Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

بعد حل "المؤتمر الوطني" بالسودان... براغماتية العودة

هل تمت "أخونة" الدولة في الانقلاب العسكري عام 1989 أم تمَّت عسكرتها؟

عمر البشير اطاح الحكم الديمقراطي بانقلاب العام 1989 (غيتي)

أعاد حلُّ حزب (المؤتمر الوطني) في السودان، بعد زوال النظام الذي كان يحكم باسمه، إلى الأذهان إشكالية العلاقة بين الدولة والأحزاب السياسية الحاكمة. فقرار الحلِّ ضمن ما ظلَّت تنادي به قوى الحرية والتغيير في أعقاب الثورة السودانية منذ ديسمبر (كانون الأول) 2018، أثلج صدور الكثيرين، وأثار في الوقت نفسه أسئلةً أخرى عن مدى مقدرة الحزب على النهوض بشكلٍ آخر، خصوصاً أنَّ بعض الأصوات خفَّفت من أثر هذا القرار، بحكم أنَّ الحزب تعرَّض لتصدُّعاتٍ كثيرةٍ، وهي التي عجَّلت بنهاية النظام.

والنهوض هنا قد لا يتحقَّق بحشد الحزب المحلول أنصاره بتنظيم موكبٍ إلى القصر الجمهوري باسم (مليونية الزحف الأخضر) في 14 ديسمبر أي قُبيل الذكرى الأولى للثورة في 19 ديسمبر، لكن قد يتمثَّل ذلك في لملمة شتات الحزب، والعودة تحت "مسمى جديد"، أو عن طريق "ائتلاف عدة تيارات إسلامية".

فالحشد الحالي هو اختبارٌ أوليٌّ، أمَّا الأهم فهو تجربة الحزب الطويلة في العمل المؤسسي الذي يعتمد على الشعارات الأيديولوجية في الاستقطاب وكسب التأييد السياسي، فقد نشأت الحركة الإسلامية السودانية أو حزب "الإخوان المسلمون" في السودان في بداية أربعينيات القرن الماضي كأحد الأحزاب الراديكالية التي يتميز مذهبها المحافظ بالتصلُّب، وذلك في مواجهة حزب راديكالي آخر نشأ في الفترة ذاتها، وهو الحزب الشيوعي السوداني. وكان الحزبان الراديكاليان مدعومين بالمفاهيم الاشتراكية في مواجهة إقطاعية الأحزاب الطائفية مثل حزب الأمة والحزب الوطني الاتحادي.

في ذلك الوقت كانت مصر حاضنة للحركة الإسلامية التي قام بها حسن البنا بتشكيل جماعة "الإخوان المسلمون"، التي نقلها إلى السودان بعض الطلاب السودانيين الذين درسوا في مصر.

تشابك الأدوار

عملت الحركة الإسلامية بجهدٍ كبيرٍ لتحقيق تأثيرها الاجتماعي والسياسي، وذلك عن طريق اتخاذ العمل التنظيمي نهجاً تمثَّل في دورها الحزبي، وذلك تحت عدة أسماء اتخذتها على مرّ تاريخها وهي جبهة الدستور الإسلامي، وجبهة الميثاق الإسلامي، والجبهة الإسلامية القومية ثم أخيراً المؤتمر الوطني.

وقد صاحب ذلك التحوّل من تنظيم حركي أيديولوجي إلى حزبٍ سياسيٍّ كثير من البراغماتية التي اكتسبت بفضلها الحركة الإسلامية سيولةً جعلتها تتوافق مع جميع الحكومات التي سبقتها باتخاذ مواقف إمّا موالية وإمّا عدائية، لكنها تحفظ كيانها كجسمٍ على أرض الواقع السياسي السوداني.

وما ميّز أنشطة الحركة الإسلامية كان العمل السياسي الذي تبنّاه حسن الترابي بعيد نشأتها واعترضت عليه بعض قياداتها الأخرى ليحدث انشقاق الحركة الشهير عقب مؤتمرها العام في فبراير (شباط) 1969. واصل الترابي مسيرته بإرساء قواعد الإسلام السياسي، بينما مضت في خط الحركة الأول المُتبني أفكار حسن البنا مجموعة أخرى من الآباء المؤسسين.

بعدها بدأ انتقاد الترابي علناً من إخوانه السابقين واتهامه بالسلبية والخروج من حيز الالتزام بالنهج الإسلامي المستمد من أصول الدين إلى منحى المصالح والكسب السياسي الذي لا يتوخى في الحصول عليه ضوابط القيم وكوابح المُثل العليا. فمن معارض لنظام جعفر النميري الذي أتى بانقلاب عسكري عام 1969 إلى حليفٍ له، ثم وزير بعد المصالحة بينه وبين النميري وخدمته الاتحاد الاشتراكي التابع للنظام الحاكم آنذاك.

في ثمانينيات القرن الماضي وبعد ثورة شعبية أطاحت نظام جعفر النميري عام 1985 شاركت الحركة الإسلامية في الانتخابات، واحتلت مقاعد في حكومة الديموقراطية الثالثة سمحت بها الحكومة لتضعها نصب عينيها. واستمر نظام الحكم الديموقراطي إلى أن أطاحته الحركة الإسلامية بدعم الانقلاب العسكري بقيادة العميد وقتها عمر حسن البشير في الثلاثين من يونيو (حزيران) 1989 لتحتل موقعها في الحكومة الجديدة، وتعمل على إضفاء طابع الدولة الدينية وتشريع الإسلام السياسي نظام حكمٍ، مستفيدة من عجز الأحزاب الأخرى التي وقفت أمام مشروع التغيير من انقلاب استولى على السلطة بليلٍ بهيم.

المفاصلة

وبعد عشر سنوات كانت قرارات المفاصلة الشهيرة في رمضان من العام 1999 التي أحدثت الانشقاق الأكبر في الحركة الإسلامية السودانية، واُستبعد على إثرها حسن الترابي، ليكوّن حزباً معارضاً بعد خروجه من السجن باسم المؤتمر الشعبي، ويُمارَس العنف ضد حزبه وأحزاب المعارضة الأخرى واحتكار العنف باسم الدين ومشروع التوجه الحضاري.

ومن مدرسة الترابي تخرجت حكومة الإنقاذ التي اتخذت من الدين مطية لتحقيق مآرب أعضائها الخاصة، اعتمدت الحكومة على استراتيجية الحركة الإسلامية التنظيمية ومقدرتها الفائقة في التعبئة الاجتماعية، فعملت على استهداف ثلاث فئات مجتمعية، وهي الشباب والبرجوازية والنخبة المثقفة.

رأت الحكومة أن تستفيد من كل فئة بطريقة مختلفة، فاستقطبت الشباب من الجنسين إلى الجهاد بتجنيدهم فيما سُمِّي بقوات الدفاع الشعبي، وهي ميليشيا خاصة للحركة الإسلامية حاكت بها الحرس الثوري الإيراني الذي قام على أساسٍ عقائدي، فكانت هذه القوات وقوداً جاهزاً للحرب الأهلية بين شمال وجنوب السودان.

أمَّا طبقة البرجوازية فعملت الحكومة على سحقها وتشريدها، وأحالت أفرادها إلى الصالح العام واستبدلتهم بأهل الولاء للنظام والحركة. أمَّا النخبة المثقفة فدُجِّن أغلبها، وتركت البقية في الظل للاستفادة منها عند الضرورة.

إعادة إنتاج

 وفي نفس خط الحركة الإسلامية استخدمت الحكومة العنف السياسي المُزيَّن بغطاء الدين مبرراً لدورها الرسالي، وعندما تخلَّت عنه لم يكن بسبب الرغبة في الوصول إلى نظامٍ مدني، لكن بسبب الوصول إلى سلطة تحتكر العنف باسم الدولة. فحينما حاولت الحركة الإسلامية مراجعة وضعها باعتبارها مسؤولة عن تسليم حكومة الإنقاذ مقاليد السلطة، كان لا بد لها من الإقرار أولاً بأنَّها السند الأساسي للصراع القائم بين الأخوة في التنظيم.

وسط هذا الصراع تلاشت كوادر الحركة الإسلامية المتمرسة على العمل التنظيمي، وبقي المؤتمر الوطني حزباً متسلِّقاً لم ينفعه الربط الذي كان سائداً بأنَّ كل ما هو مؤتمر وطني هو في الأصل حركة إسلامية.

وعندما اخترق نظام المؤتمر الوطني الجماهير في الولايات بنظام المؤتمرات الشعبية لم يستطع لأنَّه كحزبٍ سياسي حافلٌ بالأزمات لم تنجح مؤسساته في الدمج بين قيادته وقيادة الحركة، حتى بعد أن أطلّ الحزب السياسي من خلف ستار الحزب العقائدي العتيق.

صاحَب مفهوم الدولة الدينية عند الإسلاميين أطروحات براغماتية تمرحلت مع الخطاب الديني، وهي ما جعلت السودان بعدها يدفع ثمناً باهظاً من المعاناة استمرت ثلاثة عقود. فتجربة الدولة الإسلامية السودانية لم تحترم التعدد، بل إنّها اختلفت معها في بنياتها الأساسية، ما أكد أنَّ عيوب التطبيق والممارسة في الحالة السودانية كانت طاغية على قصور المفهوم نفسه في حالة من عدم اكتمال أركانه الأساسية.

وهذه الأركان استلفها الإسلاميون مما هو موجود في مصطلحات الإسلام السياسي وتجاربه في العالم الإسلامي، بخاصة الثورة الإسلامية الإيرانية، إلّا أنَّ عدم الاعتراف بقضايا الديموقراطية والحريات وطرح بدائل مشوّهة لها بعد كثيرٍ من الضغوط زاد من الشقة بين مفهومي الدولة الإسلامية والدولة الديموقراطية.

الآن، وبعد ستة عقود من قيام نظام "الإخوان المسلمون" في السودان، تحت مسميّات مختلفة، ثم بعد تحول الحركة الإسلامية من حركة أيديولوجية إلى صاحبة نفوذ وسلطة مدعومة بنظام العسكر وقواتها الخاصة ما زال الوضع على حاله، وما زال الجدل قائماً حول: هل تمت أخونة الدولة بمشاركة الحركة الإسلامية في الانقلاب العسكري عام 1989، أم تمَّت عسكرة الحركة الإسلامية التي حكمت السودان على مدى ثلاثة عقودٍ من الزمان في السلطة وبعدها إلى دكَّة المعارضة.

حزب المؤتمر الوطني الآن هو معارضٌ يتحسَّس قاعدة الحركة الإسلامية القديمة التي فشلت قياداتها في الحفاظ على كيانها من التمزق السياسي، يحاول إعادة إنتاجه لمواجهة الحكومة الانتقالية بعدما قرَّب وباعد بين بنيه حفاظاً على السلطة، وفي نسخته هذه يحمل نقائضه في أحشائه، بشكلٍّ لا يقلُّ صرامةً عن الأنماط الأخرى الأكثر استبداداً.

المزيد من تحلیل