Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

شعراء عراقيون شباب يطلقون "حناجرهم" في ساحات الانتفاضة... نريد وطنا

أمسية "شعر ومقاومة" ترسخ تقليدا عراقيا في النضال

لعل الأمسية التي أحياها شعراء عراقيون شباب في المعهد الفرنسي في بغداد تحت عنوان "شعر ومقاومة اجتماعيّة- حناجر الشباب"، معبرين عن بطولة الشارع  العراقي المنتفض منذ أسابيع، تدل على مدى انخراط الشعراء في مجال النضال اليومي والسياسي، وعلى الدور الذي يمكنهم أن يؤدوه إبداعياً علاوة على نزولهم إلى الشارع مثلهم مثل سائر المحتجين والمناضلين. شارك في الأمسية  شعراء لهم حضورهم في ساحات التظاهر وهم: ميثم العتابي وآلاء عادل ونورس الجابري وصفاء سالم اسكندر، وبمصاحبة العازف أمين مقداد.

في تسمية "الحَنْجرة" هذا الجزء من العنق باللغة الإنجليزيّة :"The voice box"، ما يعني أنّها صندوق الصوت المعني بالتعبير المنطوق عن الإنسان، وهي ذاتها التي تولّد الصوت الجهوري أو المبحوح. ولمّا بدأ التحضير لفعاليّة تستضيف شعراء من جيل ما بعد أبريل (نيسان) 2003، وبالأخصّ الذين يمثّلون الموجة الأحدث في هذا الجيل، ممّن لهم إسهام في ميادين الاحتجاج وساحات التظاهر، كان الاقتراح الموجّه للأصدقاء في "المعهد الفرنسي"، أن نستعين بهذا العنوان "حناجر الشباب" إلى جوار الاسم الثابت للمناسبة السنويّة "شعر ومقاومة اجتماعيّة"، لأنّ أصوات شبابنا علت وبانَ فعلها منذ الأوّل من الشهر الماضي، في انتفاضة غير مسبوقة ما زلنا ننعى فيها الشهيد تلو الآخر.

حناجر في الساحات، صدقها واضح وهتافاتها دليل على أنّ هذه المرحلة تؤسّس لانطلاقة أخرى في هذا البلد ولتغيير حتمي وإنْ كانت ملامحه غير بائنة إلى يومنا.

شعر اليوميات

يبتكر الشعر دائماً قدرة خارقة على عبور التعريفات وتحطيمها، وهو في ذلك الاختراق للثوابت، يتجاور مع الفلسفة، يلتقيان معاً عبر اللغة التي هي بيت يجمعهما. أمّا فلسفة الشاعر ومدى بيان "الشاعريّة" كمفهوم خاصّ لديه، فتطوّرا مع اتّساع المواضيع التي يكتب عنها الشعراء، حينما صار من الممكن تحويل المشاهدات والتفاصيل الصغيرة إلى قصائد، وأبعد من ذلك بتسجيل مواقف عبر قصيدة النثر التي وفّرت هذه المساحة الكبيرة، باختلاف أساليب الكتابة ودرجة الإجادة المتباينة بين تجربة وأخرى.

ولعلّ شاعر اليوم، لا ينتظر منه الراهن إلاّ أن يثبّت موقفه في أكثر من قصيدة، يختلط فيها الدم مع الأمل، وأصوات الرصاص مع أصوات الفتيات والفتيان، رصاصة من هنا وهتاف "نريد وطناً" من هناك.

قصائد احتجاج

نصوص شعريّة كثيرة، مرّت على شريط الحياة العراقيّة بعد 2003، كبيرة كانت في تموضعها الثقافي بالضدّ من مسار الخراب والانكسار الذي عشناه طوال عقد ونصف العقد. صحيح أنّ منطلقات كتابة كلّ شاعر تختلف عن غيره، لكنّها تجتمع تحت لافتة واحدة هي "قصائد الاحتجاج" التي أرادت تعرية الأحداث المتسارعة والصادمة بحقّ إنساننا المحاصَر بأحداق شتّى ينتظر كلّ منها فرصة الافتراس لكلّ ما هو بريء ومسالم.

أمامنا في هذا السياق جملة من القصائد، منها "بورتريه للشخص العراقي في آخر الزمن" لسركون بولص (1944-2007)، عن قيامة هذا الشخص بوجه طابور طويل من الغزاة، لكنّ "الأسوار تعلو مرّة أخرى" و"أوروك تصعد من جديد". وفي نسق شعر الرفض والاحتجاج، يرد بقوّة مثال قصائد "جدارية النهرين" لكاظم الحجاج الذي كثيراً ما ترك على منصات مرابد البصرة رسائل عدّة للسلطة وأحزابها، إذ نقرأ في "أنظر بعين من نهرين": "... وهذي شمالي/ أعفّ وأطهر ممن يصلّي نهاراً، ويسرق في الليل خبز عيالي!".

وبقيت قصيدة "فتاوى للإيجار" صارخة في موقف شاعرها موفق محمّد من المدّ التكفيري وصنّاع الفتن وعقائد الموت التي نالت من البلاد بعد عام 2005 وما تلاها، في حين ذهب خزعل الماجدي إلى إدانة عنف عام 2006 والاحتجاج عليه، عتبته في هذه الكتابة حدث اختطاف ابنه واختفائه إلى الأبد في مجموعة قصائد عنوانها "أحزان السَنَة العراقيّة"، إذ يسائل الأقدار في نصّ "خطف النسيم الذي اسمه مروان": "لماذا تغني الحمامات نشيداً حزيناً/ لماذا تنوحُ؟/ ومن ذا على الأفق أنطرهُ/ ولدي!!/ أم قميص مدمى!...".

وهكذا فعل علي عبد الأمير عجام، متحسّراً على فقد أخيه المفكّر الشهيد قاسم عبد الأمير في كتاب "بلاد تتوارى"، وهو يرثي أخاه: "ماتت سوناتا البلاد... أنا الجنائني سأحيط بالجوري البغدادي، قبرك، وأقول وداعاً لمدينة عرفتها/ في رفيف يديك/ ماتت البلاد/ وماتت سوناتا...".

شعراء  في الساحات

نتذكّر كيف أنّ المثقفين والفنّانين كانوا في صدارة احتجاجات عام 2011، بالتخطيط لها وتهيئة شعاراتها في المقاهي قبيل يوم 25 فبراير (شباط)، ولاحقاً في تصدّر صفوف المحتجين في الساحات، يومها عدّ هذا الحراك نخبويّاً لم يُكتب له أن يتحوّل إلى حالة شعبيّة لها امتداداتها في الشوارع، والأسباب كثيرة، من بينها الهلع من العنف والتفجيرات المتتالية والخوف من انهيار أكبر، جرى التلويح به كثيراً، وتجنّباً أيضاً للوقوع في خانة ذلك المتهم بتنفيذ أجندات لا تريد الخير للعراق! فكان الخروج في تظاهرة بمنزلة الخوض في حقل ألغام من الصراع السياسي والطائفي المستعر آنذاك.

عاب متابعون ومنخرطون أيضاً في مدار الحركة الاحتجاجيّة على بعض ظهورات المثقفين السابقة في تظاهرات البلاد، بأنّها متخمة بالإعلان عن الذات من دون إيثار، في مشاهد من "السيلفي" والإصرار على تبني قيادة هذه الحركة، فكانت انتفاضة تشرين مختلفة في انبثاقها من الشوارع والأحياء المقهورة التي وجدت في الحالة السياسيّة العراقيّة مصادرة أبديّة لأيّ مستقبل مأمول،  فالثراء الفاحش ورهن القرار العراقي بيد الخارج، لذا رحّب النمط الجديد من حراك تشرين بالمثقفين والشعراء الشباب منهم على وجه الخصوص، كجزء من صورة لم ترسمها الإنتلجنسيا العراقيّة أو تلك النخبة التي لم تخدمها الظروف سابقاً في إيجاد احتجاج طويل ومستديم له استراتيجيته، مع الإقرار بأنّ موجات التظاهرات الماضية هي تمارين شجاعة ومجانيّة لأطفال الأمس، أي جيل هذه الألفية الجديدة من الشباب الثائر.

طبيعياً كان تخلّي الشعراء الشباب عن لقطات "السيلفي" أمام عظمة ما يحصل وتاريخيّته، لأنّ الصورة هذه المرّة جماعيّة، لن يتقدّمها "مثقف سوبر" يعتلي المنبر، فلا منابر ولا منصات في أيّام الشباب وزمنهم وحدهم، هم في المقدمة والباقون معهم في رسم هذه اللحظة الفارقة.

المزيد من ثقافة