Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

علي العامري شاعر اليومي والوجودي... يخاطب عالم الظلال

حاز جائزة الجمعية الدولية للكتاب... ودواوينه ترسخ تجربته الخاصة

الشاعر الأردني على العامري (يوتيوب)

لعل حصول الشاعر علي العامري على جائزة الجمعية الدولية للكتّاب التي تحمل اسم الشاعر بيتر بوغداني (بروكسيل) في فئة الشعر قبل أيام، ليس سوى علامة من علامات تكريسه شاعراً "مختلفًا"، ذا تجربة ونكهة متميزتين. فعندما يذكر اسم علي العامري، تحضر الدّهشة والبراءة، ويحضر أيضاً صهيل براري الغَور قريباً من نهر الأردنّ. تحضر الحدوس من ديوانه الأوّل الذي كان علامة مميّزة، وضعته على طريق الشعر "الصّافي" السّاعي في البحث عن الجَماليّ، والجماليّ فقط، لكنه حاملُ خطاب واضح الملامح.

العامري، كما عرفته منذ بداياته، وقبل ديوانه الأول "هذي حدوسي... هذي يدي المبهمة"، منذ إطلاق جماعة "أجراس" الشعريّة التي شكّلها مع عدد من شعراء أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات، ثم مع صدور ديوانه "كسوف أبيض"، وأخيراً ديوانه "خيط مسحور"، استطاع بهذه المجموعات الثلاث أن يحقّق حضوراً شعريّاً باهراً. فضلاً عن حضوره الفنيّ التشكيليّ، في لوحات للمرأة في وجوهها المختلفة والمدهشة أيضاً.

وعرفت العامريّ الشاعر منذ حدوسه الأولى منطلقاً، شغوفاً بالحياة بلا هوادة، يكتب كما يعيش، لا تُعيقه اللغة ولا القاموس والمفردات، فهو يمتلك أدواته وأسلوبه المتميّز، كما يمتلك "خطابه" المتمكّن من إقامة العلاقات بين عناصر الكون، وفي الأساس بين الروح والجسد، وما بين العالَمَين الجسَديّ والرّوحاني، يبني العامريّ عالَماً يلامس الصوفية على نحو ما، صوفيّة أرضيّة تتدفّق منها الرّوحانيات برهافة وغموض باهرين.

يكتب العامريّ ببساطة وعفوية فريدتين، ويكفي أن نقرأ شيئاً من قصيدته "مجنون التلّ"، وهي من أحدث قصائده، لنتعرّف إلى هاتين البساطة والعفوية العميقتين "مجنونُ التلّ ينشّفُ ضوءاً فوق حبال الجيرانِ، ويكتب ما يمليه عليه الظلُّ. يُسيّلُ أغنيةً في وادي زقلابَ، يرافق أشجارَ الليمونِ، يُحدّثها عن حربٍ حرقت أرواحَ الأخضر واليابسْ". إنه يكتب ما يُمليه عليه الظلّ.

المكان والصورة

وفي استعارته للمكان الذي ينتمي إليه، يتجلى الشعر فتذهب الصّورة عميقاً، ونقرأ قدْراً كبيراً من التحليق "طارَ الطينُ، وطار النهرُ، وطارت أشجارُ السّروِ، وطار المرعى، والشهرُ الخامسُ طار، وطار قميصٌ مثقوبٌ عند الصدرِ، وطارت قبّرةٌ من شجْرة سدرٍ كانتْ تحرسُ قبراً في أعلى التلّ قريباً من نهر الأردنّ"ْ. فنحن هنا حيال لوحات من طيران تطاول كلّ شيء، وتصوير لحركة هذه الكائنات باللغة والكلمات على نحو شديد الانطلاق والانفتاح على الحياة بحبّ.

ويلفت في تجربة العامريّ، كونه يكتب قصيدة هي عبارة عن لوحة، بل لوحات من كلمات وظلال وعتمة ونور، وهذا ما نجده خصوصاً في قصيدته المذكورة أعلاه، مجنون التلّ التي تنبض بحياة رشيقة و"مجنونة"، حياة نتلمّس تفاصيلها ونغرق في جنونها وانطلاقها، حيث ندخل في تفاصيل المكان، ولنرى الشاعر "بين بيوت الطينِ"، ونراه وهو "يرسمُ بالفحم وجوهَ صبايا كنّ يُعبئنَ الضوءَ صباحاً بسُطولِ القصديرِ، ويشبكنَ النعناعَ البريّ أكاليلَ لهنّ، وكانت في الطرقاتِ ترنّ الضحكاتُ. على مهلٍ يتمايلنَ، كما تتمايلُ أشجارُ الرّمانِ. على مهلٍ يرجعنَ إلى قريتهنَّ قُليعات، ليسكبنَ حنيناً لبيوت أُولى كانت في بيسانْ".

إنّها كتابة ما بين الراهن واليوميّ، وبين الوجوديّ والكَونيّ وما يثيران من أسئلة، ويظلّ التصوير سيّداً في القصيدة، التصوير بالألوان أو بالكاميرا. ففي ديوانه "الخيط المسحور"، نقف على ظاهرة تتمثل في كيفية توليد الصورة والعبارة الساحرة، بقدر من العفوية والسلاسة نابعين من وعي مختلف للعالم ومكوّناته وتفاعلاته. عالم يحتفظ بعناصر الحياة الأساسية، حتى لو تم تكرار هذه المفردات فهو لتكريسها ورفعها إلى مستوى السحري. كلمات شاعر يجوب الكون من عتمة الكهوف إلى أعالي الكواكب والنجوم. ذلك كله في سبع وثلاثين قصيدة مختلفة طولاً وقصراً، بين قصيدة من أربعة سطور، وأخرى مدورة على مدى تسع صفحات.

أعود اليوم إلى "الخيط المسحور" ومن قبله "كسوف أبيض" وقبله "هذه حدوسي.."، فأجد تجربة تتطور وتحمل مشروعاً، بل يحملها مشروع ذو رؤية تأملية ومعيشيّة واضحة المعالم. أجد في كتاب "هذه حدوسي.." أجواء الريف ومناخات القرية والنهر والبراري، نقرأ من عوالمه "مَنْ سيحرسُ في نومتي كلَّ هذي البراري، الطيورَ، النساءَ اللواتي نسينَ على ساعديَّ المواويلَ واللمساتِ الحنونةَ والأحزمةْ؟

وفي القصيدة التي تحمل عنوانَ ديوانه الأوّل "هذي حدوسي..  هذي يدي المبهمة"، ثمّة ما يكثّف حالة الحدس والحمل على المزج بين ما هو حياتيّ معيش، وبين ما هو مقاربة للأسطوري والفانتازيّ، فنقرأ من هذه القصيدة هذا المقطع الذي تحضر فيه بلدة القُلَيعات بوصفها المكان الأمّ للشاعر:

"ما الذي يخفقُ الآن خلف الزجاجِ، / الثعالبُ أمْ شجرُ الساهرين؟ / القليعاتُ هاجعةٌ في قماط الرياح، / الصبايا تركْنَ على خشبِ البابِ شالاتهنَّ، وذَوّبْنَ / نصفَ السماء. / فكمْ رقصَ النجمُ فوق الصدور، وكمْ  / رحلَ الرمحُ في مرمرِ النارِ / كم زلزلَ الشوقُ أنهارَهُ / وارتقى درجاً باتجاه البروج".

صوت بدوي

وعدا ذلك، فلا بد من التوقف على ما يقارب النفَس الصّوفيّ المُشار إليه أعلاه، عبر مقطع شديد التعالق بهذا العالم، حيث نغرق معه في العلامات والإشارات، ونقرأ: "هنا كان لي أنْ أغربلَ يومَ الخميسِ لأرعى تراتيلَ مَنْ  / زلزلتْني، وشقّتْ دمي / بالإشارةِ، يا للإشارةِ تنمو على / طرف الروح، إنّي تلعثمتُ بالانتباه / الفجيعةُ لم / ترتعشْ حين مرَّ النعاسُ بطيئاً على بطنِ / ناري، وما زاغَ غيرُ الغرابِ البعيدِ، هنا قلتُ للميتينَ: / انثروا بهجةَ الطين في البوق، إني سرقتُ / النحاسَ اليتيمَ، ووجّهتُ عينَ يدي للمتاهْ".

صوتُ علي العامري الذي يجمع البدوي الراعي بالريفيّ وحقوله، هو صوت محتشد بالحياة ومفرداتها، الحياة هنا حاشدة بعناصر غير عادية، حيث يمتزج الواقعيّ بالخياليّ والأسطوريّ: "غَرقَ الماءُ في الماءِ، / هذي حدوسي، / وهذي يدي المُبهَمة". ويبقى القول إننا حيال تجربة متعددة الأبعاد، غنيّة بمكوّناتها التصويرية، وحيال شاعر يعرف كيف يلعب باللغة ومفرداتها، وكيف يصعد بها متنقّلاً بين المجازات والرّمزية، ليقول عالَمه الغرائبيّ المدهش، ومن هذا العالم نقرأ: "في الباحةِ رجلٌ مجهولٌ  / سدّدَ صوبَ حمامٍ آلةَ تصويرٍ / وبكى / حين تَذكّرَ أنَّ الصورةَ تبقى صورة".

تبقى الإشارة إلى عالم العامري في التشكيل، وهو عالَم ظهر أساساً في معرضه "مرايا عميقة"، ذلك المعرض الذي احتضن أعمالًا تركز على الوجه الإنسانيّ، وخصوصاً وجه المرأة، لكونه كما يقول العامري "نبعاً تعبيريّاً متجدداً ولا ينضب... وأرى الوجه تُرجُمان الخفاء، من خلاله أحاول رصد الضَّوء المستتر والعتمة المُتخفية في أطلس الأعماق الإنسانية...".

وأخيراً، وقريباً من الدهشة الشعرية، وفي لفتة إنسانية أخيرة، فقد فاجأ علي العامري من حضروا توقيع ديوانه "خيط مسحور"، في المركز الثقافي العربي في عمّان، بتخصيص ريع مبيع الديوان لأطفال مخيّم الزعتري الخاصّ باللاجئين السّوريين.

المزيد من ثقافة