Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

قلعة الحصن... توثيق لتطور عمارة التحصين في الشرق الأدنى

واحدة من بين خمس قلاع صليبية ما زالت قائمة في سوريا

قلعة الحصن أفضل نموذجٍ محفوظٍ عن قلاع الفترة الصليبية وقلاع القرون الوسطى (دانيال ديمتر)

يقول باحث تاريخ العصور الوسطى توماس أسبريدج، "إنها النصب الأكثر إذهالاً من حيث تناسب تكوينها، وحرفتها التي تعكس الدقة الفائقة والتميز المعماري الذي شهدته الكاتدرائيات الغوطية الضخمة المشيدة في أوروبا الغربية في الفترة نفسها".

ووصفتها صحيفة نيويورك تايمز بأنها، "أُعجوبة الهندسة في العصور الوسطى".

قلعة الحصن أفضل نموذجٍ محفوظٍ عن قلاع الفترة الصليبية وقلاع القرون الوسطى، كما أنها توثيق فريد لتطور عمارة التحصين في الشرق الأدنى خلال تلك الفترة، وقد سجلت في عام 2006 على لائحة التراث العالمي.

قلعة استراتيجية

هي واحدة من بين خمس قلاع صليبية ما زالت قائمة على الأراضي السورية، وتعد تبعاً لتقسيم القلاع بحسب الأهمية العسكرية، من القلاع الاستراتيجية التي شيدت بهدف حماية موقع هام يشكل ملتقى الطرق التجارية والعسكرية بين حمص وطرابلس وطرطوس، وشكلت عبر تاريخها تهديداً عسكرياً لأي جيش يمر بالمنطقة نظراً لموقعها وقوة تحصينها.

تسيطر القلعة على ثغرة حيوية بين أقصى الطرف الجنوبي لجبال اللاذقية وعلى طول سلسلة جبال لبنان، وهي مبنية على منصة طبيعية من الصخور الصلبة، محاطة بوادٍ شديد الانحدار منحها حماية طبيعية.

عُرفت في البداية بـ"حصن الأكراد" مكتسبة اسمها من الأكراد أول ساكنيها، وسميت باللاتينية "كراتوم"، كما أُطلق عليها "حصن فرسان المشفى Crac De L’opital" نسبة لفرسان القديس يوحنا الذين كانوا يسمون أيضاً بفرسان المشفى أو فرسان الأسبتارية، ومعروفة عالمياً باسم "Crac Des Chevaliers"، أما الاسم العربي المتعارف عليه الآن هو "قلعة الحصن".  

 

   

مراحل زمنية متتالية

كانت القلعة عبارة عن برج بسيط بناه بنو مرداس عام 1031، وأسكنوا فيه جالية عسكرية كردية حصنته حتى أصبح قلعة منيعة، ثم احتلها الصليبيون لفترة قصيرة في عام 1099 وهم في طريقهم للقدس، واستولى عليها كونت أنطاكية عام 1109، وتملكها من بعده كونت طرابلس عام 1112، الى أن تنازل عنها في عام 1142 إلى الأسبتارية، ومن خلالهم بدأ بنائها الفعلي بين عامي (1142-1271) فتحولت القلعة البسيطة في غضون قرن إلى إحدى أقوى القلاع الصليبية في الشرق.

بدأت هجمات العرب عليها منذ عام 1163، بدءاً بـ"نور الدين الزنكي" الذي حاول تحريرها مرتين وفشل، وقاومت عام 1188 حصاراً قصيراً من قبل "صلاح الدين الأيوبي"، حتى سقطت عام 1271 على يد قائد المماليك "الظاهر بيبرس" بعد حصار استمر حوالى 40 يوماً، وأُقيمت أعمال بناء وإصلاح واسعة تحت إشرافه، ومن بعده "الناصر بن قلاوون" الذي أضاف تحصينات كثيرة، فالقلعة كما تذكر المراجع لم تشيد على مرحلة واحدة بل بنيت على عدة مراحل في فترات زمنية متباعدة، فرضتها ضرورات التحصين أولاً، والزلازل الثلاث المدمرة التي ضربتها في الأعوام (1157-1170-1202).

عمارة التحصين

بُنيت القلعة وفقاً لأحدث التقنيات الدفاعية في القرن الثاني والثالث عشر الميلادي، باستخدام سلسلتان من الأسوار على شكل حلقتين يفصل بينهما خندق مائي في الجهة الجنوبية، الحلقة الخارجية عبارة عن سور من الحجر الجيري مزود بأبراج مدمجة بارزة شكلت خط الدفاع الأول عن القلعة، وتشمل عدة عناصر هندسية دفاعية منها الأبراج الدائرية وشرفات الرواسن والطلاقات وغيرها، وقد أُنشئت فيها إسطبلات للخيول من خلال الاستفادة من الفراغات الموجودة ضمن الأبراج الدفاعية، إضافة لقاعة الإسطبلات الضخمة المميزة بمداميك علوية كلسية وسفلية بازلتية، حيث اختار المعمار التأسيس على البازلت لقوة مقاومته للماء وعوامل الحت.

والحلقة الثانية عبارة عن حصن داخلي بجدران أكثر ارتفاعاً شكلت خط دفاع ثانياً، يتصل من الناحية الجنوبية الشرقية بالمدخل الخارجي للقلعة بواسطة صاعد ينعطف عند منتصفه انعطافاً حاداً، وهنالك برج مربع مشترك يربط بين الحصنين، ننفذ منه باتجاه الفناء المكشوف الذي يحتوي على قاعة اجتماعات ضخمة وكنيسة، وغرف طعام وفرن ومعصرة زيت، كما هنالك إسطبلات وغرف خاصة فاخرة لكبار الفرسان.

وقد تفنن فرسان الأسبتارية في بناء مدخل الحصن بحيث يمر الداخل، بعد أن يعبر البوابة الرئيسية، في ممر طويل ضيق يليه عدة بوابات محصنة تأتي بعدها دهاليز ذات منجنيقات تؤدي في نهايتها إلى الساحة الداخلية.

العمارة الغوطية Gothic architecture

نجد أثر عمارة "العصور الوسطى المُتأخرة" واضحاً في القلعة، من خلال الطراز الغوطي الذي ينبثق أصلاً من التكوينات البيزنطية وتكوينات عمارة الرومانسك، والناتج أيضاً من تعديلات في النسب كاستعمال العقد المدبب والأقبية المضلعة "ribbed vault" وهي تقنية تستخدم لتغطية المساحات الداخلية الكبيرة الحجم، حيث يتم تقسيم السطح إلى شبكات من خلال هيكل من الأضلاع القطرية المنحنية المتقاطعة، وتقسم إلى عدة أقسام بواسطة عقود عرضية وطولية، وهي سمة رئيسية من سمات العمارة الغوطية.

ونرى هذا الطراز واضحاً في الكاتدرائيات التي استخدمت فيها الأقبية ذات الأعصاب، والأقواس المدببة والتقليل التدريجي لمسطحات الحوائط المصمتة، وصولاً إلى نظام غني من الفتحات المزخرفة.

رواق الفرسان

تتصدر الباحة الرئيسية واجهة رواق غوطية الطراز، تبرز بنوافذها الطولانية الخمسة التي تتميز باستطالة فتحاتها، وزخارفها وحلياتها الغوطية، ويقسم كل منها إلى نصفين بواسطة عمود، أما الأقواس والروافد فترتكز على قاعدة مزينة بزخارف زهرية تذكر بالزخارف في "سانت شابيل" في باريس.

ثم تقودك بوابتان مقنطرتان إلى داخل الرواق المسقوف بقبوات متقاطعة تقسمها عقود مدببة، ترتكز على دعامات من أعمدة مركبة وجدران ساندة كعناصر حاملة للهيكل الإنشائي، ومنه إلى "قاعة الفرسان" التي تتألف من ثلاث قبوات ترتكز على أعمدة مزينة بزخارف لوريقات نباتية.

نجد كذلك في الجهة الشرقية من الباحة كنيسة صغيرة لم يبقى منها سوى سقفها المعقود، ويمكننا أن نرى تحت أحد أقواس الكنيسة جزءاً من لوحات الفريسكو التي تظهر الحياة الدينية والفروسية لأعضاء الاسبتارية، ويتصدر جدارها الجنوبي محراب أجوف ومنبر حجري، يشكلان بقايا المسجد الذي تحولت إليه الكنيسة في عهد بيبرس.

حكمة الحصن

أول ما يلفت انتباهك عند وصولك إلى القلعة كمية النقوش العربية المكتوبة بالقلم المغربي التي تزين واجهة الباب في الناحية الجنوبية الشرقية، وتعود لأيام الظاهر بيبرس، تبدأ بالبسملة ثم يذكر بعدها كيف فتح الظاهر القلعة بتاريخ 8 نيسان 1270.

ولوحة باللغة العربية على باب قاعة الفرسان، نَصُها "كل يعمل على شاكلته"، أما النقش الأبرز نراه على واجهة رواق قاعة الفرسان عبارة عن حكمة كتبت لتذكير الفرسان النبلاء بمهامهم في الدفاع وتجنب التكبر، وهي مكتوبة بحروف لاتينية في خمسة أسطر، السطر السادس مفقود، ترجمتها:

"إذا مُنِحْتَ الوفرةَ وأُعْطيتَ الحكمةَ وفوقهما الجمال، فلا تدع التعجرُفَ يتسلل إليك... لأنه يطيح بها جميعاً".

المزيد من منوعات