Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

دعوة يهود السودان بالعودة إلى مقرن النيلين

نقلت رفات المدفونين في المقبرة اليهودية وبعض مخطوطات التوراة الأخرى من الخرطوم إلى القدس في مهمة سرية

لاجئون أفارقة أغلبهم من أقليم دارفور السوداني في زيارة الى أحد المتاحف الإسرائيلية في القدس العام 2009 (غيتي)

بالرغم من أنَّ تاريخ اليهود في السودان محاطٌ بشيءٍ من الغموض والسريِّة، إلّا أنَّ الذهنية الشعبية فضلاً عن الوثائق قد كشفت حيّزاً مقدّراً من تلك الفترة.

أحالت الدعوة التي وجَّهها وزير الشؤون الدينية والأوقاف السوداني نصر الدين مفرح، المنتمي لحزب الأمة، إلى اليهود بالعودةِ إلى السودان والمشاركة في إعماره؛ الأنظار إلى حضورهم الصامت في هذا البلد الذي أُجبروا على تركه. وقد أرّخ اليهود لوجودهم في السودان عند ملتقى النيلين الأبيض والأزرق في مدينة أمدرمان العاصمة الوطنية، فعلى المستوى الشعبي، أُحيط وجودهم بالغموض والسرية، وبدأوا في هجرتهم إلى الخارج ومن آثر المكوث منهم بقي تحت اسمٍ مُستعار.

ذاكرة المكان

  جاء في كتاب "قاموس السودان التاريخي"، إنّ أول رحالة يهودي وصل إلى السودان بعد دخول الإسلام هو ديفيد روبيني (حوالي 1490 - 1540)، وقد قام بتسجيل مشاهداته في رحلته تلك والتي قام بها من ساحل البحر الأحمر إلى سنار ودنقلا في عام 1530. وما إن حلّت أعوام نهايات القرن السابع عشر حتى كان التجار اليهود من ضمن مجموعات التجار الأجانب في سنار. واستقرَّ عددٌ كبيرٌ منهم على امتداد وادي النيل ممثلين تجاريين لبعض الشركات المصرية إبان الحكم التركي المصري على السودان. وتوسَّع نفوذهم وامتدادهم ووصل أبرزهم أمين باشا إلى حكم إقليم الاستوائية بجنوب السودان بين عامي 1878-1889.

  كما كان هناك موشي بن زيون كوستي الذي وُلد بفلسطين وعاش في السودان كممثِّلٍ لشركةٍ تجاريةٍ مصريةٍ وظلَّ يعمل بين الخرطوم والمسلمية حتى قامت الثورة المهديَّة. وما يُروى عن ذلك الرجل أنَّه قدّم قرضاً للجنرال تشارلز غوردون باشا بعض المال لشراءِ الأغذية والمؤن أثناء حصار جيش المهدي للخرطوم بين عامي 1884 – 1885. وبعد سقوط الخرطوم تمَّ القبض عليه وأُجبر على الدخول في الإسلام وغيّر المهدي اسمه إلى موسى بسيوني، ثم تزوج بسودانيةٍ مثل عددٍ من يهود أمدرمان. وقد قام بتشييد معبدٍ صغيرٍ ومقبرة يهودية، فكان بذلك أول مؤسِّس معبدٍ يهوديٍّ في أمدرمان وكان رئيس الجالية اليهودية حتى وفاته في 1917. بعد عام 1918 حوَّلت الجالية اليهودية مركزها من أمدرمان إلى الخرطوم والخرطوم بحري وراحت تستقبل عدداً كبيراً من اليهود من مختلف أقطار الشرق الأوسط وأوروبا واستقروا وعملوا في مجالات المصارف والتجارة والتصنيع والتعليم والقانون والطب.

  كان ذلك بعد هجرةٍ جماعيةٍ أخرى في نهايات القرن التاسع عشر، وصل اليهود فيها إلى السودان إثر تحرّكهم في أكبر موجة هجرةٍ يهوديةٍ واستوطنوا مدينة أمدرمان أيضاً، وتحديداً حي المسالمة. ومثلما أرَّخ مقرن النيلين الأزرق والأبيض عند نقطة التقائه في الخرطوم، لأحداثٍ كثيرةٍ سياسيةٍ واجتماعيةٍ وثقافية، فكذلك أرَّخ اليهود لوجودهم في السودان عند ذات النقطة. فبالإضافة إلى ما أوردوه في كتبهم التي نشروها فيما بعد، كان هناك انتاج الفيلم الوثائقي الذي تمَّ بثه أواخر عام 2013م، الذي جاء اسمه في إشارةٍ إلى نقطةِ اقتران النيلين والتقائهما "اليهود وأطول قُبلةٍ في التاريخ

 "The Jews and the Longest Kiss in history"

أطفال يعقوب

  ترجع أغلب العائلات اليهودية بالسودان إلى التصنيف اليهودي المعروف (السفارديم)، وهم يهود الأندلس الذين هاجروا بعد سقوط غرناطة الشهير عام 1492 إلى شمال أفريقيا ثم في فتراتٍ تالية إلى السودان. ومن تلك العائلات: يهود آل إسرائيل، آل قرنفلي، آل منديل، آل كوهين، آل قارون، آل ساسون، آل حكيم ويهود آل سلمون ملكا وهو حاخام من يهود المغرب استقدمه يهود السودان من أجل إقامة الصلوات، وتعليم الصغار. سكنت أسرة سلمون في حي المسالمة بأم درمان حيث كان يقيم الأقباط واليهود الذين أجبرهم الخليفة عبد الله التعايشي خليفة الإمام المهدي إلي الدخول في الإسلام، ولكن سلمون أسهم في ارتداد الكثيرين من يهودِ السودان وفتح كنيس في منزله بالمسالمة.

  ومن أولاد سلمون، الياهو سلمون ملكا مؤلف كتاب "أطفال يعقوب في بقعة المهدي". وقد ورد في هذا الكتاب حقائق كثيرة عن الأجندة والأنشطة الخفيَّة التي كانت تجري وتُنفَّذ تحت السطح الظاهري للطقوس والشعائر الدينية والاجتماعية والثقافية اليهودية التي كانت تُقام في محفل "بناي بريث" والنادي اليهودي بشارع فيكتوريا (شارع القصر حالياً). وقد أحال أفراد الجالية اليهودية هذا المحفل فيما بعد إلى سينما كلوزيوم. وهناك غيرهما من مؤسساتٍ ذات صبغة اجتماعية دينية يهودية في الأساس، كانت تُجمع خلالها التبرعات والأموال، ويتم تبادل المعلومات والخبرات والتجارب.

الهجرة العكسية

   يُرجَّحُ أنَّ وجود اليهود في السودان ضاربٌ في القدم، بل إنَّ بعض الأقوال تردد أنَّ في جنوب السودان قبائل مثل قبيلة "الماندي" من أصولٍ يهودية حافظت على يهوديتها منذ آلاف السنين رغم عزلتها وبُعدها الجغرافي عن بقية اليهود في أنحاء العالم. ولم يظهر هذا إلَّا بعد انفصال الجنوب عام 2011، إثر زيارة الرئيس الجنوب سوداني سلفاكير ميارديت إلى إسرائيل. كما أنَّ وجود يهود الفلاشا ارتبط بالرئيس السوداني الأسبق الراحل جعفر النميري ورجاله لدورهم في عمليات تهجيرهم من إثيوبيا والحدود السودانية التي كانت نقطة ارتكازها مدينة القضارف، إلى إسرائيل عبر مطار الخرطوم في منتصف ثمانينيات القرن الماضي. وهي العمليات التي بسببها واجه الرئيس النميري تهمة الخيانة لمشاركته في توطين 25 ألف يهوديٍّ في أراضي فلسطين في العمليات التي أشرفت عليها الولايات المتحدة بشكلٍ مباشرٍ في عهد الرئيس الأسبق رونالد ريغان.

تحدثت أدبيات المجتمع اليهودي في السودان التي تم تداولها في ما بعد عن الصعوبات التي واجهوها في أيام حكم المهدي، وفيهم من اُجبر على اعتناق الإسلام إلَّا أنَّ بعض المؤرخين يرون أنَّهم دخلوا الإسلام حتى يحافظوا على مصالحهم، وبعد سقوط المهدية منهم من استمر في إسلامه وانصهر في المجتمع السوداني ومنهم من نكص عنه. وقد كان نشاطهم الاقتصادي يعتمد على أعمال تجارية ضخمة في مجالات الاستيراد والتصدير. ومن أشهر التجار اليهود في السودان: عائلة مراد إسرائيل، وحبيب كوهين، وليون تمام، والإخوة سيروريس، وفيكتور شالوم، وآل عبودي.

  بدأت هجرة اليهود من السودان في العام 1948، تاريخ إعلان قيام إسرائيل، متوجهين إلى أوروبا وأميركا وإسرائيل وبعض دول الجوار الأفريقي. ثم زادت وتيرة هجرتهم بعد عام النكسة في حرب 1967 أو حرب الأيام الستة التي انتهت باحتلال إسرائيل أراضٍ عربية واسعة.

  وهذه العائلات منها من هاجر ومنها من انتقل إلى أقاليم مختلفة في السودان حيث تصاهروا مع السودانيين وذابوا في المجتمع السوداني. أما كيف يتعايشون الآن وسط المجتمع السوداني فهو إما بدخولهم الإسلام وتصاهرهم مع السودانيين، أو محافظين على هويتهم ولكن لا يظهر الاسم اليهودي إلّا في الاسم الرابع أو الخامس، وذلك حتى يبقوا في مأمن من أي مضايقات أو عزل. حتى أنّ بعضهم اختار أسماء طوائف مسيحية لا تعترف بها الكنيسة مع احتفاظهم بيهوديتهم سراً، ومنهم من كان يحمل أسماء عربية مثل: المغربي، البغدادي، الإستانبولي، وهي أسماء تدلُّ على الأماكن التي جاؤوا منها أو عاش بها أجدادهم أو آباؤهم في حقبةٍ معيَّنةٍ من حياتهم.

هدم المعبد

 بعد انتشار تصريح الوزير تحدَّث عددٌ من عائلات يهودية عريقة في المهجر، حيث تذكّروا وجودهم في السودان وسردوا حياتهم الاجتماعية، وقد نعموا في جزءٍ منها ببعض التسامح. ولكن عندما بدأوا الهجرة تمَّ هدم المعبد وقبله هُدمت أواصر بقائهم بمجيء نظام الإنقاذ بانقلابٍ عسكري عام 1989 والإعلان في بداياته عن تطبيق الشريعة الإسلامية، وسيادة الأيديولوجيا التي تمجِّد محاربة اليهود في الأشعار الجهادية مما شجّعهم على الرحيل. وعن إمكانية عودتهم استبعد بعضهم الاستجابة لدعوة وزير الشؤون الدينية خاصةً أنَّ كبار السن الذين تربطهم ذكريات جميلة بالسودان أصبحوا برفقة أبنائهم وأحفادهم الذين لا يعلمون عن السودان شيئاً. تم هدم معبد الخرطوم (الكنيس) الكائن في شارع القصر مؤخراً بعد إقامة مصرف إسلامي على أرضه، وتم نقل محتوياته من الخرطوم إلى جنيف ولندن، كما تم نقل رفات المدفونين في المقبرة اليهودية وبعض مخطوطات التوراة الأخرى من الخرطوم إلى القدس في مهمة في غاية السرية. وبذا تم هدم آخر معاقل اليهودية في السودان وإن بقي أفرادها يتوارون خلف الأسماء.

المزيد من تحقيقات ومطولات