يشتد الخناق أكثر على لبنان وقواه السياسية بسبب ربط الدول المعنية بمساعدته اقتصادياً أي دعم لماليته العامة، بقيام حكومة تضع في الاعتبار مطالب الحراك الشعبي وتلبي احتياجات اللبنانيين، وقادرة على تنفيذ الإصلاحات الاقتصادية.
ومع التجاذب على تأليف الحكومة برئاسة حسان دياب حول الحصص وصيغتها، هل هي من اختصاصيين مستقلين فعلاً أم مختلطة من اختصاصيين تسميهم الأحزاب النافذة وسياسيون من الصف الثاني، يبدو أن هذا التجاذب يتجاهل المعايير التي يمكن أن تشجع المجتمع الدولي على تقديم الدعم للبلد المتأزم مالياً واقتصادياً للحيلولة دون انهياره الكلي.
تضييق الخناق
وتلاحظ أوساط سياسية تراقب الموقف الخارجي وموقع لبنان من المشهد الإقليمي، أن التطورات تزيد من تضييق الخناق على البلاد، ما لم يسعَ قادته إلى النأي به عن صراعات المنطقة قدر الإمكان، لأن انخراطه فيها عبر سياسة "حزب الله" وإيران سبق أن أسهم في تدهور أوضاعه الاقتصادية، بالإضافة إلى العوامل الداخلية التي كانت في أساس هذا التدهور، من الفساد والهدر، إلى نهب أموال الخزينة عبر المحاصصة والصفقات وسوء الإدارة واهترائها، بعد تراكم تعطيل المؤسسات الرقابية.
ويقول أحد الوزراء السابقين الذي كان معنياً بالمعالجات الاقتصادية لـ"اندبندنت عربية" إن "بعض الحلول للعوامل الداخلية للأزمة كانت تتوقف عند أبواب التركيبة الحاكمة المقيدة بالتحالفات، التي تفرضها الخيارات الإقليمية، ومن ثم فإن الوقوف في وجه الفساد على المستوى السياسي وخفض الهدر والحد من الصفقات، كانت أموراً تحول دونها أحياناً حاجة فرقاء لغض النظر عنها، نظراً إلى أولوية تحالفهم مع مرتكبين ومسؤولين عن الصفقات، لأسباب تتعلق بالصراع الإقليمي.
العامل الخارجي ونقص السيولة
وإذا كان من المعروف أن أسباب تراجع الوضع الاقتصادي في لبنان في ظل نفوذ "حزب الله" على رئاسة الجمهورية ووزارة الخارجية، هو توقف الدول العربية الخليجية عن مساعدته وحظرها سفر رعاياها إليه وامتناعها عن الاستثمار فيه، فإن عوامل أخرى غير مباشرة جعلت البلد يدفع ثمناً باهظاً، فهو تحول إلى محطة التفاف على العقوبات ضد إيران والنظام السوري.
تراجعت السيولة النقدية بالدولار الأميركي بعد أن أخذ رجال الأعمال السوريون التابعون للنظام يتزودون بالعملة الخضراء من الصيارفة اللبنانيين، مقابل الليرة السورية منخفضة القيمة، لنقلها إلى المصرف المركزي السوري الذي عانى شحاً كبيراً بسبب العقوبات. ونظّم مؤيدو النظام حملة منذ بداية الصيف الماضي تشجع المودعين السوريين في المصارف اللبنانية على اختلافهم، على سحب أموالهم منها بحجة أن لبنان مشرف على إفلاس، فضلاً عن أن لبنان كان موئلاً لعشرات شركات "الأوف شور" المملوكة من سوريين ولبنانيين (كغطاء) لاستيراد المحروقات على أنواعها والكثير من البضائع، لا سيما مواد البناء لبعض المشروعات الممولة من أغنياء الحرب التابعين للنظام. وهي بضائع دخلت لبنان وخرجت منه إلى سوريا، لكن تمويلها حصل من تحويلات أموال كانت في المصارف اللبنانية.
وهذه الشركات سرعان ما كان يجري تصفيتها لتنشأ غيرها، تلافياً للعقوبات الأميركية التي تحظر التعامل مع الحكومة السورية، كما أن شركات وهمية فتحت اعتمادات دين بمئات ملايين الدولارات لمصلحة مشروعات في سوريا، ولم يُسدد إلا جزء من قيمتها.
وإذا أضيف إلى كل ذلك النفط الإيراني المهرّب، الذي تولى "حزب الله" تسويقه في لبنان بدلاً من الأموال النقدية المخصصة لتمويله من طهران، ومن ثم تحويل ثمنه إلى العملة الصعبة لتخزينه، فإن النزف في الدولار بلغ أرقاماً عالية خرجت من سوق التداول العادية، وبعض المعنيين بالقطاع المصرفي والأسواق المالية يقدر حجمها بما يتراوح بين ثلاثة وخمسة مليارات دولار أميركي، فضلاً عن خسائر مداخيل الجمارك للخزينة، ولم يكن القرار السياسي موحداً لتلافي كل ذلك، نظراً إلى أن الفريق الحليف لمحور الممانعة كان يستفيد من رجحان كفته في السلطة.
صيغة الحكومة والالتفاف على العقوبات
ويشرح ما تقدم سبب تمسك حلفاء سوريا وإيران لا سيما قوى 8 مارس (آذار)، بأن تضم الحكومة الجديدة ممثلين للأحزاب السياسية، وتجاهل مطلب الحراك الشعبي المجيء بحكومة أخصائيين لا ينتمون إلى أحزاب السلطة، فوقف التهريب يتطلب مثلاً، قراراً سياسياً بإقفال ثلاثة إلى أربعة معابر تسمى "استراتيجية" يسيطر عليها "حزب الله" في البقاع الشرقي، ووقف نشاط المافيات التي تتولى إدخال البضائع من دون دفع الرسوم الجمركية المتوجبة على معابر شرعية (المرافئ)، بعضها لمصلحة "المقاومة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وسيضع قيام حكومة برئاسة حسان دياب، يسمي وزراءها قادة الأحزاب، لبنان في الحلقة المفرغة نفسها، استنزاف الاقتصاد اللبناني عبر الالتفاف على العقوبات، جراء عجز السلطة عن تحييد لبنان عن صراعات المنطقة، مقابل انخفاض القدرة على ضخ أموال من الخارج لإعادة تحريك الاستثمار، لأسباب سياسية، فالإدارة الأميركية الحالية تخلت منذ أشهر عن الافتراض القائل بأن العقوبات على "حزب الله" وإيران يجب ألا تؤذي الاقتصاد اللبناني، إذ إنها لم تعد تكترث بالأضرار التي تصيب اللبنانيين بسبب هذه العقوبات.
وسيزيد تصاعد العقوبات من صعوبة الخروج من هذه الحلقة المفرغة، وآخر مظاهرها التعديلات الجديدة التي أدخلها الكونغرس الأميركي في 20 ديسمبر (كانون الأول)، على قانون "سيزر لحماية المدنيين السوريين"، الصادر منتصف نوفمبر (تشرين الثاني) عام 2016، والذي يفرض عقوبات على نظام بشار الأسد، ويحظر على شركات ومستثمرين سوريين وأجانب (اللبنانيون من بينهم حكماً) التعامل مع الحكومة السورية، والمصرف المركزي السوري وكذلك عقوبات على الحكومتين الروسية والإيرانية، وأي شخص أجنبي يقدم مساعدة أو دعماً مالياً أو تكنولوجياً أو عملياً أو معلومات للحكومة السورية أو لأي جهاز ومؤسسة تديرها الحكومة أو أي شخصية سياسية سورية.
كما يطلب القانون بنسخته المعدلة من الرئيس الأميركي أن يقدم تقريراً لمجلسي النواب والشيوخ خلال ثلاثة أشهر، عن الجهة الخارجية التي تبرم عقوداً عسكرية وتنظم مرتزقة أو أي قوة شبه عسكرية تنشط عسكرياً على الأراضي السورية، لمصلحة الحكومة السورية أو الاتحاد الروسي أو حكومة إيران. ويحظر القانون الأميركي بيع أية معدات أو تكنولوجيا للحكومة السورية أو مساعدتها على إنتاج الغاز الطبيعي أو النفط والمشتقات النفطية أو بيع قطع الغيار لطائرات تستخدم لأعمال عسكرية على الأراضي السورية، للحكومة أو أي شخص أجنبي يعمل في سوريا أو في أي منطقة خاضعة للحكومة السورية أو لقوات أجنبية شريكة للحكومة.
حظر إعادة الإعمار في مناطق النظام
وتنص التعديلات الجديدة على قانون "سيزر" على العقوبات الواردة في قانون آخر عنوانه "لا مساعدات لنظام بشار الأسد من أجل إعادة الإعمار"، الذي صادق عليه مجلس النواب ويُنتظر إقراره نهائياً في مجلس الشيوخ. ويفرض "سيزر" عقوبات ضد أي مؤسسة تقدم خدمات إنشائية وهندسية لمصلحة حكومة سوريا. وتشمل العقوبات في الميادين المذكورة منع تأشيرات الدخول إلى الولايات المتحدة وسحبها في حال وجدت، وتجميد الأملاك في أميركا للشخص المشتبه بدوره في سوريا، ومنع التحويلات المالية إلى أميركا أو عبرها وحظر تعامل أي شخص أميركي معه.
وسيزيد هذا القانون الرقابة على رجال أعمال لبنانيين ينشطون في سوريا ويشاركون سوريين في عدد من المشروعات الإعمارية، فضلاً عن أن أموال رجال أعمال سوريين مقربين من النظام المودعة في مصارف لبنانية ستعرضها للعقوبات، كذلك شركات "الأوف شور" التي تستورد سوريا عبرها، بينما ستكون المصارف اللبنانية الأربعة التي لها فروع في دمشق وغيرها، في وضع حرج إذا تعاملت مع البنك المركزي السوري ورجالات النظام.
عملياً يؤدي قانون "سيزر" إلى عزل سوريا عن لبنان في التعاملات المالية التي ستتقلص كثيراً، بينما الحدود بين البلدين مفتوحة على مصراعيها لتنقلات مقاتلي "حزب الله" والتهريب على أنواعه. وسيسعى حلفاء دمشق إلى الحصول على التغطية اللبنانية السياسية والرسمية لتلك التعاملات المحظورة على رجالات النظام، وهذا أحد أسباب الدعوة المستمرة من الحزب و"التيار الوطني الحر" إلى استعادة حرارة العلاقات مع الحكومة السورية، الأمر الذي كان يعارضه الرئيس المستقيل سعد الحريري. فهل ستقبل به حكومة دياب؟