Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

بيتر هاندكه يكتب حكايات الاغواء الاخيرة للعاشق المهزوم... دون جوان

رواية جديدة له تترجم إلى العربية بعد فوزه بنوبل

بيتر هاندكه وروايته "دون جوان" (ويكبيديا)

بعد صدور روايات عدة للروائي بيتر هاندكه مترجمة إلى العربية عن الفرنسية والإجليزية والألمانية ومنها "المرأة العسراء" و"قلق حارس المرمى عند ضربة الجزاء" و"رسالة قصيرة لوداع طويل"، يقدّم الكاتب والمترجم المصري المقيم في ألمانيا سمير جريس ترجمة أولى عن الألمانية لرواية "دون جوان - يحكي عن نفسه"، مع مقدمة وافية وشروح (دار سرد ودار ممدوح عدوان2019). وكان هاندكه أصدر روايته هذه العام 2004 وصاغ فيها صورة خاصة جداً لهذا العاشق الأسطوري الذي دخل مخيلة القراء في أوروبا منذ القرن السابع عشر. هذه الرواية كنت قرأتها في الترجمة الفرنسية البديعة التي أنجزها العام 2006 الكاتب جورج أرتور غولد سميث، المتخصص بأعمال هاندكه ترجمة ونقداً، لكن قراءتها بالعربية بترجمة سمير جريس البديعة والمتينة تجذرها في قلب اللغة العربية.

قد لا تكون رواية "دون جوان" من أهم أعمال الكاتب النمساوي بيتر هاندكه، الفائز أخيراً بجائزة نوبل للأدب، لكنها تحمل سمات تجربة خاصة جداً في مسار هذا الروائي بصفتها عملاً يميل إلى أن يكون فانتازياً بل غرائبياً أيضاً، قريباً بعض القرب مما يسمى "قصص الجنيات"، على الرغم من بعض ملامحه الواقعية. وتجسد هذه الرواية أيضاً انضمام هاندكه إلى حلقة الروائيين والمسرحيين والشعراء وحتى القلاسفة (سورين كيركيغارد مثالاً) الذين استوحوا على مر العصور "أسطورة" دون جوان، هذه الشخصية الساحرة والغامضة، التي كان أول من خلقها، الكاتب الإسباني تيرسو دي مولينا العام 1630 وأوجد لها ملامح روائية وبيئة وزمناً. وقد لا تحصى أسماء المبدعين في العالم الذين كتبوا عن هذا العاشق الذي يوصف بـ "مغوي النساء"، وكل منهم أعاد خلقه على طريقته وبحسب تصوراته.  وفي مقدم هؤلاء الكاتب الفرنسي موليير الذي وضع مسرحيته الشهيرة "دون جوان" عام 1664 ونجح مذ ذاك في نشر صورة شعبية لهذا العاشق وعبر أسلوبه الكوميدي الفريد. ثم توالت نصوص أخرى: المسرحي الإسباني غولدوني، الروائي الفرنسي بروسبر ميريميه، الشاعر الروسي بوشكين، الشاعر البريطاني لورد بايرون، الشاعر الفرنسي بودلير، الروائي الفرنسي ألكسندر دوما الأب، المسرحي السويسري ماكس فريش، المسرحي الألماني برتولت برشت، الكاتب التشيكي جوزف تومان، الروائي البرتغالي جوزيه ساراماغو وسواهم حتى القرن الحادي والعشرين مع الفرنسية آن ماري سيمون والفرنسي إريك إمانويل شميدت وآخرين. وغزت شخصية دون جوان عالم الموسيقى والسينما والأوبرا، وكان الموسيقي موتسارت ألف رائعته "دون جوفاني" منطلقاً من نص كتبه دابونتي وعرضت للمرة الأولى العام 1787.

تصعب المقارنة بين رواية بيتر هاندكه وسائر الأعمال "الدون جوانية" في الأدب العالمي وتحديداً الأوروبي، لكن هاندكه سعى إلى تأويل غير مألوف لصورة هذا العاشق، زارعاً أياه في الزمن الحاضر(على رغم لازمنيته)، وتحديداً في فرنسا، وألقى عليه مهمة سرد حكاياته لشخص آخر يعيش في نزل مهجور، يؤدي دور الراوي. وهنا تتجلى لعبة هاندكه الفريدة: دون جوان يروي لشخص يروي بدوره. يقول الراوي في هذا الصدد: "كان دون جوان يبحث دوماً عن شخص يصغي إليه، ثم عثر فيّ، ذات يوم جميل، على هذا الشخص. لم يروِ لي حكايته عبر ضمير الغائب. هذا ما أتذكره الآن". ويُوجِد هاندكه وجوه شبه بين الراوي ودون جوان، فالراوي الفرنسي الذي يختار بعد فشله في حياته وأعماله، العيش بالقرب من أنقاض دير بور رويال دي شان في منزل قديم هو منزل حارس الدير، وقد جعله نزلاً فقيراً أو "موتيلاً" وضم إليه مطبخاً كان هو الطباخ فيه، إضافة إلى اهتمامه بحديقته التي يحط فيها دون جوان وكأنه الأمير الصغير في رواية أنطوان دو سانت أكزيوبيري أو ملاك هابط من الفضاء، كأن يقول الرواي: "هل جاء؟ هل ظهر؟ بل سقط بالأحرى في حديقتي متعثراً".

ومثلما بدا دون جوان ساعياً إلى تبديل مسار حياته بدا الرواي أيضاً متلفهاً إلى كسر رتابة حياته التي تملأها الكتب. فهو قارئ حقيقي يمضي وقته في تقليب الصفحات، قرأ أعمالاً لجان راسين وباسكال وستندال ودوستويفسكي وتوماس مان وجورج سيمنون... وعشية وصول دون جوان يقول: "كفى قراءة"، ويضع الكتب جانباً وفي حدسه أن دون جوان سيحل محلها. أصبح الراوي مرآة لدون جوان ودون جوان مرآة للراوي. بل لعل القصة كلها وفي كل تفاصيلها قد تكون بنت خيال الراوي، اخترعها أو دفعه الكاتب هاندكه إلى اختراعها، وهذا الاحتمال يقود إلى قوة التخييل الذي تتمتع به الرواية. لكن عمل هاندكه يشمل أيضاً شخصية دون جوان نفسه، الذي يجمع بين صورتيه المألوفة والأسطورية معاً.

العاشق الصعلوك

يتوقف المترجم في مقدمته عند استهلال هاندكه روايته بجملة وردت على لسان "دون جوفاني" في أوبرا موتسارت: "لن تعرف مَن أنا"، متسائلاً إن كانت روايته هذه محاولة للإمساك بملامح هوية العاشق المغامر. ويرى أن دون جوان هاندكه ليس عاشقاً مهووساً بالجنس، ولا شخصاً متمحوراً حول ذاته الذكورية. بل هو كما شاءه الكاتب "صعلوك شريد، دائم التنقل، يهجر بلداً ليحط في آخر". فدون جوان هنا "دائم البحث عن الوصال والتواصل" ليس رجل إغواء وإغراء.

عندما يحط دون جوان في حديقة الطباخ أو الرواي، يشعر الأخير أن دون جوان  عوّض له عما كان يبحث عنه في قراءاته: "الرحابة الداخلية والاتساع العابر للحدود"، وكان عليه هو أن يمنح دون جوان آذاناً صاغية فيستمع إلى حكاياته الغريبة. وكان لا بد من أن تنشأ بين الطباخ وضيفه ألفة وصداقة. فيتنزهان معاً، ويقضيان الليل يتسامران. ثم يروي دون جوان للطباخ المغامرات التي عاشها في الأيام السبعة الأخيرة من رحلته. يروي دون جوان الحكايات السبع خلال سبع أمسيات عن سبع نساء، كل واحدة ذات "جمال لا يوصف". ولا بد هنا من الوقوف عند الرقم سبعة الذي يملك رموزاً عدة في الحضارات كافة، في الأديان والعلوم الباطنية والأدبيات الميتافيزيقية. ففي التوارة على سبيل المثل يجري الكلام عن سبع نساء ومنهن: مريم، سارة، أستير... ولعل ما يؤكد النزعة الغرائبية أو الفانتازية للرواية هو انتقال دون جوان المتخيل وغير الواقعي بين مدينة وأخرى، بحثاً عن مغامراته، وكان في صحبته مرافق اختفى عند هبوطه في حديقة الطباخ.

يروي دون جوان للطباخ أن رحلته الأولى بدأت في تبليسي في القوقاز مع  عروس تهرب من حفلة زفافها لتتبعه. في الحكاية التالية يروي عن المرأة الدمشقية التي شاهدت معه حفلة الدراويش الراقصين، ثم عن المرأتين اللتين تعرف إليهما في بلدة سبته المغربية، ثم عن المرأة المعتوهة في النروج التي تغادر الكنيسة كي تلتقيه، ثم عن الفتاة السهلة المنال التي يجامعها في هولندا، ثم عن المرأة التي يقابلها في بلد لا اسم له، ثم في بور رويال في فرنسا. "النساء كلهنّ يرغبن في دون جوان، ويشبعن رغبتهنّ معه، ثم يفقدنه"، يقول جريس في المقدمة. ويقول الراوي أو الطباخ: "حكايات دون جوان كانت حكايات شغف أو هوى وليست حكايات إغواء". ثم يؤكد أن دون جوان لم يكن مغوياً ولم يوقِع بأي امرأة بتاتاً ولم تفتنه أي حسناء. وبرأي جريس أن الشهوة لم تكن هي محرك دون جوان في الرواية، ولا المجون". إنه يسدد نظرة إلى امرأة، وتعرف المرأة على الفور أن هذا هو فارسها". ولم تنجذب أي امرأة إلى دون جوان إلا لأنها رأت فيه "سيد ذاته"، وفي لحظات الوصال "سيدها". هكذا يستمد دون جوان سلطته من نظراته الخارقة والمؤثرة التي ليست هي نظرات شهوانية، بل "إنها تطلق شهوة المرأة من إسارها، من غير أن تثير الشهوة" كما يقول جريس. بل إن دون جوان يستمد سطوته من الحزن أيضاً، كالحزن على طفل ميت. وبحسب الراوي، فاللحظة المعيشة تتماهى مع الأبدية والحب يوقف مرور الزمن أو يعلقه". لم تكن المشكلة التي تشغل بال دون جوان هي العاطفة أو الشهوة، بل الزمن. إنه يريد أن يكون سيد وقته، ولهذا تنظر النساء إليه باعتباره "سيد الزمن".

لا تخلو رواية بيتر هاندكه من التأمل الفلسفي في موضوعات وجودية مثل الزمن والعبور، الحب والموت، الروح والمتيافيزيك، ولكن في سياق سردي تخييلي، مرجعيته شخصية دون جوان، العاشق الذي ينتهي هنا إلى حال من العزلة الخواء. في الختام يرحل دون جوان ويبقى الراوي الذي يستعيد حكايته كما رواها، وهي "الحكاية التي لا يمكن أن تنتهي، لأنها حكايته الأخيرة والحقيقية".

المزيد من ثقافة