Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

شهرزاد فرنسية تروي حكاياتها في إطلالة عصرية وحنين إلى ماضي الشرق

"ألف ليلة وليلة" في مسرح الأوديون الباريسي وصوت أم كلثوم يصدح

"ألف ليلة وليلة" في صيغة فرنسية عصرية (مسرح الأوديون)

من منّا لم يغفُ على قصص "ألف ليلة وليلة" وحكاياتها السحريّة الغريبة العجيبة التي عُرفت في الغرب بالليالي العربيّة؟ ليال حافلة بالأحلام والحكايا المتوهّجة التي تطير بنا نحن قرّاءها على اختلاف أعمارنا نحو عصر العرب الذهبيّ. قصص حبّ ومغامرة وتشويق تمزج ما بين الخرافة والواقع وتضع الإنس والجنّ في عالم واحد من الشاعريّة والتراجيديا والتشويق. قصص العمالقة والغيلان والعفاريت والصعاليك والحيوانات الناطقة والدهاليز العجيبة والجزر البعيدة والقصور الهائلة والأحداث المتخيّلة. أساطير نسجتها شهرزاد بين دمشق وبغداد والقاهرة لتنقذ نفسها من موت محتّم ينتظرها مع انبلاج كل فجر في بلاط ملكها وزوجها شهريار، ليتحوّل فعل الروي إلى المنقذ والحليف. حكايا متداخلة مترابطة منصهرة روتها شهرزاد في محاولة يائسة منها للهرب من العنف والغضب والانتقام عبر اللجوء إلى الكلمة والقصة والرواية، لتتحوّل "ألف ليلة وليلة" إلى أول مجموعة قصص متداخلة في نظام تبئير (mise en abyme) متماسك متقن فريد لم يعرف له الأدب مثيلاً.

تحمل قصص "ألف ليلة وليلة" في طياتها ما لا عد له ولا حصر من حوادث الدهر وحكاياته، قصص من غرب آسيا وأخرى من شرقها أو جنوبها، قصص من أفريقيا، قصص من أماكن لم تطأها قدم بشرية، حضارات عربيّة وفارسيّة وهنديّة وأفريقيّة، رواة من كل مكان، عصور ذهبيّة غابرة، عادات وتقاليد، بلاطات، ملوك، خلفاء، وزراء، عامّة شعب، قطّاع طرق، عصابات، قراصنة، يجتمعون بقصصهم وحكاياتهم ومغامراتهم المشوّقة لترويها شهرزاد كل ليلة إلى ملكها الغاضب المخدوع الذي يقتل امرأة مع كل فجر انتقاماً من امرأته التي خانته. نقص في الحب ونقص في الثقة ونقص في الإنسانية حوّل القصص إلى منقذ، وفعل السرد إلى السبيل الوحيد للنجاة.

سحرة ومشعوذون وعشّاق منهم الخيّر ومنهم الشرّير انتقلوا من الشرق الأسطوريّ منبع الخيال والخرافة وليالي الأنس إلى مسرح الأوديون في الدائرة السادسة بباريس (Théâtre de l’Europe, Odéon)، انتقلوا مع شهرزاد ليقدّموا عرضاً من حوالى ثلاث ساعات مشحوناً بالعشق والمغامرة واللامتوقّع المغرق في الغريب والمتخيّل. ثلاث ساعات ينتقل فيها المشاهد إلى زمن بعيد تحمله إليه كلمات شهرزاد التي تبدأ دوماً بجملتها الرائعة "بلغني أيّها الملك السعيد".  إذاً "ألف ليلة وليلة" في باريس بعد مئات السنوات، وشهرزاد فرنسيّة عربيّة جديدة تؤدّي دورها نفسه.

مسرحة حديثة

يجيب غيّوم فانسان (Guillaume Vincent)، مخرج هذا العمل المسرحيّ الجبّار، على سؤال طُرح عليه حول سبب اختياره هذا العمل ليقدّمه للجمهور الباريسيّ إنّه بالعمل على هذا النصّ حاول أن يتحوّل إلى حكواتيّ يشبه شهرزاد بأسلوبها ونمطها ولغتها، فهذا النصّ كان مفتاحاً ذهبيّاً إلى عالم الشرق الزاخر بعجائب الأمور، عالم يجذب الحواس كلّها ويستحوذ عليها. ويضيف فانسان أنّ السرّ وراء اختيار هذا النصّ هو أنّه يمنح الإيمان بالحكايا والقصص، فهي المنقذ والملجأ في عالم وحشيّ يقتل ولا يرحم.

اختار هذا المخرج الفرنسيّ الأربعينيّ أن يعمل على "ألف ليلة وليلة" بعدما قدّم عروضاً مستوحاة من نصوص أوفيد شاعر الرومان العريق وأخرى لشكسبير الغنيّ عن التعريف، ويتحدّث عن نصّ "ألف ليلة وليلة" واصفاً إيّاه بأنّه يعزّز إيمانه بالكلمة وفعل السرد، فوحدها القصّة تقف في وجه الموت والقتل والعنف والبربريّة، وهذه المعادلة بالذات هي ما جذبته إلى النصّ في بادئ الأمر.

يبدأ غيّوم فانسان عرضه بمشهد رائع قويّ منصهر تمام الانصهار مع أجواء نصّ "ألف ليلة وليلة" المشحونة بالقتل والعنف والغضب، أجواء يفرضها الملك شهريار الناقم. فتظهر على خشبة المسرح فتيات مرتعشات مرعوبات في فساتين زفاف بيض يؤدّين رقصة الموت الأخيرة قبل الدخول إلى سرير الملك. نساء خائفات يسرن نحو الموت قسراً ولا يملكن أي سلاح في أيديهنّ ينجون به من الموت ومن غضب الملك. ثمّ تظهر شهرزاد وسط هذه البداية الدمويّة والأضواء الحمر والأصوات الصاخبة لتحوّل المسار وتبدأ لعبة التبئير والسرد والحكايا. وتنقسم أحداث العرض إلى قسمين اثنين مختلفين تمام الاختلاف من حيث الديكور والقصّة وطريقة التقديم والتمثيل، قسمان تفصل بينهما استراحة من عشرين دقيقة بالكاد تكفي ليستعيد فيها المتفرّج أنفاسه.

تدور أحداث القسم الأول من العرض في مصر، فيقدم غيّوم فانسان في هذا القسم قصّة الحمّال والبنات الثلاث التي تدخل ضمنها قصص الصعاليك الثلاث ثمّ قصص الفتيات والكلبتين. ويعتمد العرض في قسمه الأول أجواء وفيّة لنصّ "ألف ليلة وليلة" من حيث الحوار وأبيات الشعر والتمثيل والأحداث والديكور والملابس والموسيقى. ولا يتوانى فانسان في إظهار مشاهد عري في قسمه الأول هذا، مشاهد هي بالفعل ثاقبة ومتماسكة وأنيقة وتفي النصّ الأصليّ حقّه، فلا يخفى على أحد أنّ قصص "ألف ليلة وليلة" فيها ما فيها من مشاهد فاضحة بعيدة عن الحشمة والتابوهات تماماً. وينتهي هذا القسم  بلفتة رائعة لأمّ كلثوم (1898- 1975) وتاريخها وارتباطها الوثيق بالعصر الذهبيّ الذي مرّت به مصر والأغنية العربيّة منتصف القرن العشرين.

أما القسم الثاني من العرض، فتدور أحداثه في باريس وينقل قصّة عزيز وعزيزة من نصّ "ألف ليلة وليلة" إنما مطعّماً بشيء من عصرنا اليوم وتفاصيل حياة باريس القرن الحادي والعشرين. ويختلف ديكور هذا القسم وملابس الممثّلين فيه تمام الاختلاف عن القسم الأول رغبة من المخرج في إضافة لمسة تحديث وإعادة قراءة للنصّ. وبينما ابتعد هذا القسم عن جو الدفء والإلفة وسحر الشرق الغامض الذي تميّز به القسم الأول، تمكّن فانسان بعض التمكن من أن يبقي على روح "ألف ليلة وليلة" والليالي العربيّة وعطر ذاك الزمن الغابر على الرغم من التغييرات الواضحة في النصّ والإطار الجغرافيّ والزمانيّ المختلف، تغييرات لم تكن متقنة دائماً تمام الإتقان.

لا يمكن لمن يعرف نصّ "ألف ليلة وليلة" بالعربيّة إلاّ أن يشعر بشيء من الحسرة لانتقال الكلمات والقصائد إلى الفرنسيّة على الرغم من رقيّ الترجمة والتمثيل، وما أضاف مزيداً من الشجن الجميل والتوهّج على هذا العرض هو أغاني سعاد ماسي والخالدة أم كلثوم التي صدحت طوال العرض بشيء من النوستالجيا والحنين إلى زمن ذهبيّ بعيد، زمن الأساطير والخرافات والمستحيل القريب المتناول.

يقوم غيّوم فانسان بخيار رائع عند اختياره أغنية سعاد ماسي "يا راوي" لتؤطر عرضه في مرحلة من المراحل، فتصدح الأغنية بكلماتها المذهلة لتعيد المتفرج إلى طفولته حين كان يلتهم الحكايا وينتظر النهايات السعيدة بشغف وإيمان، فيعود فانسان بمتفرجه إلى عمر الطفولة الأول حيث لا هموم ولا مشاكل، حيث كل شيء ممكن الحصول: "إحكي يا راوي إحكي حكايات،...، إحكيلي على ناس زمان، إحكيلي على ألف ليلة وليلة، وعلى لونجة بنت الغولة وعلى ولد السلطان، حانجيتك مانجيتك، ودّينا بعيد من هادي الدنيا، حانجيتك مانجيتك، كل واحد منا في قلبه حكاية."

يستمر عرض هذه المسرحية في الأوديون بباريس حتى الثامن من ديسمبر (كانون الأول)، ثم ينتقل إلى مسارح أخرى في باريس وخارجها.

المزيد من ثقافة