Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"البوابات" مسرحية تستعير شخصياتها... من قاموس الجنون السوري

عودة الى الدراما النفسية في ظل القهر والاحلام الخائبة

من مسرحية "بوابات" السورية (اندبندنت عربية)

يمزج عرض "البوابات" بين عالمي الحلم والواقع، مُستلهماً حياة رجلين وامرأة يعيشون داخل مخيلة فتاة تقضي أيامها في مصحٍّ نفسي، وهي ترسم بورتريهات للشخصيات الثلاث التي تحلم وإياهم بالسفر إلى أوروبا، ليكون العرض الذي أخرجه وكتبه أمون الخطيب بالتعاون مع نسرين فندي لافتاً من حيث تقديم شراكة من هذه الأخيرة في مجالي الكتابة والتمثيل، وعلى مستوى إعادة مسرح "السيكودراما" إلى الواجهة. فالدراما النفسية التي قدّمها كل من ممثلي العرض (إبراهيم عيسى، ونسرين فندي، ورشا الزغبي، وسليمان رزق) لعبت على عناصر التوحد، وسحر الشخصية، وقوة حضورها على الخشبة، مراهنةً على ثنائية المؤدي والمتلقي لتمرير رسائل صادمة عن حال السوريين اليوم. لاسيما أصحاب الكفاءات الفنية الأكاديمية، والذين قدمهم عرض "البوابات" عبر نماذج الممثلة والعازف الشاب وموظف دار النشر، مضافاً لها شخصية الرسامة الصامتة.

هذه الشخصيات المتخيّلة منها والواقعية تعيش أزمة نكران حادة لواقعها المأزوم، ولإهمال ذوي الشأن لها على مفارق الهجرة أو الانتحار، على الأقل هذا ما كان واضحاً في المونولوجات المطوّلة على ألسنتها، سواء عبر الإقصاء واحتلال طبقة من عديمي المواهب للساحة الفنية، أو حتى عبر الإهانات التي يتعرض لها موظف دار النشر على أيدي الأمن أمام زوجته وابنه الصغير. مواقف عديدة ينبشها مخرج العرض على هيئة مرافعات وخصومات بين الشخصيات الأربع، مبرراً ذلك بأن القصة تجري على السنة مجانين، أو مرضى نفسيين، يتنكبون حقائبهم ويجلسون في قاعة انتظار طائرة لا تأتي.

من هنا بدا الطرح مواتياً لثراء العالم الداخلي لهذه الشخصيات، والتي ناقشها "البوابات" وفق سينوغرافيا مختزلة لكل من "ريم الشمالي ونزار بلال" وبالتعاون مع تقنيات وموسيقى "رامي الضللي" حيث دأب هذا الأخير على رسم فضاءات موازية للقصة من خلال إسقاطات ماهرة لمادة غرافيكية عن مدن أوروبية ووجوه وشوارع من مدينة دمشق. في هذا الفراغ تتحرك شخوص المسرحية مصيخةً السمع لنداء أخير على طائرات تأخذهم من الجحيم نحو الحياة والحرية، تماماً كما جاء في لازمة استخدمها الممثلون مراراً في الحوار المكتوب لهم: "حلوة هولندا... حلوة فرنسا... حلوة إيطاليا، وروسيا كمان حلوة... بس برد!".

طاقة الممثل

يذهب العرض بهذا الشكل نحو اختبار من نوع آخر لطاقة الممثل وكثافته النفسية في عكس صراع غير معلن، صراع داخلي تبدى في لسان حال الشخصيات، من دون أن ينجح في تفعيل علاقات بينها، مفضلاً الإبقاء على شرح كل ممثل لماضي شخصيته، وما مرت هذه الشخصية فيه من مصائب وعزلة وإيمان بالأمل كحل لمشاكلها، لتجد أن الأمل كان عبارة عن عقار سام يتناوله الحمقى للشفاء من الحياة وإلى الأبد. الأمل الذي حوّل تلك الشخصيات في العرض إلى فرائس للجنون وضحايا للانتظار؛ طرح بقوة اغتراب السوريين في الداخل عن محيطهم، ورغبتهم في الرحيل عن البلاد حتى ولو على متن طائرة من ورقٍ للرسم.

في المستوى الآخر لعب مأمون الخطيب على ثنائيات الإضاءة التي صممتها ريم محمد متكئاً على ملء الفراغ بطاقة الممثل وبلاغة سردياته المكتوبة، إذ تظهر الشخصيات في جلوسها الطويل على كراسٍ خشبية متماثلة، وأمامها حقائب سفر بأحجام مختلفة، محاطة برسوم لعشرات الوجوه، مرةً على جدران الخشبة، ومرةً عبر تقديمها بالغرافيكس، وصولاً إلى مماحكات صغيرة هنا وهناك بين هذه الشخصيات، والتي لا تلبث أن تفصح عن مآسيها الغابرة، وهروبها من ماضيها القاتم، نحو اعترافات هستيرية، أرادها كل من الخطيب وفندي متباينة في مساحاتها المعطاة لها، فالمسافرون (المرضى) يشرعون في نهاية العرض بفردِ أكمام أثوابهم الطويلة والتي عادةً ما تُرتدى في المصحات النفسية. ومع هذا الكشف يشرعون في لملمة متاعهم، ووضع حقائبهم في داخل بعضها بعضاً، لتصبح حقيبة واحدة، حقيبة مليئة بالأحزان والهزائم الفردية، لتصبح في لحظة درامية متصاعدة هزيمة لمجتمع بأكمله، أحالته سنوات الحرب الطويلة إلى ما يشبه عصفورية يقبع في ظلها الجميع.

إسقاط قد يبدو قاسياً ومفارقاً لجهة التقاط زاوية نظر مختلفة لما آل إليه حال آلاف الشباب السوري، حيث حرص العرض على تمويه مقولته، مولّفاً بين كتابة المؤلف وكتابة الممثل. الكتابة مباشرةً للخشبة، بدلاً من العمل على أدب مسرحي يبقى للقراءة، أكثر منه للعمل على منصة مسرح. هكذا ينجز العرض الذي أنتجه المسرح القومي في دمشق هجائية من نوع خاص، دامجاً بين منامات وكوابيس وأضغاث أحلام لنصل معه إلى ذروة الفجيعة والخوف من القادم. إنه احتجاج على موت الأحلام وانقراضها، وتمسكاً شاعرياً بالحب في زمن الاعتداء على المساحة الشخصية، حيث لا فرق بين شخص مات بالرصاص وآخر مات بمخدرات الطموح والرغبة في تحقيق الذات.

بهذا المعنى يبدو عرض "البوابات" عودة إلى أعمال ذات نكهة مسرحية أمست شبه غائبة اليوم في ريبرتوار الحرب السورية، وذلك بعد طغيان نوعية من عروض مسرحية مُتلفزة على صعيد معالجة الحوار والقصة والديكور والتقيد الصارم بحذافير الواقع. عروض أبعدت المسرح عن شرطه الفني الجوهري، فجعلته أقرب إلى لغة المسلسل الرمضاني منه إلى مادة تأخذ مخيلة الجمهور بحسبانها، فلا تجعله يتيماً أم قراءة أحادية للعرض، بل تترك الباب مفتوحاً للتأويل والتأمل، فعلى الرغم من غياب البنية الدرامية في "البوابات" والتفكير أكثر بالشكل الفني، إلا أن ذلك لم يمنع من قراءة هذا العمل من داخله، ووفقاً لطلاقة خطابه، ورغبته الواضحة في تحقيق تمايز عن التجارب السائدة.      

المزيد من ثقافة