Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

التونسي حسونة المصباحي... يكشف أسرار المدن وإيقاعاتها

 "كتاب التيه" مجموعة نصوص تنتمي إلى أدب الرحلة

الدار البيضاء في المغرب (يوتيوب)

الروائي التونسي حسونة المصباحي واحد من الكتّاب العرب، الذين قدموا من حقل الأدب إلى عالم الصحافة، محملين بثقافة عميقة في السياسة والآداب والفنون والفلسفة، ما جعل كتاباتهم تأخذ بعداً آخر، لا يرتبط بالكتابة الصحافية بمفهومها اليوم، إذ إن لغتهم لا تكاد تخلو من الأدب وتأثيره في بنية النص. وهذه الظاهرة برزت بشكل كبير منذ السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي لدى كوكبة من الأدباء الذين عملوا في الصحافة العربية على اجتراح مشاريع أدبية داخل الصحافة المكتوبة، ربما لأن الجريدة كانت الوسيلة الوحيدة لتمرير خطاباتهم وآرائهم في عدد من القضايا السياسية والثقافية. وقد ظللت شخصياً حريصاً على تلقف كل ما كان يكتب من لدن هؤلاء الأدباء في عدد من المنابر الإعلامية العربية حول الشعر والرواية والقصة والتشكيل والسينما، هذا إضافة إلى مقالة الرأي التي نجح فيها الكاتب التونسي حسونة المصباحي في مجلة "فكر وفن" الموجهة إلى قراء العالم العربي والتي عمل فيها سكرتير تحرير، قبل أن أعرفه قاصاً وروائياً في ما بعد من خلال روايته "هلوسات ترشيش" وكتب أخرى مثل: حكاية جنون ابنة عمي هنية، الأميرة الزرقاء، يوميات الحمامات، فضلاً عن ترجماته الكثيرة التي نقلها من اللغتين الفرنسية والألمانية إلى العربية.

في كتابه الجديد "كتاب التيه: رحلات إلى مدن من الشرق والغرب" الصادر حديثاً في تونس عن دار نقوش عربية، يعمل المصباحي بشكل خفي على سرد حكاية مدن وأوجاعها من خلال عدد من الرحلات، التي قام بها منذ ثمانينيات القرن المنصرم نحو مدن مشرقية وغربية مثل: ميونيخ، فيينا، برلين، سراييفو، مدريد، فاس، الدار البيضاء، أصيلة، زيوريخ، ستوكهولم وغيرها من المدن، التي عشقها، يمارس معها دوماً نوعاً من النوستالجيا الخفية الساحرة، مقتفياً فيها أثر الكتاب والشعراء والفنانين، الذين عاشوا فيها بأسلوب يتأرجح بين التوثيق والإخبار والسرد والسيرذاتي والشعر. وهذا الأخير يشكل الحجر الأساس في دوافع الرحلة وأيضاً في بنية النص، بحيث أن جميع نصوص الكتاب تتخللها بشكل هوسي أشعار الشاعر الكبير لوركا حول المنفى والطبيعة والجسد وهسيس المدن، التي تسكن مخيلة الكاتب قبل زيارتها. يسرد لنا على ألسنة ناسها أوجاعها وأفراحها، مجملاً بأسلوبه الشاعري كل ما هو قبيح. يقول في أحدى رحلاته: "أشعر أحياناً أن الأنهار تروي التاريخ أفضل من القلاع والمعابد والأهرامات والمتاحف، وحتى من كتب المؤرخين. لكأنها في حركتها التي لا تنقطع أبداً توحي لنا بأنها الأكثر ارتباطاً بالماضي والحاضر. وأنها تحمل في مياهها أسرار كل ما مرت به الشعوب والأمم من أفراح ومن أتراح. هكذا النيل، ودجلة والفرات، والفولغا، والرين، والمسيسيبي، والوادي الكبير…".

كتابة مفتوحة

وفي إحدى رحلاته المثيرة إلى مدينة الدار البيضاء، ينتقل بنا حسونة المصباحي من عالم الشعر والجمال إلى عالم أكثر واقعية وقبحاً، عبر كتابة أدبية مفتوحة عابرة للأجناس الأدبية، مقاوماً فيها تصحر اللغة التحليلية وتقريريتها وقهر الأجناس الأدبية وضيقها، معتمداً على شكل كتابة يقوم على الانطلاق من الذات ومخبئها في محاولة الاشتباك مع قضايا راهنة وعوالم متخيلة يستحضر فيها أطياف تاريخها وسيرتها الجريحة، وعلاقته الشخصية مع كتابها مثل الكاتب محمد زفزاف والشاعر محمد بوجبيري. يقول: "في قلب الدار البيضاء، ينتصب فندق ريجنسي شامخاً. وبين المدينة العصرية ذات الملامح الكولونيالية، والمدينة العتيقة بفقرها، وروائحها الكريهة، وفوضاها، وأزقتها الضيقة، يبدو ريجنسي كما لو أنه رمز لغطرسة التمدن المعطوب الزائف. وبائع الحلزون صاح بي مغتاظاً، لا تصورني بل صور فندق ريجنسي لأنه المغرب الحقيقي. هكذا، وبكل عفوية وبساطة، نفى بائع الحلزون وجوده، ووجود الملايين من أمثاله ليكون وطنه المغرب مجرد فندق فخم يراه قريباً منه، لكنه لن يتيسر له الدخول إليه…".

يشخّص المصباحي من خلال كلامه هذا، الإيقاع الخفي للمدينة، فهو ينتصر هنا للمهمشين والمستضعفين بطريقة تظهر شيزوفرينية المدينة وتناقدها الطبقي بين الفنادق الفخمة وبين المنازل الواطئة وما يحيط بها من دور الصفيح، وهي المدينة التي ألهمت الكاتب محمد زفزاف وغيره من الكتاب المغاربة على اختلاف مشاربهم الإبداعية في محاولة استلهام أمكنتها وشخصياتها من العالم السفلي، بغية خلخلة واقعها ومساءلة بنية اللامفكر فيه داخل هذا الواقع وعوالمه من السرقة والخيانة والجنس وتجارة المخدرات، الأمر الذي جعل من الكاتب محمد زفزاف يتربع على عرش الرواية المغربية منذ سنوات، عاملاً على اجتراح مشروع أدبي ينطلق من الخصوصيات المحلية المهمشة وقضاياها، من دون استعارة عوالم أخرى غربية بعيدة منه. يقول زفزاف لحسونة المصباحي في آخر اللقاء ببيته: "لقد ولدت في أحياء القصدير والفقر والعنف… وفيها عشت مراقباً حياة الناس بدقة، مقتسماً معهم آلام الحياة وأوجاعها. لذلك ركزت كل ما كتبت من قصص وروايات على عالم هؤلاء الناس الذين هم ملح المغرب جنوباً وشمالاً، شرقاً وغرباً...".

عمل المصباحي في كتابه هذا، إلى تجاوز "الهوية" بمفهومها الضيق، معانقاً رحابة الكوني من خلال أشعار عالمية، نجد فيها أنفسنا داخل نسيج ثقافي متشابك ومتمازج في الثقافات واللغات الأخرى، بطريقة يجعلنا فيها المصباحي نقبل الآخر ونتحاور معه سياسياً واجتماعياً وثقافياً، لكن من دون الإقامة في تراثه وفكره، وهو الأمر الذي كان قد انتبه له المفكر عبد الكبير الخطيبي في كتابه "النقد المزدوج" الذي عمل على تخليص العالم العربي من النزعة الاستعمارية والهيمنة الإمبريالية من خلال مفهوم التفكيك déconstruction الذي استعاره من صديقه المفكر الفرنسي جاك دريدا، كآلية منهجية تقوم على نقد جدلية أو ثنائية "الأنا" و"الآخر" داخل الفكر العربي المعاصر، هادفاً إلى اقتراح رؤية نقدية تجد موطنها الفعلي داخل فكر الاختلاف.

وللتعبير عن سحر الأمكنة ودفء الحكي ومرارة التاريخ وفداحة حاضره، عمد حسونة المصباحي إلى أسلوب سلس وشاعري ووصفي، يجعله قريباً من كتب الرحلات أو اليوميات، ولكن بطريقة أكثر حداثة، بما يجعل مفهوم الرحلة لديه يتخذ بعداً نوستالجياً، فهو لا يكتفي فقط بوصف المدن وأحلامها، بل يعمل على سبر أغوار تاريخها الخفي من خلال كتّاب وشعراء ومعالم أثرية، من دون أن ينسى الحاضر الذي يقيم فيه، بطريقة يجعل رحلاته ضاربة في أمكنة وأزمنة مختلفة ومتموجة في آن، كأن الكاتب يعمل على العيش والإقامة في زمنين مختلفين، يسرد لنا حكايتين عن مدينة واحدة، الأولى يلوذ فيها إلى الحنين عبر استعراض ماضي المدينة بكل أوجهها، والثانية يعمل من خلالها على تعرية المكشوف والمخبوء في آن واحد، لكن من دون التنكر إلى واقعه، فهو يعيشه بكل أفراحه وخيباته وانكساراته، مبدياً آراءه في عدد من الإشكالات والقضايا السياسية والاجتماعية والثقافية، التي تعترض سير الإنسان العربي وتقدمه منذ القدم إلى الآن.

المزيد من ثقافة