Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

العراق ومصيدة البطل المنقذ... شركة تأمين من نوع خاص (3-3)

ابتكر أهالي بغداد طريقة مدهشة مكنتهم من إيقاف حريق الفتنة

صورة أرشيفية لاجتماع عدد من منتسبي بعض العشائر العراقية في كركوك مع ممثلين عن الإدارة الأميركية خلال فترة الاحتلال (غيتي)

وفق الأسطورة الإغريقية، كانت الهايدرا مسخاً برؤوس عدة، وكلما قُطع واحد منها نبت اثنان آخران محله، ولهذا السبب لم يكن ممكناً التخلص من شرورها، حتى قدوم البطل هِرَقل الذي كان عليه أن يقتلها ضمن قائمة أعماله الـ 12 التي عليه إنجازها قبل أن تعفو الآلهة عنه. حضرتني هذه الحكاية الخرافية، وأنا أراقب انتظام حركة السيارات والشاحنات وسط بغداد، في ربيع عام 2015. كم كان السائقون حريصين على تجنب أي تماس مع الآخرين، على الرغم من غياب أي قوة أمنية معنية بفرض القانون والنظام.

ترافقت مع رحلتي الثانية لبغداد جملة أحداث كبيرة، أهمها سقوط الموصل بيد تنظيم "داعش" من دون مقاومة حقيقية من الجيش العراقي، وإقصاء نوري المالكي من رئاسة الوزراء، ليحل محله حيدر العبادي المنتمي إلى الحزب نفسه. مع ذلك، أبدى الأخير منذ تسلمه بصمة أكثر انفتاحاً على مكونات المجتمع العراقي الأخرى، وأكثر حرصاً على حل الإشكالات بين الأطراف المتحالفة والمتصارعة في آن عبر حلول وسط.

لعل وصول العبادي إلى الحكم، جاء متوافقاً مع المناخ الذي تشكل في بغداد، بعد بلوغ الاستقطاب الطائفي أوجه لينفجر في فتنة استمرت ما بين عامي 2006 و2007، راح ضحيتها عدد كبير من المدنيين على يد الميليشيات، ولم يكن النهج الذي التزم به رئيس الوزراء آنذاك نوري المالكي، عنصراً مساعداً على إطفاء الحريق، إن لم يكن العكس، إذ إنه ارتكز كلياً على الورقة الطائفية للبقاء في السلطة وتكوين ميليشياته الخاصة به التي أطلق عليها اسم "عصائب الحق" من المال العام، من دون رقابة أو مساءلة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

بدت لي بغداد عام 2015 وكأنها نفضت عن نفسها آثار الحريق الأكبر

لقد ابتكر أهالي بغداد طريقة مدهشة مكنتهم من إيقاف حريق الفتنة الذي استمر في بلدان أخرى سنوات أطول وأقسى، وفي الوقت نفسه، الحفاظ على إيقاع حياتهم السابق بغياب مؤسسات الدولة الحامية للفرد من قضاء وشرطة ومحققين: ضخ الحياة بجسم شبه ميت هو العشيرة، وما يرافقه من قواعد وأصول تسمى بـ "فصل عشائر". لهذا السبب، وجدتُ العديد من الأصدقاء القدامى الذين لم يحملوا يوماً لقباً عشائرياً قد أدخلوه اليوم على أسمائهم. وفي حالة عدم وجود امتياز كهذا، لبعض سكان بغداد القدامى، فإنهم يستطيعون أن يستظلوا بحماية عشيرة ما.

وبفضل هذه الطريقة، أصبح الكل يتحرك في الشارع، سواء كان راجلاً أو راكباً سيارة، وهو على علم بأن هناك سقفاً عليه عدم تجاوزه مع الآخر تجنباً لما يترتب عليه من دوامة الدخول في هذا العرف القديم (ما قبل المديني) إذ قد يُضطر إلى دفع ثمن أي حماقة يرتكبها تحت وطأة الغضب الناجم عن ازدحامات الطريق الخانقة.

شركة تأمين ضخمة لا مكاتب لها أو عقود، تعتمد على ذاكرة أفرادها، بأنهم ينتمون إلى طوطم واحد اسمه العشيرة.

لكن هذا الحل لم يوقف اللصوص من كسر البيوت وسرقتها من دون وازع، ولم يمنع السفاحين من ممارسة القتل من أجل القتل، من دون وجود سلطة رادعة، ما يجعلهم يسرحون ويمرحون طلقاء وعلى قناعة تامة بأن ما يقومون به لا يعدو أن يكون رياضة لقتل الملل، كذلك هي الحال مع السيارات المفخخة، التي هي الأخرى لا تكف عن حصد أرواح المدنيين عشوائياً، وعادة لا يضعها السفاحون إلا في أماكن تجمع الناس، مثل المطاعم والمقاهي والساحات.

خلال فترة الأسبوعين التي قضيتها في بغداد، سمعت بانفجار خمس سيارات مفخخة ومقتل شابين غدراً. مع ذلك، اعتبر أحد الأصدقاء هذا الرقم ضئيلاً جداً مقارنة بما شهدته بغداد خلال عامي 2006 و2007. آنذاك، كان القتل على الهوية المذهبية منفلتاً من دون قيود، وتفرق العائلات المختلطة (طائفياً) جارياً على قدم وساق.

ويبدو كأن بغداد قد وضعت وراءها كل تلك الفظائع التي تفشت فيها كالأوبئة منذ عام 2003، مثل عمليات الخطف الهادفة لابتزاز أهالي المختطَفين والقتل على الهوية الطائفية، لكنها وقفت عاجزة أمام تفجير السيارات المفخخة عن بعد أو استيلاء الميليشيات على أملاك الدولة من بساتين وأراض زراعية وجرفها ثم بناء دور عشوائية عليها لأنصارها، أو عدم إعادة المهجرين إلى بيوتهم الأصلية.

لم يأت إحياء النظام العشائري من العدم تماماً، فالعراق الذي ظل مرتعاً لمجتمعات زراعية عريقة آلاف السنوات، أصابته ضربة في الصميم، حين احتل المغول بغداد عام 1258، فهم لم يكتفوا بقتل السواد الأعظم من سكانها، وإتلاف كتبها وورشاتها ومنشآتها الأخرى بل القيام بتخريب متقن للسدود والأنهار ونواظم الإسقاء التي كان تشييدها المحكم منذ القدم المنبع الوحيد للثروة في البلاد.

بين تاريخ سقوط بغداد على يد المغول ودخول السلطان العثماني سليمان القانوني فيها عام 1534، ظل العراق مرتعاً مفتوحاً لقبائل متناحرة في ما بينها، قادمة من أواسط آسيا مثل القره قوينلو (الخرفان السود) والآق قوينلو (الخرفان البيض)، وخلال تلك الحقبة المظلمة التي امتدت حوالى ثلاثة قرون، تغير وادي الرافدين تماماً من كونه مصهراً للبداوة يصبح أفرادها بعد أجيال قليلة فيه مزارعين وسكان مدن، إلى مغناطيس يلائم تلك العشائر البدوية المترحلة بحثاً عن الكلأ والماء لماشيتها، فالتقلبات المتواصلة للحكام الأغراب وصراعاتهم الدموية، أدت إلى إهمال كلي للترع والأنهار فتراكم الطمي فيها وطفحت الأملاح فوق سهولها الخصبة لتحولها إلى أرض يباب.

غير أن الأمل الذي راود النخبة المتعلمة في بغداد باسترجاع ذلك المجد الغابر لمدينتهم بعد تخلصهم من حكم الشاه إسماعيل صفوي الجائر، ذهبت أدراج الرياح، فالفاتح الجديد اكتفى بإعمار بعض العتبات الدينية (ذات الطابع الشيعي أو السني) ثم عاد إلى عاصمته.

خلال 200 سنة اللاحقة، ظل العراق مسرحاً لصراع متواصل بين الإمبراطوريتين العثمانية والفارسية، وبالقدر الذي يحاول السلطان العثماني فرض سلطته والقوانين السائدة في إمبراطوريته، بالقدر نفسه كانت العشائر العربية المترحلة وشبه المستوطنة تقف ضد القبول بنظامها. وبالطبع هذا الوضع لم يغير النزاع المتواصل بين هذه العشائر نفسها على الأرض والسلطة وجمع الخاوات من المزارعين.

وإذا كان أهالي بغداد انكفأوا على مناطقهم، كل بحسب ملته واثنيته ودينه، وتوافرت لهم الحماية من الولاة العثمانيين مقابل ما يدفعونه من ضرائب وجزية وخاوات لهم، فإن هناك ديناميكية أخرى ترسخت بين العشائر وشيوخها الخارجة في معظم المناطق عن سلطة الدولة.

فالقانون لم يكن مطبقاً إلا على مناطق حضرية أو زراعية يقيم فيها الناس بصفة أفراد وعوائل لا تجمعات عشائرية، أما الجزء الأكبر من وادي الرافدين فظل محكوماً وفق هذا المبدأ: كلما استقرت العشيرة وأصبحت منغمرة بالفلاحة، فقد أبناؤها روحية القتال التي كان أسلافهم يمتلكونها حين كانوا رحّلاً بالكامل.

لذلك فإن القبائل غير المستقرة الحديثة العهد بالقدوم إلى العراق هي التي كانت تأخذ الخوات من المزارعين غير العشائريين ومن العشائر شبه المستقرة المقيمة بالقرب من النهر، فهي تحتقر العمل وتقدس القتال، لذلك فهي تنظر إلى المجموعات الأخرى بالازدراء نفسه الذي لا يميز بين واحدة وأخرى، وترفض تزويج بناتها حتى للعائلات الزعيمة منها، فمن وجهة نظر أبنائها، أيّ طريقة للعيش غير حمل السلاح كانت تعتبر حقيرة ومخجلة، ولأنهم كانوا أكثر ترحالاً ويتمتعون بصفات قتالية متفوقة فإنهم كثيراً ما استطاعوا تأكيد سيطرتهم في عالم العشائر.

وإذا كانت سلطة الولاة العثمانيين لا تتجاوز المدن والأراضي الخصبة المستوطنة على الفرات، مثل هيت وحديثة وعانة وديالى الأدنى وشط الحلة والأراضي الخصبة الممتدة بين كركوك وأربيل والموصل، وأخيراً شط العرب في منطقة البصرة، فإن بقية أراضي العراق كانت تحت سيطرة العشائر المقاتلة غير المستقرة التي يطلق على أبنائها أهل الإبل.

ولهذا السبب، أوكِل لشيوخ وأغاوات هذه العشائر وظيفة جمع الأتاوات والضرائب من أولئك الذين تحت سيطرتهم مقابل الاعتراف بامتلاكهم الأراضي التي لا يقيمون فيها. وعند وصول الوالي مدحت باشا الذي حكم العراق ما بين عامي 1869 و1872 وأسس دائرة الطابو، التي تقوم على مبدأ الملكية الشخصية فقطـ، مُنح شيوخ هذه العشائر المقاتلة أراضي شاسعة بمن فيها من مزارعين وعشائر نهرية شبه مستقرة.

ولعل تلك الخطوة كانت وراء استقرار هذه العشائر أخيراً

كذلك، فإن النزاعات داخل العشيرة الواحدة أدت إلى توزعها في أكثر من منطقة، فعشيرتا شمر طوقة وشمر جربة هما من أصل واحد، فكلتاهما جاءتا من جبل شمر في نجد، مع ذلك سكنت الأولى جنوب بغداد والثانية ظلت تجوب حول مدينة الموصل وفي الجزيرة، وهذه الحال تنطبق على العديد من العشائر الكبرى كالزبيد والعبيد.

ما فرقها أكثر، هو تحول فروع تلك العشائر القاطنة في المناطق الواقعة جنوب بغداد، مثل شمر طوقة وتميم والزبيد والجبور والعبيد إلى المذهب الجعفري خلال القرن الـ 19، بفضل نشاط الدعاة الشيعة القادمين من النجف وكربلاء، وتسامح المماليك معهم، في حين بقيت فروعها الأخرى الواقعة إلى شمال بغداد على مذاهبها السنية.

إلا أن الانتماء للعشيرة الأصل ظل قوياً، فالعصبية التي تجعل أبناءها متماسكين كانت أقوى من الاختلاف المذهبي الذي برز بعد فترة طويلة على تشكلها والجغرافيا التي تفصل بعضهم عن بعض، ولعل استيقاظ غريزة البقاء الجمعية وسط اندلاع نيران الفتنة الطائفية التي أعقبت تفجير ضريح العسكريَّين في سامراء يوم 22 فبراير (شباط) 2006، أيقظت معها ذاكرة الانتماء العشائري الجمعية، وبفضل ذلك، تم إخماد الحريق الذي اندلع ببغداد في زمن قياسي.

غير أن استيقاظ الروح العشائرية لإطفاء الحريق الطائفي، كان لها ثمن غال، فالدولة تقوم على تمثيل المواطنين جميعاً بالتساوي، وشرطها الأساسي هو تخلي الجماعات والأفراد عن جملة حقوق للصالح العام، فهي الموكلة بحمايتهم والاقتصاص ممن يلحق ضرراً بهم عبر القوانين والمحاكم المستقلة وعبر مؤسسات إنفاذ القانون.

لكن كل ذلك اختفى مع صعود العشائرية كمؤسسة تأمين اجتماعي، ولعلنا نستطيع تلمس تدهور الموقع الروحي لأحزاب الإسلام السياسي الشيعية والسنية في العراق ابتداء من عام 2014، وما ترتب عنه من حركة رفض واسعة يشهدها العراق اليوم عابرة للطوائف والاثنيات.

ولعل هذه الحال تنطبق على الجيش الذي أعيد إنشاؤه بعد عام 2003 على أسس طائفية محض، فبدلاً من أن تكون قوة توحيد وصهر لأبناء البلد المنتمين إلى مناطق ومذاهب وأديان وقوميات مختلفة، تحولت إلى كتل منفصلة عن بعضها البعض تخدم مصالح هذا الحزب أو ذاك، هذه الطائفة أو تلك، بدلاً من أن تكون مهمته الأولى والأخيرة خدمة الشعب والدفاع عن الوطن.

كان مؤسس الدولة العراقية الحديثة الملك فيصل الأول ذا بصيرة لم يقدرها الكثير من النخبة المتعلمة (على صغرها)، فهو سعى إلى إنشاء جيش وطني عابر للعشائر والطوائف والاثنيات يستطيع أن يلجم القوة العشائرية المنفلتة، خصوصاً تلك التي ما زالت تتمتع بروحية التمرد ورفض سيادة قانون آخر غير قانونها المناقض لنشوء الأمم.

يشكو فيصل في مذكرة بعثها إلى عدد قليل من الذين يثق بهم عام 1933 من وجود "أكثر من 100 ألف بندقية (لدى الشعب) في حين أن الحكومة لا تملك غير 15 ألفاً منها. وكما رأينا، فإن التحولات من البداوة إلى التحضر تشبه كثيراً تحول صخور الجبال الصلبة إلى حبات رمل بفعل عوامل طبيعية عدة، وتتطلب زمناً طويلاً.

وكأن استيقاظ النظام العشائري بكل طقوسه وتقاليده خطوة إلى الوراء. العودة إلى انتماء بدائي على حساب الانتماء إلى الوطن، وتكريس للفساد والتشرذم. لا بد من أن الصدمة الكبرى التي تلقاها فيصل الأول بعد تتويجه ملكاً على العراق عام 1921، هو غياب الهوية الوطنية التي تجمع هذا العدد الكبير من الكيانات الصغيرة المتشرذمة المتصارعة في ما بينها، والتقلب في المواقف.

ففي ولاية بغداد، على سبيل المثال، "كان هناك عام 1918، ما لا يقل عن 110 عشائر مستقلة تضم 1186 فرعاً عشائرياً وكان الكثير من هذه الفروع متحرراً عملياً من سلطة العشيرة الأم" (حنا بطاطو: العراق الجزء الأول صفحة 104). وكأن الشخصية العراقية حملت في جيناتها سبعة قرون من الاضطرابات والصراعات بين قوى خارجية ظل العراق مسرحاً لها، وظل سكانه تتجاذبهم هذه القوى يميناً وشمالاً، عدا عن تلك النزاعات بين العشائر على الماء والكلأ والأرض، ونزاعاتها الداخلية التي كانت تقود إلى انشقاقات متواصلة في كياناتها نفسها.

في مذكرة سرية كتبها الملك فيصل الأول واصفاً هذا الواقع الغريب الذي عاشه خلال سنوات العشرينات من القرن الماضي في العراق، "أقول وقلبي ملآن أسى أنه في اعتقادي لا يوجد في العراق شعب عراقي بعد، بل توجد كتلات بشرية خالية من أي فكرة وطنية متشبعة بتقاليد وأباطيل دينية، لا تجمع بينهم جامعة، سماعون للسوء، ميالون للفوضى، مستعدون دائماً للانتفاض على أي حكومة كانت، نحن نريد والحالة هذه أن نشكل من هذه الكتل شعباً نهذبه، وندربه، ونعلمه، ومن يعلم صعوبة تشكيل وتكوين شعب في مثل هذه الظروف، يجب أن يعلم أيضاً الجهود التي يجب صرفها لإتمام هذا التكوين، وهذا التشكيل" (عبد الرزاق الحسني، تاريخ الوزارات العراقية، ص 286-293).

لم تُمنح للملك فيصل الفرصة للمضي في تحقيق حلمه فموته المفاجئ عام 1933 أدخل العراق في نوبات متكررة من العنف والتدمير الذاتي عقوداً متتالية، كأنها صدى لما حدث خلال أكثر من ثمانية قرون. في الوقت نفسه، كم كشفت هذه النبوءة عن صحتها في كل التاريخ الدامي المضطرب الذي عاشه العراق، وكم أصبحنا اليوم قريبين من مفهوم شعب بمعناه الأدق؟

اقرأ المزيد

المزيد من آراء