقاً صعبة لم يكن يعبأ فيها بجماهيرية النص، وكان الأكثر انحيازاً بين أبناء جيله إلى الربط بين القصيدة والحلم، لذلك بدا أنه الأكثر تأثراً بالسورياليين في الشعرية المصرية التي تلت جورج حنين وجماعة الفن والحرية. وفي شهادة له ألقاها في مهرجان عتبات بالمغرب عام 1998 قال "عيد": "لا يعطي الشاعر أفضلية لشيء قدر الحلم. فالحلم حشد من الذكريات والماضي، أيضاً المستقبل، وهو سر أمام المادة لا يمكن أن يُفض. شغله مع النبوءة التي ترتبط بالرغبات وأصل اللاوعي ونشاط الكينونة التي قد لا تتحقق". لكن "عيد"، وهو مثقف نوعي، يدرك تماماً أن التقارب بين الحلم والشعر لا يعني زوال الحدود، وهو ما يختلف فيه مع رأي السورياليين الذي يرون لحظات الصحو هي اللحظات الأكذب لأنها تعني الخضوع للقوة العقلية أو البرهانية، وهو وعي يعمل ضد رغبات الشاعر المكبوتة أمام تلك الحرية المطلقة التي يطلبها من يؤمن بالسوريالية. بالإضافة إلى ذلك فإن عيد كان مؤمناً بفكرة تتصل بعلم المعاني في التراث العربي وهي فكرة إبطال الدلالة وهي أكثر عصفاً من فكرة تعدد الدلالة لكنها رغبة تبدو شيطانية في ألا تصل شهوة الشعر إلى منتهاها، وكأن قدر القصيدة أن تظل جرحاً سرمدياً لا يلتئم. انسحب هذا التصور على الكثير من صياغات "عيد" اللغوية وكثافة المجازات والإفراط في التخييل المصحوب بشيء من العنف في التعامل مع المفردة وكأنها هي نفسها التعبير عن فداحة العنف في عالم الواقع.

جماعة "اصوات"

انحيازات عيد الطليعية، التي ربما سبقت خطى "جماعة أصوات" السبعينية التي انتمى إليها، لم تكن فحسب متمثلة في دفاعه المستبسل عن قصيدة النثر في وقت مبكر جداً يعود إلى نهاية سبعينيات القرن الماضي بل امتدت إلى ترجماته المهمة التي عززت رؤاه الجمالية والفكرية والتي تنوعت بين الفكر والإبداع بكل أشكاله: الشعري، الروائي والقصصي. وقد كان بين أهم ترجماته في السنوات الأخيرة ترجمته لكتاب "دورة ما بعد الحداثة " للدكتور إيهاب حسن الناقد الأميركي من أصل مصري وأحد أكبر نقاد ما بعد الحداثة. وقد كان عيد قد ترجم قبل ذلك بسنوات عدة كتاباً مهماً تحت عنوان "تخمينات الأدب العالمي" ويضم الكتاب مجموعة من الأبحاث المهمة عن ما بعد الحداثة في مواجهة الأدب القومي لعدد من النقاد المحسوب معظمهم على اليسار الراديكالي في العالم وبينهم "رولان بارت، تودوروف، توني موريسون، مارتن جايفورد"، كذلك تضمن الكتاب فصلاً إشكالياً عن قارئ ما بعد الكولونيالية شارك فيه المفكر الهندي "راجا راو" وكذلك قدم مقالة مهمة لـ "هومي بابا" عن ثقافة ما بعد الكلونيالية.

لم يكن الشاعر محمد عيد إبراهيم صاحب انتماء سياسي ولم ينخرط في العمل السياسي بمعناه الحركي أو التنظيمي لكنه كان صاحب نزعة يسارية في تصوراته لفكرة الصراع الإنساني، وقد كان هذا الانحياز شديد التأثير في اختياراته الفكرية والجمالية. ففي مجال الإبداع قدم عيد أكثر من أربعة عشر ديواناً أذكر منها دواوينه اللافتة: "خضراء الله، ملاك أحمر، على تراب المحنة وعيد النساج ".  قدم عيد أيضاً ترجمات شعرية تعكس انحيازاته المتقدمة، لذلك أتت معظم هذه الترجمات منتمية لقصيدة النثر مثل مختارات "آن سكستون، إديث سودرجران التي قدمها بالاشتراك مع الراحل عفيفي مطر، رسائل عيد الميلاد لـ تيد هيوز، كما قدم ديوان "نهايات" للشاعر الكاريبي الحاصل على نوبل ديرك والكوت كما قدم مختارات من الشعر السويدي وكذلك مختارات وافية من أشعار بورخيس تحت عنوان النمر الآخر. وفي الإبداع الروائي قدم أكبر الأسماء في الرواية العالمية مثل: "ميلان كونديرا، توني موريسون، مايكل ماكنجهام، دون دليليو، المركيز دو ساد، وهاروكي موراكامي. إلى جانب ذلك كان "عيد "صاحب تأثير واسع في الواقع الثقافي بعد أن أسس سلسلة آفاق الترجمة بالهيئة العامة لقصور الثقافة وأصدر عبرها عدداً من الترجمات المهمة الشديدة التأثير في الأجيال الجديدة مثل: "بيانات السريالية والأواني المستطرقة، عصر البنيوية، قصيدة النثر من بودلير إلى أيامنا، أزهار الشر، الشعر والتجربة للشاعر والناقد الأميركي أرشيبالد ميكليش، وكان هذا الكتاب إنجيلاً لكل شعراء جيل السبعينيات  فضلاً عن أن عيد كان عضواً في أهم الحركات الشعرية التي تشكلت في عقد السبعينيات وهي جماعة "أصوات" التي نافست جماعة "إضاءة" حيث شكلا معاً جزءاً مهماً من المشهد الشعري السبعيني. وقد أصدرت الجماعة عدداً واحداً من مجلتها "الكتابة السوداء" كما أسس عيد سلسلة للفن التشكيلي بعنوان "نقوش" مع الفنان الليبي "عمر جهان" صدرت أيضاً عن هيئة قصور الثقافة.

إن اختيارات "محمد عيد إبراهيم" الشعرية، عبر أكثر من أربعة عشر ديواناً قدمها للمكتبة العربية، وأكثر من خمسين كتاباً مترجماً، لهي تمثيل للحظات طامحة إلى الاكتمال، من دون الوقوع في أسر المقولات الجاهزة التي يعتقد الشاعر الضليل أنها قادرة على الإحاطة بكل شيء. لقد أسس "عيد" حصنه المعرفي وسط حقول الطوباويين الكبار، ماركس، تروتسكي، إنجلز، مارتن لوثر، فولتير، روسو، وغيرهم ممن ارتعدت فرائصهم أمام فظائع الحرب والهدم الدائم. ومع ذلك لم يكن كافياً أن يخلق السابقون نظاماً للوعي ومنهجاً لقتل الماضي، بل كان هناك دائماً ما يؤرق ضمير العالم ويكلل جلبابه الأبيض بالكثير من بقع الدماء أو وثائق العار. و"محمد عيد"، الذي شارك في حمل طرف من الصولجان السبعيني، كان الأكثر جرأة والأبعد مدى في الخروج على الذاكرة المكينة القارة والباتة، لذلك كان يردد دائماً مقولة "براك": "أنا لا أشوه، بل أنطلق من اللا شكل لأعيد التشكيل". غير أن دفاع عيد عن اختياراته اصطدم بمستقبل القصيدة التي يراها في عالم ما بعد الحداثة عائدة إلى شكل ميكانيكي يعادي التأملات، ويقول: نص المستقبل لن يراعي الألفة، ولن يتشكى من ألم الوصال، لأن الحب ساعتها عنين... وستصير القصيدة كالبرتقالة المهروسة تحت عجلات الآلة المقبلة".

لقد توقع عيد هذا المستقبل المؤسي الذي أدى به إلى اكتئابات متوالية، على الرغم من أنه توقع ذلك منذ عام 1998 عندما قال: "مع الألفية الجديدة، أظن الناس لا تريد من بعد شعراً ولا حلماً. سوف نستحيل (الشعراء) إلى مثل كائنات الفضاء السينمائية، بخيال مبتور، بينما أنت الشاعر الحالم غير مرغوب فيك".

المزيد من ثقافة