Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

 الكويتية بثينة العيسى تفضح آليات الرقابة في نظام حزب مجهول... زمنا ومكانا

"بيغ براذر" وزوربا وبينوكيو وأليس... في رواية "حارس سطح العالم"

الكاتبة الكويتية بثنة العيسى (الدار العربية للعلوم)

توضح الروائية الكويتية بثينة العيسى في ختام روايتها "حارس سطح العالم" (الدار العربية للعلوم، منشورات تكوين 2019) أنها لجأت في كتابتها هذه الرواية إلى ما تسمّيه "محاورة" أعمال روائية كلاسيكية "في سبيل رواية جديدة"، وتسمّي الروايات التي اعتمدتها أو انطلقت منها لتبني نصها السردي ومنها "التحوّل" لكافكا و"زوربا" لنيكوس كازانتزاكيس و"أليس في بلاد العجائب" للويس كارول و"1984" لجورج أورويل و"451 فهرنهايت" لراي برادبيري و"بينوكيو" لكارلو غولدوني و"مقبرة الكتب المنسية" لكارلوس زافون وسواها من روايات، استعارت منها بضع إشارات أو رموز. وتبرّر العيسي هذه "الحيلة" الروائية الجميلة بما قاله ألبرتو مانغويل: "القصص جميعها هي تأويلاتنا للقصص، ليس ثمة قراءة بريئة". ولكن هل يمكن القول إنها كتبت فعلاً رواية جديدة يمكن إدراجها في خانة الأعمال الكلاسيكية التي ذكرتها؟

يجد القارئ نفسه إذاً إزاء رواية تقترب مما يُسمّى نقدياً "التناص" (انترتكستويالتيه)، ويلمس أن ما يقرأه يعيد إلى ذاكرته علانية أو مداورة شخصيات ووقائع وملامح يعرفها، لا سيما إذا كان من هواة قراءة الروايات. إلاّ أنّ العائق الذي تعانيه بنية الرواية هو حال التشظي الذي يتخلل اللعبة السردية، وكأن التقنية "التناصية" تحتاج إلى مزيد من الصهر أو السبك. إنها لعبة خطرة حتماً تخوضها العيسى مسلّحةً بثقافتها الروائية، وقليلاً ما اعتمدها روائيون عُرفوا بهذه النزعة، ولعلهم حصروا لعبة التناص برواية واحدة أو شخصيات قليلة. وإذا كان اتكاء العيسى على تقنية جورج أورويل في روايته الشهيرة "1984" مبرراً وواضحاً جراء سلوك روايتها مسلك التخييل "الديتسوبي" وفضح مفهوم الدولة الديكتاتورية "المستقبلية" بكل مقوماتها، فبدا لجوؤها إلى بقية الأجواء الروائية الأخرى، بخاصة الفانتازية منها، مثل "بينوكيو" و"أليس في بلاد العجائب"، وكأنه تهرّب من استحقاق تحديد المكان والزمان ومن مواجهة سلطة الرقابة المقصودة هنا. واستبقت العيسى سؤال القارئ عن هذا التهرّب أو "الحياد" و"الغفلية"، قائلةً في مطلع الرواية إن أحداث هذه القصة "تدور في زمن ما في المستقبل، في مكان لا يُحدث ذكره أي فرق، لأنه يشبه كل مكان آخر". هذا بالطبع تبرير غير منطقي، لا سيما أن الدولة التي سعت العيسى إلى تجسيدها أو رسم معالمها، هي دولة من بقايا الماضي، تماماً مثل الدولة التوتاليتارية التي استوحاها أورويل من الأنظمة الشيوعية أو الستالينية والنازية والفاشية، والقائمة على القمع والمنع عطفاً على رقابة "البيغ براذر" في الشوارع والساحات. كتب أورويل روايته عام 1949 أي في أوج صعود الديكتاتوريات، مفترضاً أنّ حرباً نووية نشبت بين الشرق والغرب ومتخيلاً أنّ مصيراً مأسوياً أو "ديستوبياً" مناقضاً للفكر اليوطوبي سيسود عام 1984. ربما بلاد أورويل غابت في أوروبا ولم يبق سوى نماذج عنها في الصين مثلاً أو كوريا الشمالية. ومؤكد أنّ العيسى لم تتجه نحو هاتين الدولتين. ولو أنها ألقت مثلاً على "البلاد" المغفولة وغير المسمّاة ملامح الدولة الداعشية وخلقت لها معادلاً سردياً في الزمن والمكان والوقائع، فكانت أبدعت عملاً فريداً. لكنها لم تكن في قبيل مثل هذا التخييل، بل هي ابتعدت عنه، وما يُشار إليه هنا أن البلاد التي اختلقتها تحرّم سلطتها الديكتاتورية القول بالجنة والجحيم، فالدين شأن واقعي والكتب المقدسة ممنوعة كلها.

الرواية المخطوطة

يكتشف القارئ في الختام أن الرواية التي قرأها ليست سوى مخطوطة كتبتها صاحبة مكتبة أو "ورّاقة" كما تُسمى أيضاً، تنتمي إلى جهة المعارضة التي تُكنّى بـ"الخلايا السرطانية"، وهي تسرد حياة المفتش أو الرقيب الجديد (البطل نفسه) ومساره بالتفاصيل حتى اللحظة الراهنة، أي قبل أن يرمي بنفسه في نار المحرقة، بعدما أُصيب بالجنون. وكان الرقيب الجديد قد ألقى القبض عليها بعدما كان زميلاً لها في تهريب الكتب، كي يبيّض صفحته لدى جهاز الاستخبارات. ويتساءل لماذا سعت هذه "الورّاقة" إلى أن تختار لنفسها نهاية بائسة في المخطوطة التي كتبتها، فتسمح لبطلها الذي يكتشف أنه ليس سوى شخصية روائية، أن يسلّمها إلى السلطات كي تُسجن. إلاّ أنّ كون الرواية مخطوطة كتبتها "الورّاقة" لم يعنِ أن الكاتبة العيسى شاءت اللعب على مبدأ "الرواية داخل الرواية" وتقنياتها المعقدة، فهي لا تكشف عن أمر المخطوطة إلاّ في الختام، حتى إنّ القارئ لم يتخيل أنّ ما يقرأه مخطوطة رواية مكتملة تماماً حتى بعد سجن صاحبتها التي بدت كأنها عالمة  (على طريقة الراوي العليم) بكل ما حصل وما سيحصل لـ"بطلها" الذي مات بعد القبض عليها. لكنّ مشكلة تقنية تبرز هنا، فـ"البطل" يقول صراحة إن "الورّاقة" توقفت عن الكتابة في اللحظة التي دخل المكتبة ليلقي القبض عليها. وإن تم الافتراض أنّ "الورّاقة" توقفت عن الكتابة هنا فمن أكمل بقية المخطوطة؟ تقول الراوية: "لتذهب الورّاقة إلى الجحيم، فما يهمه الآن أمر واحد فقط، أن يعرف ما لم يحدث". وهذا يعني أن المخطوطة اكتملت وبلغت نهايتها ولو بعد توقف "الورّاقة" عن الكتابة. 

 

لا تخلو الرواية من الطابع الغريب والفانتازي، لا سيما عبر خلطها العجيب بين أجواء وشخصيات ووقائع روائية مستعارة من أعمال معروفة. هكذا مثلاً تبدو الأرانب التي تملأ مكتب الرقابة وتقفز بحرية بين الموظفين كأنها متفلّتة من رواية "أليس في بلاد العجائب"، وقد منع هذا الكتاب بذريعة أن فيه قطاً يتكلم وأرنباً يحمل ساعة جيب. أما فكرة انمساخ "البطل" إلى جحش أو حشرة عملاقة، فهي تعيد إلى الذهن انمساخ بطل كافكا "غريغور سامسا" إلى حشرة. ولعل فكرة محرقة الكتب لا تبتعد البتة عن رواية راي برادبيري "451 فهرنهايت" وحتى مسألة سرقة الإطفائي "غي مونتاغ" في الرواية الأميركية كتاباً من المكتبة التي احترقت بصاحبتها التي لم تشأ مغادرتها، تذكّر بسرقة الكتب من "مقبرة الكتب" التي هي مكتبة رئيس قسم الرقابة، وحتى مقولة ضابط الإطفائيين عن عدم فائدة الكتب وإساءتها إلى الناس وعن مضمونها المسطح في الرواية ذاتها تجد صداها في رواية العيسى. وهذه المقبرة تذكّر حتماً برواية الإسباني كارلوس زافون "مقبرة الكتب المنسية" المتعددة الأجزاء. ويحضر أيضاً "بينوكيو" والنجار، وحتى فكرة المكتبة – المتاهة التي تجلّت في رواية أومبرتو إيكو "اسم الوردة".

ولئن بدت الرواية تتكئ أساساً على معطيات بارزة من رواية "1984"، فهي تضع شخصية "زوربا"، بطل رواية نيكوس كازانتزاكيس في الواجهة، في محاولة خلق حال من التماهي بين "البطل" أو الرقيب الجديد وبين "البطل" اليوناني على الرغم من الفروق الكثيرة التي تفصل بينهما، حتى ليبدو الرقيب الجديد عاجزاً أو شبه عاجز عن فهم شخصية "زوربا" الفريدة والعميقة وعن الإحاطة بها، مع أن الرقيب يعترف أن أشياء كثيرة تغيرت في حياته بعد قراءة "زوربا"، الكتاب الممنوع أيضاً. فهو يصف بطل كازانتزاكيس بأنه "رجل ماجن، صعلوك ونبيل، يتسلّل إلى أسرّة النساء بدافع الواجب، يلعن الزواج، لا يؤمن بالرب ولا بالشيطان، كافر بالوطن ومشكّك في كل الأنظمة". وقد استوقفته جملة قالها "زوربا" "عليّ أن أملأ روحي بالجسد" وبعيد قراءة هذه الجملة، استولت عليه الإثارة فانتزع زوجته من المطبخ وحملها إلى سريره. كان "زوربا" بنظره "حيواناً داعراً"، لكنه لم يفهم سبب حبّه له. هل هذا هو "زوربا" حقاً؟ أليس هذا الوصف ابتساراً لشخصية فريدة في تاريخ الشخصيات الروائية العالمية؟ لا تمكن مقاربة "زوربا"  بعيداً من الصراع التراجيدي القائم بينه وبين العالم أولاً، وبعيداً من الصراع الوجودي بينه وبين شخصية الراوي الذي يسمّيه "الرئيس" والذي تحوّل إلى صراع "مرآوي"، خصوصاً أنّ "الرئيس" هو الكاتب الذي يتولّى سرد حكاية لقائهما القدري. لكن الكاتبة حرة في توجيه أفعال أبطالها الذين تخلقهم على الورق، ولو لم تُبرر هنا كيف غيّر "زوربا" حياة الرقيب الجديد.

مرض المخيلة

تبرز أيضاً في الرواية إلى جانب الرقيب الأول الذي رُقّي في وظيفته من رقيب إلى مفتش،  شخصية مهمة هي ابنته  التي أُصيبت بحسب مفهوم علم النفس الرسمي بـ"تضخم في المخيلة". إنها تحب الحيوانات والطيران أعلى البيت، تكره المدرسة وتفضل عليها البحر والحديقة والبيت وخزانة الملابس التي "فيها ذئب وفي بطنه جدة وفي بطن الجدة حكايات كثيرة". تخاف الطفلة صورة "الرئيس" وتتحاشى النظر إليها. أما هذا المرض "المستعصي" بنظر السلطة، فلا حل له إلاّ في إعادة تأهيل الطفلة ووالديها، فالدولة تريد أطفالاً مثاليين ومستقبليين، لا أذيال لهم (إشارة إلى طرفة ماركيز في "مئة عام من العزلة"). وذات يوم، تكتشف مديرة المدرسة التي تشبه الثكنة أن الطفلة تقرأ كتاب "بينوكيو" الممنوع وهو الكتاب الذي اعتُقل الرجل العجوز في هيئة الرقابة بسببه، فتحيلها إلى التحقيق. تُقاد الطفلة سرّاً إلى مركز إعادة التاهيل الذي يشبه المختبرات الإلكترونية والذي نادراً ما يخرج منه الأطفال المتهمون أو المرضى. وعلى الرغم من خيانة مبدأه وإرضائه النظام الحاكم وتحسين ملفه لدى جهاز الاستخبارات بعد وشايته بـ"الورّاقة" "السرطانة"، فهو لم يتمكن من إنقاذ ابنته عندما سُمح له بزيارتها، بل ربما كان هو السبب في مقتلها أو انتحارها بعدما أرخى القيود التي تربط يديها بالسرير، فنهضت بالسر وراحت تضرب رأسها بالجدار حتى ماتت. إنها الطفولة المعتقلة، مثل الحياة المعتقلة في ظل النظام الثوري الجديد الذي سدّ منافذ المخيلة وحرم فائض المعرفة وقضى على ثورة الاتصالات الحديثة والإنترنت وقنّن الطاقة وأباح طريقة واحدة للعلاقات الجنسية... وأقام ما سمّاه عيد التطهير وفيه تُقام محرقة الكتب ومعرض لأشياء الماضي المتلفة ومنها الكومبيوترات ووسائل الاتصال.

ولعلّ ما يمكن طرحه للنقاش هو فكرة سطح اللغة والتأويل الذي يوصف في الرواية بـ"جحيم الرقباء". يفرض النظام ما تسميه الكاتبة "البقاء على سطح اللغة" و"عدم التورط في المعنى" وعدم التأويل، فإذا تم الحفاظ على سطح اللغة، يصبح الرقيب قادراً على إنجاز وظيفته في خير وجه. وتورد الكاتبة في فكرة طريفة نسخة من  الدليل الرسمي للرقابة ببنوده كافة أو محظوراته، لا سيما في الدين والحكومة والجنس. وتتضح في الدليل فكرة "سطح اللغة" التي تعني "الملافظ والمباني" ونقيضها هو "الأفكار والمعاني"، وكأنّ اللفظ ينفصل عن معناه أو كأنّ سطح اللغة يفترق عن عمقها. طبعاً، هذه فكرة خاطئة في علم اللغة والألسنية ولا تحتاج إلى توضيح. حتى فكرة التأويل الممنوع فكرة غير صحيحة، فالقراءة هي تأويل، ولا قراءة بلا تأويل. لكنّ هذه الفكرة (المكرورة) لا تلبث أن تتضح عندما يعلم القارئ أن النظام يفرض  تأويلاً واحداً للنصوص ومعنى واحداً للمفردات، والخروج عن هذا التاويل  والمعنى جريمة. وهذه الجريمة ارتكبها  بعض الرقباء الذين استمتعوا بما يقرأون، كاسرين قرار السلطة، فالاستمتاع بالقراءة والإصابة بلوثتها، ممنوعان على الرقباء مثل السقوط في التأويل.

الرواية فريدة حقاً بجوّها ولعبتها القائمة على "التناص" الروائي الذي أتاح للكاتبة مقدرات سردية مهمة، حتى وإن بدا النص يحتاج الى مزيد من البلورة ومن الدقة في البناء ومن التبرير الموضوعي. وقد تكون فكرة الدخول الى عالم الرقابة والرقيب في دولة ديكتاتورية مرفقة جدا ولو لم تكن جديدة. ونجحت الروائية في اختيار شخصية الرقيب الأول الذي انتهى مفتشاً وخان نفسه وميوله التحررية وحبه للقراءة الممنوعة، بغية إنقاذ ابنته الوحيدة من براثن النظام، وقد عاش حالاً من الإنفصام او "التفكير الإزداوجي"، حتى انتهى مجنوناً ورمى بنفسه في نار محرقة الكتب.

المزيد من ثقافة