Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

 الافغاني عتيق رحيمي:  الغرب حوّل رواندا الى اتنيات تتقاتل... وقدري هو التشرد

"سيدة النيل" عن مجزرة التوتسي... والمقبل اقتباس لكتاب أمين معلوف "موانئ الشرق"

المخرج والروائي الأفغاني عتيق رحيمي (يوتيوب)

يجمع الأفغاني عتيق رحيمي بين الأدب والسينما. هذا الفائز بجائزة "غونكور" عن "حجر الصبر" عام 2008، لطالما رأيناه يقفز بين الكلمات والصور، مؤكداً مراراً: "عندما أصوّر فيلماً إني كاتبٌ، وعندما أكتب فأنا سينمائي". اليوم، يعود رحيمي بفيلمه الروائي الطويل الثالث في عنوان "سيدة النيل" الذي انطلقت عروضه في مهرجان تورونتو واستعاده مهرجان الجونة في سبتمبر (أيلول) الماضي. من خلال الإنعام في تفاصيل الحياة اليومية في مدرسة كاثوليكية حيث يتم تأهيل بنات الطبقة الراقية، يعاين العمل مسببات الإبادة الرواندية التي حدثت عام 1994. ما الذي حمل مخرج مستبعد عن وطنه إلى رواندا لتوثيق الخلفية السياسية والظروف الاجتماعية للمقتلة؟ هذا السؤال وغيره من الأسئلة يجيب عليها رحيمي في المقابلة الآتية، حيث يكشف أيضاً عن استعداده لاقتباس "موانئ الشرق" للكاتب اللبناني الفرنكوفوني أمين معلوف.

سبع سنوات مرت على فيلمك الأخير "حجر الصبر". أين كنت طوال هذه الفترة كلها، وما الذي شغلك؟ 

اشتغلتُ على مشروع سينمائي مع المنتج ماران كارميتز، ولكن لم يتحقق. لقد ألغي قبل أسبوعين من بداية التصوير، لأسباب إنتاجية. أحداث الفيلم كانت تدور في باريس وتتمحور على طالب لجوء. طالب اللجوء هذا هو شاب أفغاني، وكنا نرى تشرده والصعوبات التي يتعرض لها في سعيه للإقامة في فرنسا. كلّ شيء كان جاهزاً، إلا أنه تم تأجيل التصوير لـ3 أسابيع، وفي تلك الأثناء حدثت مجزرة "شارلي إيبدو"، ولم يكن في مقدورنا التصوير، لأن التصوير كان سيجري في الحي الذي تقع فيه مكاتب "شارلي إيبدو". على مدى أشهر عدة، لم يكن ممكناً التصوير في ذلك المكان. وبما أن جو الفيلم كان يتطلب تصويره في الشتاء، فكان ينبغي والحال هذه انتظار الشتاء التالي. فكان من المستحيل التريث، لأنني كنت مشغولاً بفيلم آخر أنوي تصويره في الشتاء التالي. لذلك، لم أستطع إنجاز هذا المشروع. في غضون ذلك، كتبتُ سيناريوين، الأول هو الفيلم الذي شاهدته أمس هنا أي "سيدة النيل"، والثاني سيناريو فيلم أستعد لتصويره وسيكون اقتباساً لرواية أمين معلوف "موانئ الشرق". هذه أول مرة تُقتبَس فيها رواية لمعلوف.

ما الذي شد اهتمامك في كتاب أمين معلوف؟

بدايةً، كيف يمكن ألا نهتم بأمين معلوف؟ (ضحك). انه رجل متنور. وأكثر ما يجذبني فيه هو أنه ينظر في عمق تاريخ المنطقة وفي عمق جذوره. يلقي نظرة معمّقة على العلاقات بين الشرق والغرب، وبين المسيحية والإسلام، وبين اليهودية والإسلام، لدرجة أنه يجعلنا نفهم ما الذي حدث في ماضينا. هذا أمر غاية في الأهمية. "موانئ الشرق" كتاب فيه ما يكفي من التعقيد، إذ ينطلق السرد عام 1941 في فرنسا، أي خلال الحرب العالمية الثانية، وينتهي عام 1973، عشية اندلاع الحرب الأهلية في لبنان. تخيل سرد لكلّ هذه الحقبة الزمنية الشديدة التعقيد. والغنية بالأحداث والمآسي، وغنية بلحظات البهجة والسلام. هذا أكثر شيء لفتني في الحقيقة. هذا الغوص في عمق تاريخ المنطقة. 

هذه الحقبة حضّرت أيضاً لما حصل لاحقاً في العقود اللاحقة. وهذا ما تصوّره في "سيدة النيل".

بالتأكيد. ينتهي سرد "موانئ الشرق" عام 1973، أي في السنة التي تبدأ فيه أحداث "سيدة النيل". أما بالنسبة لـ"سيدة النيل"، فهو اقتباس رواية لكاتبة رواندية اسمها شولاستيك موكاسونغا صدرت عام 2012، وفازت بجائزة رونودو، وتروي التحضير للإبادة التي حدثت للتوتسي عام 1994. هذه الرواية تكشف عملية التطهير التي بدأت تحدث داخل المؤسسات والإدارة والتعليم في رواندا. وهذا ما أدى إلى الإبادة. 

الفيلم دراسة هادئة ومشبّعة بالتفاصيل للممارسات التي قادت إلى الإبادة.

نعم، إنه نوع من توثيق لما يجري داخل مدرسة. هكذا هو الكتاب. وددتُ أن أبقى وفياً له على المستوى البنيوي. ولكن غيرتُ الخلفية، والعلاقات بين الشخصيات، وأشياء كثيرة. أنا لستُ مؤرخاً، ولم يكن في ودي أن أقدّم استعادة تاريخية لهذه المرحلة من تاريخ رواندا، وإلا كنت أنجزتُ فيلماً وثائقياً. ما كان يهمّني تحديداً هو مخيلة الشعب الرواندي، وكيف أن شناعة كالتي ارتُكبت تركت آثاراً عميقة في الناس. أردتُ أن أؤكد كيف أن الاستعمار قسم الشعب الرواندي. وكيف أن هذا الاستعمار نفسه من خلال شخصية فونتناي الملتبسة أشد الالتباس (أبيض يعمل في استخراج البن) تبث الغيرة بين أفراد الشعب الرواندي. وهذا ما حدث بالضبط في رواندا. الفيلم أقرب إلى الرمز والشاعرية منه إلى درس التاريخ. في البدء، أرى جيلاً كاملاً يعيش في البراءة، في الحلم، من خلال مجموعة من الفتيات. لكنني أرى أيضاً كيف أن هذا الحلم يتكسّر، بسبب السياسة والدين. كيف أن البعثات الدينية أفسدت كلّ شيء في رواندا. 

في المنطقة التي أعيش فيها (الشرق الأوسط)، ليس الجميع ضد الاستعمار الغربي. هناك مَن يقارنه مع الوضع الحالي فيخرج باستنتاجات إيجابية إلى حد ما.

جريمة كبرى أن يُحرم شعب ما من اختيار مصيره. ما عدا ذلك، لا شك أن الاستعمار جاء بالكثير من الإنجازات إلى البلدان التي أقام فيها. أوجد التواصل بين الحضارات. وبين الثقافات. وبين الشعوب. ولكن بأي ثمن؟ يجب ألا ننسى ذلك. في رواندا، حتى القرن التاسع عشر، الطبقات الاجتماعية الثلاث، التوتسي والتوا والهوتو، لم تكن تُعتبر إثنيات. كان هؤلاء جميعهم يعيشون كشعب واحد بعضهم مع البعض. الألمان هم الذين صنعوا الانقسام. قالوا لهم: أنتم لستم طبقات؛ كلّ جماعة منكم تنتمي إلى إثنية مختلفة، إلى عرق مختلف. اخترعوا ميثولوجيا، وهذا ما أريه من خلال شخصية فونتناي. للأسف، كل العبادات تستند إلى ميثولوجيا. انظر إلى الحرب العالمية الثانية: اخترع النازيون أسطورة العرق الآري. وثم راحوا يبيدون الناس. من السهل جداً النظر إلى التاريخ من وجهة نظر رجعية، كالقول مثلاً إن الاستعمار كان جيداً وبلورة الحنين إلى زمن غابر. يجب ألا ننسى أن ما يحصل في هذه البلدان، سواء في رواندا أو أفغانستان أو لبنان، هو نتيجة الاستعمار. لنأخذ أفغانستان، البلد الذي أتحدر منه، لو لم يغذوه السوفيات، لما شهدنا ولادة موجة الإسلاميين، من الطالبان وغيرهم.  

"سيدة النيل" يتطوّر على ثلاث جبهات: السياسية والدينية والكولونيالية. 

هذا الهاجس يرافقني منذ فترة طويلة. من اللافت أن البلدان التي ليس لها أي شأن جيوسياسي، تصبح ألاعيب جيوسياسية. انظر إلى أفغانستان، بلاد فقيرة ولكن يتنازعها أعظم القوى في العالم. هذه مأساتنا. كما كانت مأساة لبنان أيضاً. فجأةً، وجد نفسه وسط حرب جيوسياسية عالمية. 

نرى جيداً أننا أمام فيلم يحمل توقيع كاتب روائي. أتوافق؟

بالتأكيد. مَن يقرأ كتبي يقول لي دائماً بأنها تأليف سينمائي (ضحك). قلتها وأكرر: عندما أصوّر فيلماً إني كاتبٌ، وعندما أكتب فأنا سينمائي. تستهويني هذه الرحلة بين الكلمة والصورة. لكن، في الحين نفسه، ينطوي الفيلم على مَشاهد سينماتوغرافية من المستحيل نقلها بالأدب.

دعني أتكهّن عن أي مَشاهد تتحدّث: مشاهد الإبادة في آخر الفيلم؟  

بالضبط. هذه مَشاهد قليلة ولكنها معبّرة. ليس فقط هذه المشاهد، هناك مَشاهد تتضمّن موسيقى لا يُمكن سردها بالكلمات. في المقابل، أعلم جيداً أن التعليق الصوتي الذي جاء شاعرياً يمد الفيلم بطابع أدبي. في حين أننا ننسى أن الفن الوحيد الذي نجد فيه التعليق الصوتي (تعليق شخص غائب عن الصورة) هو السينما. لا يوجد مثل هذا الشيء إلا في السينما. التعليق الصوتي تعليق سينمائي، ولكن غالباً ما يُنسب إلى الأدب لأنه يتعامل مع الكلمات.

صورة مدير التصوير تييري أربوغاست جد رائعة.

هذا هاجسي في كل أفلامي، فاستعنتُ بتييري أربوغاست. مونتاج الصورة استغرق ثلاثة أشهر، وكذلك مونتاج الصوت. الصوت مهم جداً عندي. 

قل لي، هل في استطاعتك العودة إلى أفغانستان؟

ذهبت إلى أفغانستان قبل سنتين. بما إني تلقيتُ تهديدات، فالناس لا يحبّونني كثيراً فيه، خصوصاً الأغبياء منهم. أرغب كثيراً في العودة وملاقاة أصدقائي الأفغان، ملاقاة وطني. أشتاقُ إلى هذا كثيراً، ولكن لا أستطيع أي شيء حيال هذا. حتى عندما أذهب إلى رواندا، آخذ معي شيئاً من جذوري الأفغانية. على سبيل المثال، ترى في "سيدة النيل" رجلاً يحمل باباً أزرق. هذا حاضر في كلّ أفلامي: رجلٌ يعبر الشاشة وهو يحمل باباً. لي هواجس أخرى أيضاً، جد أفغانية، أحملها معي من مكان إلى آخر، ومن فيلم إلى آخر.

ألم تجد في فرنسا حيث تقيم وطناً جديداً؟

عندما نتحول إلى لاجئين تصبح لاجئين إلى الأبد. نصبح مشردين. ولكن هذا لا يزعجني إطلاقاً، بل على العكس. فهذه كانت فرصة لي لاكتشاف العالم، ورؤية ماذا يحدث في جميع أنحائه. والتعرف على البشر. بلدك، الوطن، الهوية، هذا كله ثمرة المصادفة وليس قدراً. قدري أنا هو التشرد. 

المزيد من ثقافة