Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"غرفة يعقوب" لفرجينيا وولف أسست تيار الوعي في الرواية العالمية

احداث عادية تتدفق بحرية... و راو عليم يجمعها

الروائية البريطانية فيرجينيا وولف (يوتيوب)

ترجمة عربية جيدة لرواية "غرفة يعقوب" لفرجينيا وولف صدرت قبل أيام عن دار العين بالقاهرة بتوقيع الروائية المصرية سناء عبدالعزيز، علما أن النسخة الإنجليزية من هذا العمل صدرت للمرة الأولى في 1922.   

معظم "الأحداث" تدور خارج تلك الغرفة؛ في لندن وباريس وروما وأثينا، وتبدو أحداثاً عادية إلى حد بعيد، يسردها راو عليم لا يهتم بترابطها بقدر ما يهتم بتداعيها الحر وارتباطها بشخصية يعقوب وأفكاره وكآبته المزمنة. سرد متدفق لكنه مربك للقارئ، ومن ثم للمترجم، بما أنه يصب في أنهار شتى. في الفصل الثالث وتحديداً في الصفحة 70 في هذه الترجمة، يرد أن غرفة "يعقوب آلان فلاندرز"؛ "تحتوي على طاولة مستديرة وكرسيين منخفضين، وثمة أعلام صفراء في برطمان على رف المدفأة، صورة لأمه، بطاقات من جمعيات بأهِلة صغيرة مرتفعة، وشعارات النبالة، والأحرف الأولى؛ مفكرات وغليونات، على الطاولة، وُضعت ورقة مخططة بهامش أحمر – لا بد أنه مقال- "هل يتألف التاريخ من سير العظماء؟" كان هناك ما يكفي من الكتب؛ عدد قليل جداً بالفرنسية، ولكن من ناحية أخرى فأي إنسان يعطي أهمية لشيء ما، يقرأ ما يستهويه فقط، بحسب ما يأخذه مزاجه، بحماسة حمقاء. سِير الدوق ولنجتون، مثلاً، إسبينوزا؛ أعمال ديكنز، ملكة الجنيات، قاموس يوناني ببتلات الخشخاش مضغوطة إلى حرير بين الصفحات، جميع الشعراء الإليزابيثيين. كان خُفُه رثَّا بشكل لا يصدق، مثل القوارب المحترقة على حافة الماء". وفي الفصل الرابع عشر، وهو آخر فصول الرواية وأقلها في عدد الكلمات عودة أخيرة إلى الغرفة ذاتها: "لقد ترك كل شيء كما هو، تعجَّب بونامي. لا شيء مرتب في مكانه. كل رسائله مبعثرة لأي شخص يقرؤها. ماذا كان يتوقع؟ هل اعتقد أنه سيعود؟". وفي الأخير تسأل الأم الثكلى: "ماذا أفعل بهذا يا سيد بونامي؟"... "كانت تقف وهي تمسك بفردتَي حذاء يعقوب القديم".

في عام 1922 كتبت فرجينيا وولف (1882- 1941) في مذكراتها: "أريد أن أكتب رواية جديدة"، وكان قد صدر لها روايتان بالفعل؛ "رحلة إلى الخارج" 1915، و"الليل والنهار" 1919. لكن الروايتين – تقول سناء عبدالعزيز- على تميزهما لم تلفتا الانتباه إلى تجربة وولف رائدة الحداثة التي لم تكن قد كُتبت بعد. وتضيف عبدالعزيز: "ولعل اطلاعها في تلك الفترة على ملامح القلق الوجودي لدى مارسيل بروست وجيمس جويس وهنري برجسون، كان بمثابة الدافع وراء هذه العبارة التي دوَّنتها في دفتر يومياتها، ومن ثمَّ جاءت روايتها الثالثة؛ "غرفة يعقوب"، لتحقق تلك النقلة النوعية من حيث اللغة وأسلوب السرد والبناء في كتابة وولف".

تُفتتح الرواية على نصف جملة: "هكذا بالطبع"، كتبتها "بيتي فلاندرز"، وهي أرملة شابة وأم لثلاثة أولاد، على شاطئ كونوال في إنجلترا، لشخص اسمه الكابتن "بارفوت" يقطن في سكاربورو، على بعد سبعمئة ميل، تبلغه فيها أنه: "لم يكن هناك حل سوى الرحيل". وتقول عبدالعزيز: "وكما أسلوب وولف الذي اتضح أكثر فأكثر في رواياتها التالية: "السيدة دالواي"، "الأمواج"، و"إلى الفنار"، يتم رصد الشخصيات والأحداث والأماكن بتتبع آثارها فحسب، ويصبح لزاماً على القارئ أن يفطن من خلال الآثار إلى حقيقة الأحداث، وعن طريق تجميع الشذرات والنتف التي توردها بين الحين والآخر، يشكل بنفسه صورة للشخصية عبر مرورها أو تواجدها وسط ركام الأشياء والجمل المبتورة، وظلال المباني والبضائع والمارة، حتى يعقوب، الشخصية الرئيسية لا نكاد نتعرف عليه إلا من خلال ملاحظات الآخرين عنه: "يروقني يعقوب فلاندرز، كتبت كلارا دورانت في دفتر يومياتها: إنه لا يهتم بالمظاهر. شخص غير متكلف، ويمكن للمرء أن يبوح له بما يريد، على الرغم من أنه مخيف بسبب...". أما "جوليا إليوت"، فتصفه بـ "الشاب الصامت". وفي موضع آخر يوصف "يعقوب"، على لسان شخصين عابرين، بأنه أجمل رجل رأياه على الإطلاق. قالا ذلك وهما ينحنيان أمامه. وهناك أيضاً أن يعقوب لم يكن يعرف من اللغة اليونانية أكثر مما ينقذه من التعثر في قراءة مسرحية، ومن التاريخ القديم لم يكن يعرف شيئاً. وهو يحب سماع الموسيقى لكنه لا يجيد العزف على أي آلة موسيقية. كما أنه بحسب إحدى شخصيات الرواية أيضاً، لم يكن أحمق ليصدق الأشياء على إطلاقها، ويؤمن بأن النساء على قدم المساواة مع الرجال. كان حقاً مكتئباً جداً، إلى درجة أن الكآبة لا بد أن تكون قد توطَّنت فيه لتغمره في أي لحظة تشاء. وعلى الرغم من أن يعقوب ظل مكتئباً، فلم يخامره الشك مطلقاً في مدى سحر كونه وحيداً، خارج إنجلترا؛ معتمداً على نفسه، معزولاً عن كل شيء. نعم كان مظهره مميزاً جداً، لكنه صعب المراس. كما أنه لا يجهد نفسه في العمل. وعلى الرغم من ذلك فإن أصدقاءه يحبونه جداً. وعلى لسان السارد كثيراً ما ترد أفكار يمكن أن ننسبها إلى الكاتبة نفسها مثل "هذه هي الطريقة التي نعيش بها، كما يقولون، تسيِّرنا قوة بعيدة المنال. يقولون إن الروائيين لم يمسكوا بها أبداً، فهي تندفع عبر شباكهم وتتركها مِزقاً. إنها، كما يقولون، هي ما نعيش به- تلك القوة بعيدة المنال".             

إرهاصات سردية

تقول سناء عبد العزيز في التقديم لترجمتها: في "غرفة يعقوب" نتعرف على إرهاصات تيار الوعي الذي ميَّز كتابة وولف، وبقدر حرصها على الاستفادة من أجناس أدبية أخرى (الشعر على وجه الخصوص)، بقدر ما تستثمر فنوناً كالسينما والرسم والتشكيل والموسيقى، حيث تتوالى المشاهد من خلال كاميرا توزع عدستها في كل أرجاء المشهد المترامي الأطراف، فتظهر لوحة مباغتة للسماء تعكس دائماً ما يطرأ على دواخل الشخوص من تقلبات، وللنوارس المحلقة على ارتفاع، وللبحر بأمواجه وتتابعها وتسابقها وتحدبها وتسطحها وتكسرها على الشاطئ أو انسيابها حول الأقدام، وللمصيفين المستلقين على قطعة من القماش أو المصطفين بوجوههم المحمرة النكدة على وسائد، للأرض بتنوع نباتها وبراعمها وزهورها وأشجارها وحيواناتها ومياهها وناسها، وللمباني بإعلاناتها الملونة، والأضرحة بنقوشها وشواهد قبورها التي تذكر آية من الإنجيل تشيد بشخص ما، أو ترثيه أو تطلب له المغفرة والبركة"... "لوحات إعلانية ثلاثية الأبعاد يدفعها رجال يرتدون معاطف بيضاء. صاد الكابتن جورج بواس سمكة قرش متوحشة. أحد جوانب اللافتة ذكر ذلك بحروف حمراء وزرقاء وصفراء؛ وكل سطر ينتهي بثلاث علامات تعجُب مختلفة الألوان".

وتضيف: "لا يتوقع القارئ إذن أن تسير الأحداث مسلسلة ومرتبة بما يتيح له الاستلقاء والمتابعة فحسب، ولا أن يتحرك الزمن بتدفقه الطبيعي، أو أن يمتد المكان أفقياً ورأسياً، ففي "غرفة يعقوب"، الحيز الضيق الذي عنونت به وولف روايتها، تتقلب التربة، لتطفو شخصيات على السطح وما تلبث أن تختفي، مفسحة المجال لشخصيات جديدة قد لا تحتل من عالم الرواية إلا سطراً أو سطرين بالكاد: "... استغل الطفل جوني ستورجيون الفرصة للتسلل بسرعة من أسفل السلالم، حاملاً طرده الضخم الغامض، وبتجنبه مساراً متعرجاً بين عجلات السيارات وصل إلى الرصيف، وراح يصفر لحناً وسرعان ما غاب عن الأنظار- إلى الأبد".

كما لا يسير الزمن في هذا العمل، بحسب سناء عبدالعزيز، على نحو خطي، بل يتذبذب بين الماضي والحاضر والمستقبل من دون إشارة مسبقة، وهو ما يتسبب بكثير من الالتباس إذا لم ينتبه المترجم جيداً إلى زمن وولف الشديد التعقيد وفجواته المتعمدة. كما أنها تقطع أميالاً من سكاربورو إلى كورنوال ومن اليونان إلى إنجلترا أو إيطاليا وتعود هرولة أحياناً في مقطع واحد"... "لقد أصبح الآن رئيس مجلس المدينة. تطلَّعا إلى الليل، الذي كان مثل ليل لندن، إلا أنه أكثر شفافية على نحو رائع. أجراس الكنيسة في المدينة دقَّت الحادية عشرة. توقف هبوب الرياح من البحر. وأظلمت نوافذ غرف النوم جميعها – نام آل بادج. نام آل جارفيت؛ نام آل كرانش، بينما في لندن في هذه الساعة كانوا يحرقون جاي فوكس على قبة البرلمان". أما عن القلق الوجودي – تضيف عبدالعزيز- فهو بمثابة السمة الرئيسية والمحرك لكل شخوص الرواية كانعكاس حقيقي لقلق وولف واضطرابها: "آنذاك، تنطلق من مدام جارفيس تنهيدة حارقة، تفكر في نفسها: "لو يستطيع شخصٌ ما أن يمنحني... لو استطعت أن أمنح شخصاً ما..."، لكنها لا تعرف ماذا تريد أن يُمنح لها، ولا من يستطيع أن يمنحها إياه".

أخيراً، تقول سناء عبدالعزيز، بعد ترجمة "غرفة يعقوب" انتبهتُ إلى أن كل أعمال وولف اللاحقة وشخوصها خرجت من تلك الرواية على وجه التحديد، ولعل وولف نفسها كانت تدرك ذلك حين عادت إلى "مونكز هاوس" بعد عشرين عاماً؛ المكان الذي كتبت فيه "غرفة يعقوب" وملأت جيوبها بالحجارة وأغرقت نفسها في نهر أوس. والجدير ذكره أنه يتم النظر كذلك إلىJacob’s Room   باعتبارها سيرة شقيق وولف، ثوبي وموته في غربته، ورسائل الحنين المبثوثة إلى الأماكن الأولى والأصدقاء، وحالات الفقر التي يعانيها المغترب بعيداً من الآخرين الذين يعرفهم ومن الأماكن التي يحبها. وقيل إنها كانت الجسر الذي عبرت عليه فرجينا وولف نحو النجومية.

بدأت فرجينيا بمقالاتها عام 1905 في صحيفة التايمز، ونشرت خلال حياتها 500 مقالة، وتعتبر رائدة في انتهاج تيار التداعي الحر، وكرمتها جامعة كنزنغتون في لندن بافتتاح مبنى باسمها في شارع كينجز واي، مع لوحة تعريفية عن الوقت والمواد التي درستها وولف في هذه الجامعة وأهم إنجازاتها واهتماماتها بالإضافة لهذا العمل الفني الذي يُظهر وولف بجانب اقتباس تقول فيه: "كانت لندن بذاتها وعلى الدوام تقوم بجذبي، تحفيزي، بإعطائي مسرحية، قصة، وقصيدة"؛ كما ورد في مذكراتها عام 1926.

أما سناء عبدالعزيز، التي أبدعت بموازاة رواية صعبة هي "غرفة يعقوب، فقد حصلت على جائزة الطيب صالح العالمية للإبداع الكتابي عام 2017 عن روايتها "فيد باك"، وترجمت من قبل رواية "الأجير" لتشارلز بوكوفسكي، ومسرحية "شاكونتالا" لكاليداسا، ومن ثم فإنها تعد مكسباً في مجال ترجمة الأدب من الإنجليزية إلى العربية.

المزيد من ثقافة