Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الروائي جان بول دوبوا يزج أبطاله في السجن...  ويفوز بجائزة غونكور الفرنسيّة

"لا يسكن الناس جميعهم هذا العالم بالطريقة نفسها" رواية بوليسية

الروائي الفرنسي جان بول دوبوا مع روايته الفائزة (موقع الجائزة)

حاز الصحافيّ والروائيّ الفرنسيّ جان بول دوبوا جائزة غونكور لهذا العام عن روايته "لا يسكن الناس جميعهم هذا العالم بالطريقة نفسها" (Jean-Paul Dubois, Tous les hommes n’habitent pas le monde de la même façon). ويتميّز نصّ دوبوا بتماسكه وقدرته الهائلة على الاستحواذ على اهتمام قارئه، فعنصرا التشويق والإثارة يمسكان بزمام السرد ويتحكّمان بالفضاء الروائيّ ولا يمنحان مفاتيح الحقيقة إلاّ في الصفحات العشر الأخيرة من الرواية.

ويظلّ دوبوا في نصّه هذا وفيّاً لعاداته الكتابيّة التي يُعرف بها لدى قرّائه. فمن عادات دوبوا في رواياته أن يدعو بطله بول، وهذا ما يفعله في روايته هذه، فالشخصيّة الأساسيّة والراوي المتحدّث بضمير المتكلّم المفرد هو بول كريستيان فريديريك هانسن، رجل دانماركيّ الأصل ولد في فرنسا وانتقل للعيش في كندا مع والده ثمّ دخل السجن لتهمة لا يفضحها السرد سوى في الصفحات العشر الأخيرة.

ومن عادات دوبوا الأسلوبيّة أيضًا أن يُدخل عنصر الماء في نصوصه وأن يمنحه دوراً أساسيّاً وهو ما يفعله في روايته هذه، فيكون مسبح المبنى الذي يعمل فيه بول هانسن حارسًا مسرح الجريمة التي تحصل والتي يدخل بول السجن على إثرها.

وقد يقف القارئ متعجّباً أمام العنوان الطويل الذي قرّر الكاتب أن يمنحه لروايته، وقد درج مؤخّراً منح الروايات عناوين طويلة من بعد أن كان الميل نحو اختيار عناوين مؤلّفة من كلمة أو كلمتين كحدّ أقصى، وهو أمر يجد صداه في العالم العربيّ حيث لم يعد الكتّاب العرب يخشون إيراد جمل كاملة كعناوين لرواياتهم. وعنوان رواية دوبوا عنوان معبّر ومثير لفضول القرّاء، وهو في الأصل جملة يلفظها جدّ الروائيّ في آخر لحظات حياته: لا يسكن الناس جميعهم العالم بالطريقة نفسها، حكمة فيها بعض من الحزن، بعض من النوستالجيا، بعض من الحسرة إنّما أيضًا الكثير من الحقيقة.

عودات إلى الوراء

في لعبة عودات إلى الوراء واسترجاعات (flashback) كثيرة ومؤطّرة للنصّ، يقدّم دوبوا لقارئه قصّة رجل مسجون في سجن بوردو بمونتريال- كندا، يقدّم له قصّة بول الرجل الذي ولد لوالدين قرّرا أن ينفصلا بعد سنوات طويلة من الزواج، فالوالد قسّ محافظ بينما الأمّ تُعنى بالسينما وبأحدث الأفلام التي تُعرض مهما احتوت من مادّة مستفزّة وكاسرة لتابوهات الدين. علاقة صراع فصمت أدّت إلى طلاق فمغادرة الوالد من فرنسا إلى كندا ليتبعه من بعده ابنه ويعيش الاثنان معًا في كندا بعيدًا عن القارّة العجوز. وبينما يتحوّل بول من ولد صامت منعزل إلى رجل يعمل حارساً في مبنى، سرد سلس وقصص كثيرة ووجوه وعلاقات تمتدّ على طول قارّتين وتنسج حبال قصّة بول وسجنه. ويكمن مكر دوبوا الروائيّ في قدرته على جعل سرده موجّهاً ودقيقًا ومتوهّجاً، فهو لا يطيل التوقّف عند قصص الشخصيّات الثانويّة كما لا يتوقّف مطوّلاً عند الحوادث التي تبطئ من نمط حياة بول وتثقل السرد بشكل مملّ. يتمكّن دوبوا من التملّص من فخّ الإطالة والإيغال في الوصف كما قد يفعل معظم الكتّاب، فعلى الرغم من الاحتمالات الكثيرة المفتوحة أمامه للتحدّث عن سكّان المبنى أو أصدقاء بول أو زوجته، يقلّص نصّه ويقتصر فيه على الحديث عن أبرز الأمور.

ويوظّف دوبوا قدراته الروائيّة بطريقة ذكيّة في استرجاعاته التي يتقنها، فهو يبدأ في كلّ مرّة قصّة من ماضي بول ويعود من بعدها إلى زنزانة السجن ليذكّر القارئ بالحاضر وبواقع بول. وهذا التأرجح على حبال الزمن الذي يُعدّ لعبة روائيّة خطرة يتحوّل إلى سباق مع الزمن وضرباً من ضروب التشويق، فيضطرّ القارئ إلى انتظار حوالى مئتين وأربعين صفحة من الاسترجاعات ثمّ العودات إلى الحاضر ومشاكله ليكتشف السبب الحقيقيّ خلف دخول بول السجن.

مرآة القارئ

عدا عن جماليّات الأسلوب المسبوك بحنكة، يشعر القارئ أنّ الشخصيّات جالسة على مقاعد الاحتياط إلى جانبه وتنتظر معه اكتمال القصّة، فدوبوا لا يفضح أيّ عنصر سرديّ قبل أوانه ليحكم إغلاق قبضته على شخصيّاته وعلى قارئه على حدٍّ سواء. فيجد القارئ نفسه أمام بطل يشبهه بهمومه وأفكاره وطفولته، بطل يملك لحظات صمت وتوتّر واضطراب كما يملك لحظات غضب وتمرّد وانتفاضة على الحياة. وبول رجل خسر والده ووالدته وزوجته وحياته، رجل يعيش مع أطياف ماضيه ويتعلّم أن يحزن بصمت لأنّ أمثاله لا يملكون مكاناً أو شخصاً يفرغون فيه حزنهم، بول وأمثاله المتروكون والمطرودون من عن عجلة الزمن يعيشون حيواتهم في زنزانات الظروف قبل أن يدخلوا زنزانات السجون الحقيقيّة.

وبالإضافة إلى شخصيّة بول، يعجب القارئ بشخصيّة باتريك هورتون شريك بول في الزنزانة، رجل قويّ يملك شيئًا من العنف إنّما من دون أن يكون عنفاً دمويّاً مقلقاً، فباتريك المجرم الذي يهابه السجناء الآخرون لفداحة الجريمة التي اقترفها رجل يكاد يشبه الطفل بتصرّفاته اليوميّة الحميمة، فهو مثلاً يخشى طبيب الأسنان ويخشى قصّ شعره شرّ خشية وغيرها من الأمور، فيتحوّل بول إلى السجين الرزين الذي يسأله باتريك أمور الحياة كما يستعين به ليكتب رسالة رسميّة أو ليقصّ له شعره.

"لا يسكن الناس جميعهم العالم بالطريقة نفسها" رواية الإنسان بامتياز، الإنسان الصامت الذي يتلقّى الحياة ويخضع لها وهو لا حول له ولا قوّة. ويبرع جان بول دوبوا في نسج حبال روايته هذه عبر تقنيّات روائيّة أنيقة متماسكة فلا يؤخذ عليه مأخذ، وكأنّ هذه الرواية مصقولة لا يمكن انتزاع كلمة منها ولا تجوز إضافة أيّ تفصيل. رواية الغونكور هذا العام هي رواية الإنسان الذي يدخل السجن لكنّه سبق أن كان في سجن من نوع آخر في سنواته السابقة، مثلنا جميعنا،... أو ليس لكلّ منّا سجنه؟

المزيد من ثقافة