Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

أمجد ناصر بحث عن البشر والأماكن من المتوسط إلى المكسيك

كتاب صدر بعد غيابه... ينتمي الى ادب الرحلة

مشهد من مدينة نابولي المتوسطية (يوتيوب)

في كتاب صدر حديثًا بعنوان "حياة متوسطية… وعندما تكون في بلاد ماركيز" ضمن منشورات وزارة الثقافة الأردنية، (134 صفحة، 2019)، وربما لم يتمكن الشاعر (الراحل) أمجد ناصر أن يراه منشورًا قبل رحيله. في هذا الكتاب يعود الشاعر والنّاثر والسّارد- الروائيّ إلى "أدب الرحلات"، ويذكّرنا بكتابة أمجد في عدد من كتبه، خصوصًا "خبط الأجنحة"، و"تحت أكثر من سماء"، وغيرهما.  

الكتاب نَصّان، النصّ الأول طويل بعنوان "أمالفي: حياة متوسطية" في سبعين صفحة، والثاني "عندما تكون في بلاد ماركيز" ويشتمل على ثمانية نصوص. ويتنقّل بنا الشاعر، كعادته، في الأمكنة التي يزورها، ومناخاتها وثقافاتها وأعراقها. وهو هنا يبدأ من مدينة "أمالفي" الإيطالية، الصغيرة ولكن الثريّة بمعالمها وتاريخها، ويجول بنا في عالم المتوسّط، نابولي، وأمالفي، ويكشف لنا كم هي المدن هنا شبيهة بالمدن العربية، خصوصًا "الحواسّ تعمل بجدارة: البصر... الشمس القوية المطلّة على البشر والطبيعة دوماً". بل إن الزمن عند الإيطاليين مثل الزمن عند العرب، "مطّاط ومرن أكثر من اللازم"".

 وقبل الوصول إلى "مالفي"، يأخذنا المؤلّف في جولة على نابولي حيث "حرارة المكان والبشر والعمارة والشرفات.. شبيهة بالعالم العربي والمتوسط"، وحيث "الحياة المتوسطية تُعاش في الهواء الطلق، بينما الحياة الغربية الأوروبية، وخصوصاً بريطانيا، تنسحب إلى الدواخل وتسدل الستائر الثقيلة كأنّما تتستّر على سر أو فضيحة...". وهو يصف بالتفصيل الشبه بين النساء والرجال في الطريق الجديدة في بيروت، وعالم نابولي " الغسيل يتدلّى من حبال على الشُّرُفات"، والمعمار الذي يشبه المعمار في الإسكندرية وبيروت والدار البيضاء، فهنا نجد نباتات المتوسط، ونلتقي الشاعر ألبرتو ماسالا ابن سردينيا وشعبها ذا الأصول الفينيقية، ويرى أن بنزرت التونسية أقرب إلى هنا من روما، أما اسم سردينيا القديم "سردوس" فهو اسمٌ لابن هركل ملك صور، والشعر هنا ليس حاجة جماليّة متعالية وحسب، بل هو كذلك حالة احتجاج وفضح للظلم والفساد. وهنا يحضر الشاعر الطوارقيّ خوّاد الذي يرى الشعر شبيه الكَهانة، وهو نفسه شامان مسلم يكتب بأبجدية "تيفناغ" فينيقيّة الأصل.

ومع المرور على بركان فيزوف الشهير، والبشر القاطنين حوله عن قرب، يذكّرنا أمجد بكارثة بركانية في مدينة تُدعى "بومبي". البركان الذي دفن بيوت "بومبي" وشوارعها ستة عشر قرناً تحت طبقات من الرماد الصلب، ولعلها كما يقول المدينة "الوحيدة في العالم حافظت على لحظة ثابتة في التاريخ. لحظة جمدتها حمم البراكين إلى الأبد.. بشر صاروا مومياوات حجرية…". ويتوقف عند طريق مرعبة إلى أمالفي، طريق جبلية حادة، أمالفي الجبل وبيوتها بين السماء والبحر، فالمدينة تشبه صخرة كبيرة، ولها حضورها المهمّ في الفنون عامة، والسينما خصوصاً. ويذكّرنا المؤلّف بالتشابه بين الأماكن الإيطالية والأماكن العربية، فهذا جبل "لاتري" (الحليب) يذكّر بجبال عمان، وهنا ثمة كنيسة بناؤها كالجامع الأمويّ حيث العمارة عربية إسلامية.

ويعرّج على تاريخ من الغزوات شهدتها المدينة، وكان "الساراسيّون" العرب بين أبرز الغزاة منذ 827 ، في صقلية، ثم الاغالبة والفاطميون الذين حكموا جنوب إيطاليا عام 200. لكن العرب

وقبائل من الشرق وسورية، لم يكونوا مجرّد غزاة، بل تركوا آثاراً مهمّة خصوصًا في مجال العمارة والزخارف. ومن بين الملامح التي تجذب الانتباه، الفندق البيتيّ الطابع الذي ينزل فيه، حيث يبدو "شظية متطايرة من الأبد، ويبرز الانسجام قريبًا من التجلّي الصوفيّ، والمشهد الريفي المتقشف يردّ الى الطفولة الملجأ.

ومن بين الشعراء الأبرز، ممّن شاركوا في مهرجان "أمالفي" عام 1998 على ما يذكر أمجد، كان حضور الشاعر لورنس فيرلنغيتي الذي يُعدّ عرّاب شعراء "جيل البيت" في أميركا، فهو قرأ ما يعتبر القصيدة/ البيان عن الشعر الحديث، قصيدة مهداة إلى ألن غينسبيرغ، يقول فيها الكثير في مزيج من اليومي والوجودي في قصائده، شعراء "البيت" والسخرية والهجاء والملموس.

 ولعلّ من الطريف أن يلتفت أمجد وبشدّة إلى ملامح البشر أينما اتّجه هنا، وتجذبه الملامح الشبيهة بملامح العرب عموماً، وملامح الأردنيّين خصوصاً، فهو يرى ملامح شابٍّ إيطالي كأنه من قبيلة الحويطات او بني حميدة الأردنية.    

بلاد ماركيز

بعد هذه الرحلة في عالَم/ عوالِم "المتوسّط"، ينتقل أمجد ناصر إلى كولومبيا (عام 2004)، فنقرأ نصوصاً تحمل عناوين، وليس أرقاماً كما هو حال "المتوسّط"، عناوين تبدأ من "في بلاد ماركيز" وانتهاءً بـ "في بلدة بابلو اسكوبار". وهو يبدأ مع "سيلفيا"، الطالبة الكولومبية ذات المسحة الهندية الواضحة، وكاتالينا المهجّنة من الأوروبي والهندي، كبدوي مترحّل يعتمد في الوصول إلى الأمكنة  على سؤال الناس، لا على المكتوب على اليافطات والشاشات، فنراه يضيع في اسبانيا حيث ندرة المتكلمين بالإنجليزية، والبديل لغة الاشارة، ويفقد جواز السفر، قبل الاتّجاه من مدريد إلى بوغوتا، للمشاركة في "مهرجان مديين الشعريّ"، حيث الشعراء والشاعرات بالعشرات، من دول شتّى، خصوصاً من كولومبيا المتعددة، بشوارعها التي تشبه أيضاً الشوارع العربية، كما أنّ سِحَن الناس هنا تشبهنا، فالمدينة خليط بين معالم أوروبية كولونيالية وبؤس عالم - ثالثيّ.

ويتوقّف بإعجاب وتقدير كبيرين حيال ظاهرة عشق الكولومبيين للشعر، فيشير إلى جمهور من طلبة الجامعة في قاعة مكتظة بلا رنين هواتف ولا خروج بعد بدء القراءات، ويقرأ شعارات ضد أميركا، ويشاهد صوَراً للمناضل الأممي تشي غيفارا "مثل بيروت السبعينات"، ويعجب من الشاعرة اندريا واهدائها مجموعتها له فتكتب "إلى صاحب أجمل عينين رأيتهما، وفي هذا المناخ، يقرأ "قصيدة مؤجلة إلى نيويورك" عن شاعر يريد كتابة قصيدة ضد المدينة رمز الرأسمالية، ويفاجأ بالتفاعل والحماس الطلابيّ.

وتحت عنوان "كائنات فرناندو بوتيرو"، مبتدئاً بالتحذير الذي تلقّاه من المنظّمين، بخصوص المشكل الأمنيّ والاختطاف والسرقة، ثمّ يكتب بحرارة عن "المتحف" والنظر إلى أنّ ثمّة موقفاً من الفن يقوم على العزل، فهو لا يجوز بذله للعامة، عكس الفن الإسلامي القائم على كونه ذا وظيفة. وبالوصول إلى الرسام والنحات بوتيرو، أحد المؤسسين لحداثة الفن التشكيلي بتخصصه في العنف العاري المرح أحياناً، حيث العنف أمر شائع في بيئة كولومبيا. لكن المفاجأة هي في معرض بوتيرو عن الفظاعات الأمريكية في سجن أبو غريب، معرض يشتمل على 60 لوحة متنوعة. مع إشارة هنا إلى أن البلاد تتلقّى مساعدات أمريكية مليار و300 مليون دولار، فهي ساحة خلفية لواشنطن، ولكن ثمة نفوذ قوي لليسار الماركسي المسلح أيضًا.

وبالنظر في تعدد كولومبيا، فهو يكشف أكثر من وجه لها، "لا بلد من التي زرتها يشبه كولومبيا" يقول، ويكشف تنوع الطبيعة وغناها، وقوة حركات حرب العصابات وانقسام الموقف الأهلي منها، وذوي الأصول العربية والفلسطينية، والأتراك والسوريين، ضمن هذا الموزاييك العرقي الناجم عن تجارة العبيد والهجرات طوال 5 قرون. ولا بد بالطبع من زيارة "بارانكيا" التي يقول إنها "شكّلت انطلاقة ماركيز الأولى". وبخصوص التعدد، بل التناقض، فإنّ مدينة "مديين" التي تحتضن المهرجان، تضمّ واحدًا من أكبر كارتيلات المخدرات التي يعمل بها اليسار واليمين السياسيّان، لكنها في الوقت نفسه، مدينة تحب الشعر والموسيقى والمرح أيضًا.

وإلى ظاهرة المخدّرات المنتشرة بقوة، تبرز ظاهرة الاختطاف بلا أسباب، والبلد بشهد حرباً بين القوات الحكومية مدعومة بالميليشيات اليمينية من جهة، وقوى اليسار المسلح من جهة، حيث السلطات الكولومبية تقاتل بضراوة ضد جماعة "الفارك" اليسارية المتطرفة، وكولومبيا الكبرى تعاني التشظي والانفصال، وليست هي بلد سيمون بوليفار، بل إن تاريخ اليسار الكولومبي شهد انشقاقات عدة.

في فصل "ماركيز ومجموعته"، يبرز ناصر تشابه هذه البلاد مع العرب، لجهة الفساد والعسكر وتوق الناس إلى الحرية، وكذلك من جهة انتشار التيارات الأدبية المتأثرة بالحداثة الغربية. وبالعودة إلى مدينة بارانكيا: يعرض أمجد الحضور البارز للمهاجرين العرب، وللفاشيين والنازيين. كما يتوقف عند ما يسميه "مجموعة بارانكيا" من القصّاصين، ومنهم الصعاليك رواد المواخير في كما نجدهم في كتاب ماركيز "رائحة الغوافة". ويتطرق إلى رواية "البيت الكبير" لألفارو ساموديو وعوالمها الواقعية السحرية، وكذلك رواية الفارو موتيس عن لبنانيّ يسمّيه "عبده بشور".

أمّا في بلدة اسكوبار، مسقط رأس زعيم كارتيل المخدرات الشهير بابلو اسكوبار، فنحن أمام صفٍّ من المطاعم والمقاهي من جهة، وكاتدرائية البلدة من جهة مقابلة، ومن بين تأمّلاته يرى أنّ الدِّين هنا، ليس "أفيون الشعوب"، كما هو شائع في الماركسية، بل "الدين نوع من الرجاء في لحظة المصيبة أو المرض". ويذكّر برؤية السياب "الشيوعي" إلى المرض بوصفه "هالة إلهية"، ونشهد في الختام انضمامه إلى المصلّين في الكاتدرائية، ثم كيف ينضمّ المصلّون المسيحيّون إلى جمهور الشعر في الأمسية التي كان هو يشارك فيها.

لم أقُل سوى القليل عن هذا الكتاب المُفعم بالحيويّة، سواء على صعيد الكلمة واللغة، أم على مستوى التصوير للأمكنة والبشر والطبيعة التي كثيرًا ما بدا مبهورًا أمامها في تنوّعها.

 

المزيد من ثقافة