Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

حسن نصر الله يخاطب اللبنانيين وكأنهم إيرانيون

خطاب "علمي" في الذكرى الأربعين للثورة الخمينية

حسن نصرالله يخطب في الذكرى الأربعين للثورة الإيرانية

في الخطاب الذي ألقاه السيد حسن نصر الله مساء أمس في سياق الاحتفال الذي يحييه "حزب الله" في الذكرى الأربعين للثورة الإيرانية (1979)، بدا كأنه يخاطب اللبنانيين بصفتهم مواطنين إيرانيين، مستعرضاً الإنجازات الثقافية والعلمية والعسكرية "الرهيبة" التي حققتها "ولاية الفقيه" طوال العقود الأربعة، متباهياً بها بل مقارعاً بها الدول العظمى، وفي اعتقاده أن الجمهورية الإسلامية باتت الآن في مصافها، تجاريها وتنافسها عالمياً. أصر الأمين العام لـ "الحزب" على أن يتوجه في هذه الذكرى إلى اللبنانيين كافة، وليس إلى جماعته ومناصريه الذين اعتادوا على أن يتابعوه عبر تلفزيون "المنار" و"الميادين"، فنقلت محطات لبنانية عدة هذا الخطاب كما تفعل دوماً، علماً أنه خطاب "موجّه"، غايته معلنة ورسالته واضحة تمام الوضوح. خاطب السيد اللبنانيين كلهم، ولكن لا ليسمعوا وحدهم بل لتسمع الجمهورية الإسلامية أيضاً عبر قنواتها الخاصة. ولم يكن تكراره الطلب جهاراً من الخالق أن يأخذ ما تبقّى من حياته ويمنحه إلى المرشد الأعلى الإمام خامنئي كي يطول عمره، إلا اعترافاً بالأبوة الخامنئية الرمزية والعقائدية، وبالبنوة الروحية والأيديولوجية. بدا الأمين العام في خطابه "الثوري" كأنه ينوب عن الجمهورية الإيرانية وينطق باسمها ليقدم للبنانيين بياناً حافلاً بما حققت من إنجازات لا تحصى. استغرق استعراضه هذه الإنجازات، العلمية والعسكرية والطبية والفضائية والنووية والصناعية والاقتصادية والتنموية والاجتماعية والإنسانية والجندرية... وقتاً غير قصير، وكاد يطغى على الشطر السياسي من كلامه. وكان يردد، حيناً تلو آخر، جملته: هذا ما تحقق في عهد ولاية الفقيه، مقارناً بينه وبين عهد الشاه الذي بلغ برأيه، أدنى المراتب اقتصاداً وعلماً وديموقراطية.

أورد الأمين العام في "الجردة" الإيرانية تفاصيل التفاصيل، وسمى الاختراعات الفريدة في كل الحقول، لا سيما الاختراعات العسكرية التي رسخت الترسانة الإيرانية عالمياً، وتوقف عند خصائص النهضة العلمية الحديثة التي تحققت خلال أربعين عاماً، وعند الإصلاحات التي شهدتها الجمهورية على صعد عدة، وعند التعليم على اختلاف درجاته، وعند الحرية التي يتنعم بها الشعب والتحرر من موبقات الغرب... أما في شأن المراجع التي اتكأ عليها ليسرد هذه الإنجازات في بيانه المفصل، فقال إنها ليست مأخوذة من مصادر الدولة بل من تقارير صحيحة، إيرانية و"أممية".

كان الأمين العام هادئاً في بيانه الاستعراضي على خلاف خطبه النارية، فهو يعلم أن الجمهور الذي يستمع إليه اطلع على تقارير أخرى، تختلف عن تقريره، وبعضها صدر عن منظمات عالمية لا يُشك في مصادرها، ويكشف الأزمات الرهيبة التي يعانيها الشعب الإيراني، وهي أزمات فقر مدقع وبطالة وحرمان. ولم تكن التظاهرات التي قامت قبل أشهر اعتراضاً على "سياسة" الجمهورية على رغم القمع الشديد، إلا دليلاً واضحاً على تفاقم الأزمات المعيشية.

يذكر الجميع، ومنهم جماعة "حزب الله"، كيف رفضت إيران بشدة القرار الذي اتخذه البرلمان الأوروبي في العام 1999بإرسال بعثة دولية للتحقيق في حوادث اغتيال مثقفين إيرانيين معارضين للنظام. ولا يمكن تجاهل "المؤتمر العام" الذي عقده في باريس ممثلون عن ثلاثمئة جمعية ومنظمة إيرانية من أوروبا والولايات المتحدة وأوستراليا وسواها، ورفعوا في ختامه بياناً نددوا فيه بما سموه "السجل المشين" للنظام الحاكم في إيران ودعوا إلى إسقاطه وإرساء نظام جمهوري ديموقراطي. ووقعت البيان شخصيات إيرانية كبيرة مثل المحامية شيرين عبادي الحائزة جائزة نوبل للسلام، والناشطة الحقوقية نسرين ستوده والمخرجان السينمائيان محسن مخملباف وجعفر باناهي. ولئن تحدث نصر الله عن حركة العودة الكبيرة التي أعقبت سقوط نظام الشاه ونهوض الجمهورية الإسلامية، ويقصد عودة مواطنين إيرانيين منفيين، فهو لا يمكنه تجاهل أن خمسة ملايين شخص غادروا إيران غداة اندلاع الثورة، ثم راحت تتواصل حركة الهجرة لاحقاً بعد حملات القمع التي طاولت المعارضين من ليبراليين ويساريين وديموقراطيين، وبعد أعمال الاعتقال والاضطهاد والاغتيال. هذه الوقائع ليست خفياً على أحد، حتى الإيرانيون يعلمون بها. فالثورة لا بد من أن تترك ضحايا وتحدث خراباً هائلاً.

أصبح المنفى الإيراني في الأعوام الأخيرة أشبه بـ "وطن" إيراني موقت ودائم في آن واحد، وبات المنفيون يزدادون عدداً ووجوداً أو حضوراً. ويمكن الآن الكلام ببساطة عن أدب المنفى الإيراني وفن المنفى وسينما المنفى وثقافة المنفى في حدودها الواسعة. شعراء وروائيون وفنانون ورسامون يعيشون بين أوروبا والولايات المتحدة وسواهما، يبدعون وينتجون، مرسخين حركة أدبية وفنية طليعية، متجذرة في أرضهم الأم ولغتهم الأم وذاكرتهم الجماعية. وقد لا تحصى الروايات والكتب والأفلام والمعارض التي تتوالى في هذه الهجرة القسرية. في أحد ملاحقها قدمت صحيفة "لوريان لوجور" الفرنكوفونية أخيراً ملفاً عن بعض الفنانين والكتاب الكبار الإيرانيين المنفيين وألقت أضواء سريعة على إبداعاتهم التي فرضت نفسها في المعترك الثقافي الغربي وأصبحت في مقدم المشهد العالمي. ومن هذه الأسماء: عباس كياروستامي، جعفر باناهي، ريزا ديراكشاني، محسن مخملباف، باهرام بيازي، غولشيفتي فراهاني، مرجان ساترابي، جيسو شاكيري، مانا نياستاني، خسرو حسن زاده، بارفيز تانافولي، مريم مجيدي، شادورت ديجفان، صايح سارفاراز، اذر نفيسي، كامين محمدي.

لم يعد جائزاً الكلام على الثقافة الإيرانية في معزل عن ثقافة المنفى الإيراني، فهذه الثقافة المنفية متجذرة في الذاكرة الجماعية والوجدان العام وتؤلف مشروعاً حداثياً حقيقياً، حراً وبعيداً كل البعد عن سلطة "ولاية الفقيه" وأيديولوجيتها. وما يدعو إلى الاستغراب أن هذه الثقافة المنفية حاضرة بشدة في الداخل ولو سراً وفي غفلة من عين الرقيب المتشدد.

المزيد من آراء