Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

إعداد دعاوى في أوروبا ضد مجرمي حرب النظام السوري

أحد الضحايا يرى أن مبدأ الاختصاص القضائي العالمي المطبق في ألمانيا واعد "حتى لو طال الوقت"

المصور المنشق عن الجيش السوري المعروف بـ"قيصر" قبيل الادلاء بشهادته في 2014 أمام لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب الاميركي حول تعذيب وقتل الناشطين المناوئين للأسد (أ.ف.ب./ غيتي) 

كان باتريك كروكر على متن قطار مع اثنين من زملائه السوريين، عندما التقوا للمرة الأولى وتعارفوا. وأخبر أحد السوريَّين الآخر أنه شاهد رجلاً وجهه كان مألوفاً بالنسبة إليه، يسير في أحد شوارع العاصمة الألمانية، وكان قد جهد طوال أسابيع من أجل التعرّف عليه، حتى تبيّن له أنه أنور رسلان. 

وشعر زميله السوري في القطار بالذعر. وقال إن أنور رسلان هو الشخص الذي أشرف على اعتقاله وتعذيبه مع آلاف من السجناء السياسيّين الآخرين، داخل "فرع الخطيب" السيء الصيت التابع لمديرية الاستخبارات العامّة في العاصمة السورية دمشق.

وتشهد أوساط مئات الآلاف من السوريين الذين يعيشون في المنفى في أوروبا، موجة شائعات قد لا يكون لها أساس من الصحة، إضافةً إلى نظريات المؤامرة غير المستندة إلى أدلة. لكن ثبوت أن مرتكب الجريمة وضحيته التي تعرّضت للتعذيب، يقيمان الآن في المدينة نفسها، دفعت بكروكر والسوريين إلى التحرّك.

ويستذكر كروكر، وهو محام يعمل في "المركز الأوروبي للحقوق الدستورية" في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان ويركّز على سوريا، رحلة القطار في العام 2015 خلال اجتماع في مكتبه في برلين. ويقول: "كنا نتحدث عن التجارب التي مرّ بها هؤلاء السوريّين، وكنت أبدي الدهشة ممّا أسمع، وسألتُ عمّا يجب أن نفعله في هذا الصدد؟"

ويعود الفضل نسبياً إلى الشهادات التي جمعها "المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان" وغيرها من المنظمّات، في توقيف رسلان وسجنه في سجن موابيت في برلين تمهيداً لمحاكمته في فبراير (شباط) الماضي. وفي الشهر الفائت، وجّه ممثلو الادّعاء في ألمانيا إليه وإلى إياد الغريب، وهو مسؤول آخر في نظام بشّار الأسد، لكنه أقل سطوة، تهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية. وهذه هي بعض من الجهود الواعدة حتى الآن نحو تحقيق العدالة والمساءلة عن أعوامٍ من ممارسات الرعب التي ارتكبتها السلطات السورية ضد متظاهرين مسالمين انتفضوا ضدّ حكم الأسد.

ويوضح كروكر أن "هذه القضية ستكون الأولى التي تركّز على التعذيب الذي اعتمدته الحكومة السورية. وهذا ما يجعل الدعوى قضيةً تاريخية".

وأخذت محاكمات المتّهمين بانتهاك حقوق الإنسان في سوريا، منحى متسارعاً في جميع أنحاء أوروبا. وهذا الأسبوع، قدّم خمسة من الناجين من التعذيب شكوى جنائية في أوسلو، ضدّ كبار المسؤولين في نظام بشّار الأسد. ورُفعت أيضاً دعاوى على مسؤولي النظام السوري في مدن أخرى في ألمانيا، وكذلك في النمسا وفرنسا والسويد. ويقول كروكر: "نريد أن تقوم جميع هيئات الادّعاء الأوروبية بالجانب المتعلّق فيها من هذا العمل".

ويستخدم الضليعون في المجال الحقوقي المبدأ القانوني للولاية القضائية العالمية، الذي يمنح الدول سلطة مقاضاة انتهاكات القانون الجنائي الدولي، حتى لو لم يحدث الانتهاك المزعوم على أراضي البلد حيث المحاكمة أو على أيدي مواطنيها أو ضدّهم. ويعمل هذا المبدأ أساساً على الاعتقاد بأن بعض الجرائم هي على قدر من الفظاعة توجب ملاحقتها في أي بلد.

ووثّقت منظّماتٌ مدافعة عن حقوق الإنسان وجماعات حقوقية مستقلة مراراً وبعناء، كيف توسل النظام السوري بالتعذيب بشكل منهجي لسحق الانتفاضة التي استمرت أعواماً ضدّ حكم بشّار الأسد، وقد تحوّلت في ما بعد إلى نزاع مسلح وحشي. وهُربت مجموعات من الصور إلى خارج البلاد على يد منشقّ أطلق على نفسه إسم قيصر. وتظهر تلك الصور المدى الذي ذهب إليه نظام الأسد في ارتكاب فظائع ضدّ الشعب السوري.

ويبدو أن بشّار الأسد، بات بدعم من روسيا وإيران، على أبواب تحقيق نصر عسكري في الحرب على مناهضيه في ساحات المعارك. لكن من بين عشرات الآلاف من ضحايا نظامه الذين تمكنوا من الهروب إلى المنفى، يطالب البعض منهم بشىء من العدالة والمحاسبة.

وينقل "المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان" عن أحد السوريّين الذي يقول إنه تعرّض للتعذيب في "فرع الخطيب" للاستخبارات في دمشق، وصفَه هذا المنحى القانوني في ألمانيا، بأنه "يبعث على الأمل، حتى لو استغرقت الإجراءات وقتاً طويلاً ولم يحدث شيء غداً، أو في اليوم الذي يليه. فمجرّد استمرارها يمنحنا نحن الناجين، الأمل في العدالة. أنا مستعد لتقديم شهادتي".

ويتخذ "المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان" المموّل من القطاع الخاص، إجراءات قانونية ضد الزعماء السياسيين والعسكريين وكذلك الشركات بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية. والمركز هو واحد من عددٍ من المنظمات في جميع أنحاء العالم التي ترفع دعاوى أمام المحاكم، ضد متّهمين بممارسة التعذيب في النظام السوري، وغالباً ما تستخدم مقاربات قانونية جديدة لاختبار المحاكم والقانون.

وإحدى تلك المجموعات، هي فريق "مبادرة العدالة لمؤسسات المجتمع المفتوح" الذي جمع ملف قضية من أقوال شهود، ودعّمه بحججٍ قانونية وقدّمه للمدعي العام الألماني في قضية أنور رسلان. وعمل الفريق على إجراء الأبحاث اللازمة بشكل فاعل، ما ساعد المسؤولين الحكوميّين المثقلين بأعباء أخرى، وسهّلوا الجانب القانوني على ممثّلي الضحايا.

ويوضح جوناثان بيرشال، الناطق الرسمي بإسم "مؤسّسات المجتمع المفتوح" أنه تمّ بذل جهدٍ واسع النطاق، وأن هناك دعاوى أخرى يعمل أشخاص على تحضيرها. ويقول إن "قضية أنور ر. مهمّة بشكل خاص، لأنه أكبر مسؤول سابق في الحكومة السورية يُحاكم الآن في أوروبا".

ويمكن للمدّعين العامّين الاعتماد على نحو 800 ألف وثيقة جمعتها منظّمة تُدعى "لجنة العدل والمساءلة الدولية"، التي أمضت سنوات في البحث عن مواقع الاحتجاز التي يديرها نظام الأسد، ومراكز استولى عليها المتمردون. وتحدّد الوثائق أسماء المتعاونين الرئيسيين مع النظام، وتروي بالتفصيل أساليب التعذيب المتّبعة  ضد المعارضين السلميّين للأسد.

ويشير ستيف كوستاس، المحامي في "مبادرة العدالة لمؤسسات المجتمع المفتوح"، إلى أن "البرنامج كان منظّماً ومنهجياً وقد تمّ تطبيقه في عشرات المراكز في جميع أنحاء البلاد.

وكانت "المفوّضية الأوروبية لحقوق الإنسان" و"مؤسّسات المجتمع المفتوح" متردّدة في السماح لوسائل الإعلام بالوصول إلى أي من الشهود الذين تجمّعوا للإدلاء بشهاداتهم ضد رسلان، خشية من إضعاف القضية أو ربما تعريض حياتهم للخطر. لكن الناشطين الحقوقيين يقولون إن ضحايا رسلان المزعومين يقدّمون روايات متشابهة إلى حدّ كبير.

وقد شارك هؤلاء عموماً في الانتفاضة المدنية التي اندلعت خلال "ثورات الربيع العربي" في العام 2011. وكان وراء اعتقال بعضهم ربما توزيع منشورات أو لمشاركتهم في تظاهرات في الشوارع. وكانوا يُعتقلون خلال المسيرات، ويُلقى بهم في سيارة، أو كان يتم اقتحام منازلهم والقبض عليهم. وأثناء الاعتقال، كانوا يتعرّضون للضرب داخل الحافلة أو الشاحنة، ويُضربون مرة أخرى لدى وصولهم إلى "فرع الخطيب" التابع لمديرية الاستخبارات العامة.

ومن ثمّ، كان يتم إلقاؤهم في زنزانات جماعية ظروفها الصحية سيّئة للغاية كما نظافتها. وكان الطعام قليلاً، وانتشرت العدوى والأمراض. ولم تكن هناك مساحات للنوم ولا غرف استحمام. وكان السجناء يُستدعون بانتظام للاستجواب الذي يصل إلى جلسات تعذيب. وخلال الجلسات كان رجال نظام الأسد يذهبون في المضايقات بعيداً لمعرفة ما إذا كان الموقوفون جواسيس أو إرهابيين أو عملاء لـ "وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية".

ويضيف كروكر قائلاً: "إذا أجبتَ بنعم، فستكون العقوبة هي الإعدام، وإذا قلتَ لا، يبدأ الضرب بالعصي واستخدام أدوات أخرى على الأجساد العارية". ويتصاعد الأمر بسرعة إلى الصدمة الكهربائية، وإجبار الموقوفين على أتخاذ وضعيات تسبّب الإجهاد، بما في ذلك تعليقهم من اليدين. ويقوم المحقّقون بكيل سيلٍ من الإهانات والتهديدات إليهم، بما في ذلك ابتزازهم باستهداف زوجاتهم وأطفالهم.

في النهاية، يُضطر السجناء إلى الموافقة على الاعتراف، فيوقّعون على وثائق تفصّل جرائمهم، أو على أوراق بيضاء يعمل المحققون لاحقاً على تعبئتها. ويُنقل الموقوفون بعدها إلى مكتب استخبارات آخر، وربما إلى سجن نظامي حيث تتحسّن الظروف. فتتوافر الحمامات ومحلات شراء الطعام. ويمكن للأقارب الاتصال بهم بشكل غير مباشر على الأقل، ويستطيع السجناء التواصل مع محاميهم.

وثمّ يُحال المتهمون إلى القضاة، الذين إما يقومون بمحاكمتهم، أو يطلبون رشاوى لإطلاق سراحهم. وغالباً ما يُلقى القبض على كثير من المفرج عنهم مرة أخرى، في الأسابيع أو الأشهر التي تلي.

ويشتبه بتواطؤ أنور رسلان في تعذيب ما لا يقل عن 4 آلاف شخص بين العامين 2011 و2012، ما أسفر عن مقتل 58 شخصاً. وقد أودع زميل له يُدعى غريب، وهو عميد في "المديرية العامّة للاستخبارات"، قيد الاحتجاز في سجن ألماني آخر، ووُجّهت إليه تهمة التعذيب في نحو 30 حالة على الأقل. وبحلول أواخر العام 2012، يبدو أن رسلان كان قد ضاق ذرعاً بما يحصل، فانضمّ إلى موجة اللاجئين السوريين الذين وصلوا إلى أوروبا. ولا يزال من غير الواضح ما إذا كان يعاني من صحوة ضمير أم أنه اقتنص ببساطة فرصة للمضي قدماً بحياته. والاغلب أن مغادرة البلاد فجأة انطوت على خطر شخصي كبير على ضابط استخباراتٍ سوري رفيع المستوى.

وعلى الرغم من أنه قد انفصل علناً عن النظام، إلا أنه لم يكشف بعد عن دوره في الإشراف على الجرائم المزعومة في "فرع الخطيب".

أما محاكمته التي ستبدأ السنة المقبلة في مدينة كوبلنز الألمانية، فستكون موضع متابعة من قرب، ويعود ذلك في جزء منه الى أن المبدأ القانوني للولاية القضائية العالمية مثير للجدل.

فوزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر اعتبر في مقال عن الشؤون الخارجية نشره العام 2001، أن المبدأ القانوني للولاية القضائية العالمية، "من شأنه أن يسلّح أيّ قاض في أي مكان في العالم، بسلطة المطالبة بتسليم المجرمين"، الأمر الذي يتيح له التدخّل في "جهود المصالحة" التي يمكن أن تحدث في بلد آخر.

وقد دار جدال شرس بين الدول الأعضاء في الأمم المتحدة الشهر الماضي، في شأن المكان الذي ينبغي أن تدور فيه المناقشات المتعلّقة بإمكان تطبيق الولاية القضائية العالمية، وما إذا كان ينبغي أن تكون في منتدى سياسي أو قانوني.

ومع ذلك، يُقبل مدعو النيابات العامة بشكل مطرد على التوسل بالولاية القضائية. وقد حصلت لأول مرة في المملكة المتحدة بعد القبض على ديكتاتور تشيلي السابق أوغستو بينوشّيه، بناءً على طلب إسباني في العام 1998. ومنذ ذلك الحين تم تطبيقه في الأرجنتين ضدّ مرتكبي العنف في عهد فرانشيسكو فرانكو الاسباني، وفي بلجيكا وفرنسا بسبب جرائم حرب في رواندا، وفي هولندا في قضية تتعلق بليبيريا.

ورفض كروكر الكشف عن الأدلة التي جُمعت ضد ضابط الاستخبارات السوري رسلان. لكنه أثار أيضاً احتمال أن يقوم المسؤول السابق في نظام بشّار الأسد بالاعتراف، والعمل شاهداً لمقاضاة حتى شخصياتٍ في النظام رفيعة المستوى. ويقول: "لقد انشقّ، وإذا اعترف وأعرب عن الأسف، يتعيّن على المحكمة أن تأخذ ذلك في الاعتبار".

المدّعون العامّون الألمان حصلوا بالفعل على مذكّرة توقيف بحقّ جميل حسن، رئيس جهاز الاستخبارات الجوّية السورية السيئ الصيت، الذي يُعدّ أحد أكبر أهداف المدافعين القانونيّين، وهو الآن في دمشق، ويُعتبر أحد كبار المسؤولين التنفيذيّين لدى بشّار الأسد. ويقول كروكر: "نريد أن نصل إلى أعلى الهرم".

© The Independent

اقرأ المزيد

المزيد من الشرق الأوسط