Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

أبعد من التغيير السياسي..."ثورة ثقافية" في الشارع

المجتمع القوي أقوى من قوة أي طرف وأية سلطة

حراك طالبي غير مسبوق في لبنان (أ.ف.ب)

"كل جيل هو شعب جديد" كما قال الكسيس دو توكفيل في القرن الـ 19، وما نراه اليوم في ساحات لبنان والعراق هو جيل فاجأ الحاكمين والمحكومين بأنه شعب جديد بالفعل. جيل لم نكن نعرفه، وهو يكبر أمام عيوننا في البيوت والمدارس والجامعات. ولا هو عرف من ثرنا عليهم لننتهي أسوأ منهم في الفساد والتبعية والصراع على المال والسلطة في أخطر مناخ من الثلوث الطائفي والمذهبي. جيل كنا نظن أنه استمرار لجيل الحرب وما بعدها من انقسامات داخلية وارتباطات خارجية مدمرة. وكان الهواة الأبرياء من التجارب والمعرفة، والمحترفون الذين يوظفون المعرفة في صنع الشر بدل الخير يتصورون أن كراسي السلطة خلت لهم ولعائلاتهم وأن الساحات خلت للمخدوعين بهم يتظاهرون بأوامر منهم صارخين "بالروح والدم" قبل العودة إلى البؤس المفروض عليهم.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وليس من باب الرومنطيقية أن يوصف الحراك الشعبي بأنه ثورة، وإن كان هناك من يرى مبالغة في ذلك. فلا أهم من البعد السياسي والاقتصادي للثورة الشعبية السلمية سوى البعد الاجتماعي. ولا أخطر على أمراء الطوائف من قنبلة نووية سوى حراك شعبي عابر للطوائف والمذاهب والمناطق التي يراد تطويب كل واحدة منها لأمير أو لاثنين متحالفين متخاصمين في آن.

وهذه هي إمارات الثورة العميقة التي تتخطى الانقلاب وتغيير السلطة. فمن الصعب، في الوقت الحالي، تقدير ما تنتجه الثورة الشعبية السلمية من ثمار سياسية واقتصادية، وما تحدثه من تغيير في تركيبة السلطة. لكن من السهل رؤية التغيير الاجتماعي والثقافي الذي بدأ مساراً ثابتاً له. ولا يبدل في الأمر رهان الخائفين من الثورة على تعب الشباب والخروج في النهاية من الشوارع، كأن ما حدث فصل عابر قبل أن تعود التركيبة السياسية إلى الشغل أو اللاشغل كالمعتاد.

لا مجال بالطبع لأية مقارنة بين لبنان والصين والنظام في كل منهما، إذ إن مظاهر الديمقراطية وطقوسها هنا وجوهر الشمولية هناك. لكن الاختلاف الكامل يساعد أحياناً على استخدام المقارنة لبلورة الصورة المعاكسة. ففي الستينيات من القرن الماضي، طوى الزعيم الصيني ماوتسي تونغ شعار "لتتفتح 100 زهرة، لتعش 100 مدرسة"، وأطلق موجة جارفة سماها "ثورة ثقافية". والحجة هي إعادة تثوير الحزب الشيوعي بعد 15 عاماً من السلطة، وتجديد الثورة التي بدأت في مطالع القرن، وتحريض المجتمع على التجدد ومحاسبة الفاشلين و"المتبرجزين".

لكن الثورة الثقافية قادت إلى كوابيس وكوارث سياسية واقتصادية وحزبية وثقافية: تدهور في مستوى التعليم عبر إقدام طلاب كسالى صغار السن على محاسبة أساتذتهم وإخراجهم من المدارس والجامعات، وانهيار اقتصادي قاد إلى أكبر مجاعة في العصر، وإهانة المثقفين وطردهم من العاصمة والمدن، وضرب الكوادر الحزبية الجيدة ونفي المغضوب عليهم من المسؤولين إلى أقاصي الريف إن لم يوضعوا في السجون. وكان من بين المغضوب عليهم نائب رئيس الوزراء دينع هسياو بينغ الذي عاد بعد رحيل ماو إلى القيادة وفتح طريق التطور الاقتصادي عبر شعار "لا يهم إن كان الهر أسود أو أبيض، المهم أن يصطاد الفئران". وكان بين المنفيين أيضاً والد الرئيس الصيني الحالي شي جينبينغ.

وما يحدث في لبنان والعراق هو نوع من "ثورة ثقافية"، ولكن في اتجاه آخر. ثورة تفتح جامعة شعبية في الشارع. تطور نفسها ووسائلها بالممارسة. محاضرات نهارية وليلية لتدريب الشباب على الحوار والنقاش والقراءة العميقة في نظريات الثورة والقدرة على ممارستها. تصحيح الأخطاء والتنسيق بين الساحات وابتكار الأساليب التي تقود عبر النظريات و"البراكسيس" إلى تجذر الثورة وتثقيف المجتمع. إعادة الاعتبار إلى الوطنية على حساب الولاءات المحصورة بالطوائف والمذاهب والأمراء أو العابرة للحدود. وإعادة الاعتبار إلى المعنى النبيل للسياسة وهو "فن إدارة المجتمع" وخدمته وتأمين متطلباته في العمل والإنتاج والصحة والبيئة النظيفة. وهذا مسار لا ينتهي، ولو توقف قليلاً، على أساس المثل الفرنسي القائل: "خطوة إلى الوراء من أجل قفزة أفضل".

كان الجنرال ديغول يقول "إن السياسيين لا يصدقون ما يقولونه، ولذلك يستغربون حين تصدقهم الناس". لكن ما يصدم السياسيين في لبنان والعراق أن الناس لم تعد تصدقهم. وما يحاولونه من جديد عبر الأحاديث عن "مؤامرة" خارجية وراء الثوار هو "التآمر" بالفعل على الثورة. وإذا كان ارتكاب مجزرة رهيبة، مثل مجزرة "تيان آن مين" في الصين قبل ثلث قرن، صعباً في العراق على الرغم من سقوط القتلى والجرحى، ومستحيلاً في لبنان، فإن سلاح "القوة الناعمة الخبيثة" حاضر. سلاح الفراغ السلطوي والانهيار الاقتصادي وتحميل الثوار المسؤولية لتغطية فشل السياسيين. وسلاح النفخ في العصبيات الطائفية والمذهبية. والله أعلم بما يفكر الخائفون من الثورة والمتدخلون من الخارج في الإقدام عليه من ألعاب أمنية.

لكن من الوهم إعادة عقارب الساعة إلى الوراء. فما أعدنا اكتشافه هو "سلطة الشعب". والمجتمع القوي أقوى من قوة أي طرف وأية سلطة.

المزيد من آراء