يعتقد علماء أنّ فوهات غامضة تنفث أبخرة حارة في أعماق البحار، من شأنها توفير ظروف مثاليّة لبدايات الحياة على كوكب الأرض. وتشكّل تشققات في قيعان البحار منطقة تعمل فيها حرارة الحمم البركانية المنصهرة الموجودة في قلب الأرض، على تسخين المياه التي تعلق بداخلها، وتوصلها إلى درجات حرارة مرتفعة قبل أن تنفثها من فتحات أشبه بمداخن طبيعيّة شاهقة في المحيط.
واستطاعت تجربة اشتغلت على محاكاة الظروف القلويّة الحارة الموجودة في تلك المتنفسات، تكوين خلايا أوليّة بدائيّة، علماً أنّها تُعتبر اللبنات الحيويّة الأساسيّة للكائنات الحيّة.
ويشير البحث الذي نُشر في مجلة "نيتشر إيكولوجي آند إيفوليوشين"، إلى أنّ الحرارة والبيئة القلويّة ليستا مفيدتين فحسب، بل ربما تؤديان دوراً جوهرّياً في توالد الكائنات الحيّة.
وتناول هذا الاكتشاف نيك لين الباحث الرئيس في الدراسة الذي يعمل بروفيسوراً في الكيمياء الحيويّة التطوريّة في جامعة كاليفورنيا بلوس أنجلوس. وأوضح إنّ "ثمة نظريات متضاربة ومتعدّدة حول أين وكيف بدأت الحياة، ويُنظر إلى تلك المنافذ الحراريّة المائيّة تحت الماء على أنّها إحدى المناطق الواعدة التي يُعتقد أنّها شهدت بدايات الحياة. وفي الواقع تضيف النتائج التي توصّلنا إليها الآن وزناً علميّاً إلى تلك النظريّة، تحديداً عبر توفيرها دليلاً دامغاً مستنداً على التجربة".
عند تلك الفوهات، تحتكّ مياه البحر بالمعادن الموجودة في قشرة الأرض، وتتفاعلان معاً وتشكِّلان بيئة قلويّة دافئة تحتوي الهيدروجين.
وتحت تأثير تلك العملية، تتشكّل فتحات أشبه بالمداخن تكون غنيّة بالمعادن وتحتوي على سوائل قلويّة وحمضيّة، وتوفّر مصدراً للطاقة اللازمة من أجل تسهيل التفاعلات الكيماويّة بين الهيدروجين من جهة وثاني أكسيد الكربون من جهة اخرى لتكوين مركّبات عضوية شديدة التعقيد.
يُذكر أنّ بعض أقدم البقايا المتحجّرة في العالم التي اكتشفها فريق بقيادة جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس، نشأ في مثل تلك الفوهات المائية الحارة تحت الماء.
في تحليلهم للدراسة، ذهب البحّاثة إلى ما هو أبعد من كوكبنا. إذ اقترحوا أنّ نتائج التجربة تعطي أملاً في العثور على حياة على كواكب وأقمار اخرى حيث توجد محيطات وظروف تماثل تلك الموجودة على الأرض.
وفي إطار البحث عن مكان نشأة الحياة أيضاً، نجحت تجارب سابقة سعت إلى تكوين خلايا أولية من جزيئات بسيطة طبيعيّة المنشأ، خصوصاً الأحماض الدهنيّة، في الماء البارد والعذب، لكنها عملت في ظل ظروف محكمة بدقة. وفي المقابل، توقّفت الخلايا الأولية عن التكاثر في تجارب مماثلة أُجريت في بيئات الفوهات الحراريّة المائيّة.
تذكيراً، تمثِّل الخلايا الأولى في جوهرها الشكل الأساسيّ للخليّة، وتتألّف من مجرد غشاء مكوّن من طبقتين يحيط بمحلول مائيّ، إذ تتميّز بأنّها خلية ذات حدود واضحة وحجيرة داخلية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في سياق متصل، ذكر الباحث الأول في الدراسة الدكتور شون جوردان من قسم علم الوراثة والتطوّر والبيئة في جامعة كاليفورنيا، إنّه وزملاءه حدّدوا عيباً في الدراسات السابقة، يتمثّل في أنّ "التجارب الاخرى كافة استخدمت عدداً صغيراً من أنواع الجزيئات، يحتوي معظمها على أحماض دهنيّة من الحجم نفسه. بيد أنّنا في البيئات الطبيعية، نجد عادة مجموعة واسعة من الجزيئات".
أمّا بالنسبة إلى الدراسة الجديدة، حاول فريق البحّاثة إنشاء خلايا أولية مستعينين بمزيج مؤلّف من أحماض دهنيّة مختلفة وكحول دهنيّة لم يجر استخدامها في اختبارات سابقة.
في النتيجة، وجد البحّاثة أن جزيئات مكوّنة من سلاسل كربونيّة أطول احتاجت إلى الحرارة كي تتحوّل تركيبتها إلى خليّة أوليّة. فضلاً عن ذلك، ساعد المحلول القلويّ الخلايا الأولية الناشئة في الحفاظ على شحنتها الكهربائيّة. من ناحية اخرى، أثبتت بيئة المياه المالحة أنها مفيدة أيضاً، إذ تجمّعت جزيئات دهنية معاً بإحكام في سائل مالح، مكونةً أكياساً مستقرة بنيويّاً.
هكذا للمرة الأولى، نجح الباحثون في تكوين خلايا أولية تستطيع أن تتجمع من تلقاء ذاتها، في بيئة مماثلة لبيئة الفوهات الحراريّة المائيّة. ووجدوا أنّ الحرارة والبيئة القلويّة والملح لا تعوق تشكّل الخلية الأولى، بل تقدِّم لها المساعدة على نحو فاعل.
في هذا السياق ذكر الدكتور جوردان، "في تجاربنا أنشأنا أحد المكونات الأساسيّة للحياة، في ظلّ ظروف تتجلى فيها البيئات القديمة بدرجة أكبر بالمقارنة مع دراسات مختبريّة اخرى عدة. ما زلنا نجهل أين تشكّلت الحياة أول مرة، لكنّ دراستنا تظهر أنّه لا يمكننا استبعاد الفوهات الحرارية المائية في أعماق البحار بوصفها إحد الاحتمالات".
وأشار الباحثون أيضاً إلى أنّ وجود تلك الفوهات ليس محصوراً بكوكب الأرض. وفي هذا الصدد، ذكر البروفيسور لين إن "البعثات الفضائيّة وجدت أدلّة على أنّ الأقمار المتجمِّدة التابعة لكوكبي المشتري وزحل قد تشتمل أيضاً على فوهات تهوية مائيّة قلويّة مماثلة لتلك الفوهات الحرارية المائية الموجودة في بحارها. صحيح أنّنا لم نشهد دليلاً على وجود حياة على تلك الأقمار، ولكن إذا كنّا نسعى للعثور على أشكال الحياة على كواكب أو أقمار اخرى، تساعدنا دراسات على غرار دراستنا في تحديد المكان الذي يتوجب علينا أن نبحث فيه".
© The Independent