كانت مدينة "سبها" والجنوب الليبي مقصداً لقوافل المهاجرين الذين يأتونها من جنوب الصحراء طوال السنوات التي تلت عام الثورة الليبية، وأسهم انتشار الفوضى وغياب أجهزة الدولة في ازدهار الهجرة التي كوَّن من ورائها التجار ثروات طائلة. ولكن مع دخول الجيش إلى المدينة في عملية تحرير الجنوب، التي بدأت في السابع عشر من يناير (كانون الثاني) الماضي، تأثرت حركة المهاجرين في شكل مباشر بالوضع الأمني الذي تحسن أخيراً في المدينة وضواحيها.
كساد...منذ دخول الجيش
"خراب رزقنا"...عبارةٌ لا تفارق الشاب عبد العظيم. أ، وهو أحد العاملين في مجال تهريب المهاجرين، كتعبير منه عن تلك الحالة من الكساد التي أصابتهم منذ دخول الجيش، يقول عبد العظيم إن خط سير المهاجرين يمر من القطرون في أقصى الجنوب الليبي ومنها إلى "سبها"، وهنا يمكث المهاجرون فترة من الزمن قبل أن يُرحَّلوا شمالاً، في رحلات نجني من ورائها حوالي 300 دينار (120دولاراً أميركياً) للفرد الواحد، ولكن مع وصول الجيش وسيطرته على العديد من النقاط المهمة في الطريق، صار من الصعب أن نضمن تدفق المهاجرين كما نريد. وكان دخول القوات المسلحة إلى المنطقة الجنوبية علامة فارقة لملف الهجرة، وأعلن ضابط غرفة عمليات تحرير الجنوب عمر امراجع أن الجيش سيحارب ظاهرة الهجرة غير القانونية، وأن كل من يمارس هذه التجارة سيعرض نفسه للاعتقال والمساءلة القانونية، هذا التصريح دفع كثيرين من المهربين إلى إخلاء مقراتهم فوراً، وتسريح من لديهم من المهاجرين، ما يعدُ خسارة كبيرة لهم قد لا تُعوّض.
إذعان ومحاولة للتعايش والتكيف
ولعل معظم المهربين في الجنوب اقتنعوا بضرورة أن لا يقفوا أمام موجة الجيش العالية، وفضّلوا أن يتماهوا معها ريثما تتضح صورتها ومدى استمرارها وجديتها في التعامل معهم ومع أعمالهم، وعلى الرغم من أن بعضهم سرّح من لديه من المهاجرين إلا أنهم لايزالون ينتظرون استئناف نشاطهم قريباً، فمع استمرار المعارك في حوض مرزق، قد تخف قبضة الجيش في "سبها"، وهو ما يفسح المجال بتسيير رحلات جديدة، الأمر الذي تكرر مرات عدة ما أنعش آمال المهربين من جديد في إمكان أن يتعايشوا مع وجود الجيش، بمعنى أن يتمكنوا من تسيير رحلاتهم إلى الشمال بهدوء وبعيداً من أنظار الجيش، من دون أن يدقّق الأخير كثيراً في عملهم، وهي فرضية يريد المهربون أن تتعزز لِتُنْعِشَ تجارتهم من جديد ولو بدرجةٍ أضعف من ذي قبل.
عودة لجهاز مكافحة الهجرة...تضييق الخناق
بدأ الجيش منذ دخوله "سبها" في تفعيل عديد المؤسسات الإدارية التي ظلت سنوات معطلة من العمل، من بينها جهاز مكافحة الهجرة الذي توقف منذ العام 2014، إذ دعت القوات المسلحة أفراد هذا الجهاز إلى العودة إلى عملهم من جديد، وهو عمل يشمل ضبط واحتجاز وترحيل المهاجرين الذي يدخلون البلاد في شكل غير قانوني، لأجل ذلك تتوافر لديه مراكز إيواء تستطيع ضم أعداد كبيرة منهم، وبالتالي سيضطر هؤلاء إلى الاختباء بعيداً من أنظار دوريات هذا الجهاز، ولن تنطلق قوافلهم إلى "سبها" بالدرجة نفسها من الأريحية التي كانت تصل فيها إلى المدينة من قبل.
أحلام المهاجرين تتأجّل وبعضها تحطّم
من المفترض أن أكون في إيطاليا الآن...هذا ما يقوله يوسف تراولي وهو مهاجر من بوركينا فاسو، وصل إلى "سبها" عبر الصحراء قبل أيام من دخول الجيش إليها، وقد دفع أموال رحلته من الصحراء حتى إيطاليا، ولم يكن يعتقد أنه سيبقى في "سبها" كل هذا الوقت، يقول إن المهربين الذين اتفق معهم لم يستطيعوا تسيير رحلة إلى الشمال بسبب تشديد الجيش وكثرة الدوريات على الطريق، ولكن سمعتُ أن بعض المهربين سيّر رحلاتٍ محدودة ولكنها محفوفة بالمخاطر وغير آمنة، يخشى يوسف أن يتمّ اعتقاله وبذلك سيعود إلى نقطة الصفر من جديد، كما أنه لن يستطيع الانتظار طويلاً، فالأمور لا تبدو واضحة، ويخشى أن يشدّد الجيش قبضته في فترة انتظاره، حتى يصبح السفر شمالاً خياراً مستحيلاً بعد أن كان خياراً ممكناً مع نسبة خطر عالية.
الكساد قد يطاول الجميع
تلك الحيرة التي يعيشها يوسف تترجم المشهد الصعب الذي يمر به كل من له علاقة برحلات المهاجرين، فالمهرب لا يستطيع استئناف عمله في الشكل الذي تعوّده، وسائقو السيارات الصحراوية يضيق عليهم الخناق كل يوم بسبب دوريات الجيش التي تنزع تعتيم الزجاج وتطالبهم دوماً ببيانات أوراق مُلكية سياراتهم، حتى أصحاب بيوت الدعارة التي يقوم نشاطها على المهاجرات تعيش أوقاتاً عصيبة، وصار المهاجرون لا يرتادونها بالزخم نفسه، وهو ما يهددها بكساد لم تعرفه منذ أكثر من ثماني سنوات، إضافة إلى أصحاب المحلات التجارية التي كثرت في أماكن إقامة المهاجرين، والتي أيضاً خفّت حركتُها وضعفت القوة الشرائية لديها في شكل ملحوظ.
تغيير طرق التهريب هل يجدي نفعاً؟
إلى الجنوب من "سبها" توقّفت حركة المهاجرين تماماً من طريق القطرون (360 كم جنوب سبها)، إذ إن احتدام المعارك بين الجيش وأخصامه في مرزق وأم الأرانب (جنوب)، جعل من هذه المناطق غير آمنة لعبور قوافل المهاجرين، ولم يتبقّ أمام هؤلاء إلا الطريق الغربية الآتية من غات (500 كم جنوب غرب سبها)، وهي طريق آمنة من الاشتباكات غير أن دوريات الجيش تجوبها في شكل مكثف، وهو واقع جديد يجب أن تعتاده قوافل المهاجرين وتتعايش معه. يقول عبد السلام أحمد وهو سائق ينقل المهاجرين عبر هذه الطريق، إن التغيير الأخير طبيعي، ويجب ألا يقلق منه المهربون ومَن في حكمهم، فقد كان الجميع يعملون منذ أيام القذافي على الرغم من القبضة الأمنية الشديدة، فلا مناص من الاعتياد على الحالة الجديدة، يقول عبد السلام "علينا أن ننسى تلك الفترة من الازدهار التي عشناها منذ العام 2011 وحتى دخول الجيش، هذا التعايش مع الوضع الجديد خيار متاح الآن قد لا يتوافر مستقبلاً، خصوصاً إذا ما نجح الجيش في حسم معارك الجنوب".
حركة المهاجرين تجارة دولية أكبر من الليبيين
بطبيعة الحال، لن يستطيع أحد إيقاف الهجرة إلى أوروبا عبر ليبيا، فهي تجارة عالمية أكبر من ليبيا ومن مهربيها وأجهزتها الإدارية والمحلية، خصوصاً أن البلاد تعيش حالة من الانقسام، حتى في عزِّ أيام حكم القذافي فإنه لم يستطع إيقافها نهائياً، بل استغلها في أواخر حكمه كورقة للضغط على أوروبا، اليوم، ومع ظهور الجيش في مشهد الجنوب الليبي أكبر معاقل الهجرة، أصبح لزاماً على الجميع السعي إلى وضع آلية عملٍ تفضي إلى ضبط هذا الملف ومعالجته.
مؤسسات المجتمع المدني...دور غائب
يقول الناشط المدني أحمد الفرجاني، يقع على عاتق مؤسسات المجتمع المدني عبء التوعية في مجال الهجرة، والتي تقوم على أساس توفير سبل حياة صحية جيدة للمهاجرين طوال فترة وجودهم حتى يتمّ البت في أمرهم، ومساعدة أجهزة الدولة على حصرهم والتواصل مع بلدانهم لبحث مصيرهم وكيفية عودتهم، وإلى أن يحصل ذلك، يجب أن يعيشوا في أوضاع إنسانية جيدة لا تدفعهم إلى امتهان الجريمة والدعارة أو الانجرار إلى الجماعات المسلحة. ويمرّ ملف الهجرة إلى أوروبا عبر الجنوب الليبي بمرحلة دقيقة، ستكون ذات أثر كبير في حجم الهجرة وما يرافقها من مآس وأحزان يعيشها هؤلاء دوماً، ولعلَّ القوات المسلحة أصبحت تدرك ذلك، ما قد يدفعها إلى ممارسة المزيد من الضغط على أرباب هذه التجارة في الفترة المقبلة، بعد انتهاء عملياتها العسكرية وإحكام سيطرتها على الحدود الليبية في الجنوب.