عمر الثورات محدود، تاريخياً، ولو أنه أيديولوجياً ممدود. وما تنتهي إليه الثورات ليس بالضرورة ما بدأت به، وجاءت باسمه ومن أجله. فهي إما تبني دولة مؤسسات طبيعية وتحرر الإنسان والمجتمع وتلتزم الانفتاح على محيطها والعالم، أو أن تكتفي بإقامة نظام ثوري يصبح سلطوياً في دولة فاشلة. "ولا سلام مع نظام ثوري"، كما قال مستشار النمسا كليمانس فون مترنيخ، الذي "هندس" مع الدبلوماسي الفرنسي شارل موريس تاليران مبدأ "توازن القوى" في أوروبا خلال مؤتمر فيينا، عامي 1814-1815، عقب حروب نابليون بونابرت.
هذه الأيام، تحتفل الجمهورية الإسلامية في إيران بمرور 40 عاماً على الثورة، التي شاركت فيها أحزاب وقوى وشخصيات متعددة وقادها الإمام الخميني، الذي أخرج كل تلك الأحزاب والقوى والشخصيات من المسرح وأقام جمهورية الملالي التي تحكمها ولاية الفقيه. وهي لا تزال ترفض الاختيار بين أن تصبح "دولة" أو تبقى "قضية"، وتصر على أنها مستمرة في أن تكون دولة وقضية معاً.
هذا المسار قاد ويقود، بطبائع الأمور، إلى صراع مع محيطها العربي وأزمات مع الغرب الأميركي والأوروبي. فلا شيء يوحي أن طهران مستعدة لقبول نظرة وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر في كتابه "نظام عالمي" إلى كون "العلاقات مع إيران يجب أن تحدد ما إذا كانت تريد أن تستكمل المسار الثوري أو أن تعمل كأمة شرعية ضمن نظام وستڤاليا". ولا ترجمة في طهران للكلام الأميركي والأوروبي والعربي على تغيير "سلوك إيران" سوى أنه تغيير "النظام الإسلامي". ذلك أن المرشد الأعلى علي خامنئي يقول بصراحة إن "العداء لأميركا هو المبدأ وأساس الثورة"، وينصح معاونيه بأن لا يثقوا بالأوروبيين.
وأميركا التي أفادت إيران، من حيث تريد أو لا تريد، حين أسقطت بالقوة أيام الرئيس جورج بوش الابن خصمي طهران في أفغانستان والعراق، مطبقة المبدأ الإيراني القائل "إضرب رأس الأفعى بيد عدوك"، ثم ذهبت أيام الرئيس باراك أوباما إلى الحوار والاتفاق النووي، اندفعت أيام الرئيس دونالد ترمب نحو الضغط الكامل على إيران: من الخروج من الاتفاق النووي وإعادة فرض العقوبات إلى إعلان استراتيجية "كبح النفوذ الإيراني" في الشرق الأوسط، والسعي إلى إقامة حلف للوقوف في وجه تدخلها في شؤون جيرانها.
لكن استراتيجية ترمب لا تزال بلا خطة عملية: مجرد اتكال على تأثير العقوبات الاقتصادية في الداخل. ورهان على صفقة مع روسيا لإخراج القوات الإيرانية ووكلائها من سوريا. ولا أحد يعرف مدى تأثير العقوبات على تركيبة نظام ديني، بصرف النظر عن الضائقة الاقتصادية والاجتماعية وانهيار سعر العملة الإيرانية مقابل الدولار الأميركي. ومع أن مصالح موسكو وطهران مرشحة للاختلاف في المراحل التالية من حرب سوريا، فإن إيران هي "جائزة بوتين"، كما جاء في مقال البروفيسور والي نصر في "فورين أفيرز".
والواقع أن طهران ترى نوعاً من السذاجة في الدعوات إلى تغيير سلوكها والانتقال من الثورة إلى الدولة. فهي، وفق الدستور، محكومة بأن تبقى في "ثورة دائمة". إذ جاء في مقدمة الدستور "إعداد الظروف لاستمرارية الثورة داخل البلاد وخارجها حيث السعي إلى بناء الأمة الواحدة في العالم". فضلاً عن أن من مهام القوات المسلحة "بسط حاكمية القانون الإلهي في العالم". وبصرف النظر عن اللاواقعية في هذا الرهان، فإن طهران تتصرف على أساس أن تغيير السلوك مهمة مستحيلة بالنسبة إلى أميركا. والنظرة إلى أوضاع المنطقة والعالم، كما يرى خامنئي، "تدل على اليد العليا للجمهورية الإسلامية في المتغيرات وتكشف أن سياستها الإقليمية تقترب من تحقيق أهدافها".
ذلك أن قوة النظام في الداخل مرتبطة بنفوذه في الخارج. وما تبني عليه طهران سياستها هو إقامة مراكز قوى مسلحة في البلدان المجاورة، مثل حزب الله في لبنان والحشد الشعبي في العراق والحوثيين في اليمن، فضلاً عن الفاطميين والزينبيين. وأي نجاح في كبح النفوذ الإقليمي لإيران يؤثر بقوة على وضع النظام. والتحدي الكبير في الداخل، اقتصادياً واجتماعياً، مرشح لأن يكون سياسياً وثقافياً. فالنظام أخذ ورقة من الكتاب السوفياتي: بناء قوة عسكرية في الداخل وتمويل قوى وميليشيات في الخارج. وأكثر ما تفاخر به طهران هو تطوير سلاح الصواريخ. لكن سباق التسلح في وضع اقتصادي واجتماعي صعب قاد إلى نتيجة واضحة: انهيار الاتحاد السوفياتي من الداخل، مع أن جاذبية الأيديولوجيا الماركسية كانت مؤثرة في فئات متعددة في كل بلدان العالم. أما جاذبية الأيديولوجيا الدينية الإيرانية، فإنها تقتصر على أوساط شيعية في العالم العربي وحوله. كما أن قوة إيران وثرواتها لا تقاس بما كان للاتحاد السوفياتي من قوة وثروة.
ومن الوهم الرهان على مكاسب لحظة واحدة في التاريخ. فاللعبة معقدة جداً في النظام العالمي. والزمان تجاوز أحلام الإمبراطوريات، سواء بالنسبة إلى الإمبراطورية الفارسية أو إلى السلطنة العثمانية. فكيف إذا كان حلم الملالي إعادة بناء إمبراطورية فارسية على سلطة دينية مذهبية؟ كيف إذا كان ما أسهم في ما تسميه إيران "الانتصار الإلهي" هو غلطة أميركية في العراق وأفغانستان، وحسابات روسية في سوريا متصلة بلعبة الخصومة والمشاركة مع أميركا؟ وكيف إذا كانت الأكثرية العربية في موقع مختلف عن الأقلية التي تديرها إيران؟