على الرغم من الشكر الذي وجهه الرئيس الأميركي دونالد ترمب إلى حكومات كل من تركيا وروسيا وسوريا والعراق والأكراد السوريين والعراقيين بعد الهجوم على مكان اختباء زعيم تنظيم "داعش" أبو بكر البغدادي، الذي أدى إلى مقتله، إلا أن ما كشف عنه مسؤولون أميركيون بارزون يؤكد أن أكثر مَن وفر معلومات حاسمة للاستخبارات الأميركية على الأرض ومكنها من نجاح العملية، كانوا الأكراد وكان مظلوم عبدي، قائد قوات سوريا الديمقراطية، هو الأجنبي الوحيد الذي يعلم مكان الهدف. وعلى النقيض من ذلك ، لم تقم تركيا التي تشن حملة ضد القوات الكردية في شمال سوريا بأي دور في العملية.
طبيعة الدعم الكردي
وفقاً لمسؤولين أميركيين تحدثوا إلى مجلة "فورين بوليسي" وصحيفة "نيويورك تايمز"، فإن الأكراد السوريين والعراقيين وفروا معلومات للأميركيين أكثر من أي بلد آخر، بسبب توافر عناصر موالية لهم في مكان اختباء البغدادي تمكنت من جمع معلومات دقيقة عن الموقع المستهدف، وأن قوات سوريا الديمقراطية (قسد) التي تشكل الوحدات الكردية عمودها الفقري، عملت على مدى خمسة أشهر متواصلة مع الحكومة الأميركية لجمع معلومات استخباراتية عن مكان البغدادي. كما كان عبدي الأجنبي الوحيد الذي يعلم مكان الهدف بعدما زرعت "قسد" عناصر لها في قرية "بريشا" داخل محافظة إدلب الواقعة في شمال غربي سوريا على الحدود مع تركيا.
وأكد المسؤولون الأميركيون أن الأكراد واصلوا توفير المعلومات، حتى بعد قرار ترمب سحب القوات الأميركية من شمال شرقي سوريا والتخلي عن الأكراد السوريين الذين قاتلوا معهم لهزيمة تنظيم "داعش"، ليواجهوا وحدهم هجوماً تركيا بعد ذلك. كما أن "قسد" تعاونت لرصد البغدادي على الرغم من أن محافظة إدلب تسيطر عليها فصائل موالية لتركيا، من أهمها "هيئة تحرير الشام" المعروفة سابقاً باسم جبهة النصرة التي تُعد الجناح السوري لتنظيم القاعدة.
ونقلت "نيويورك تايمز" عن مسؤول استخبارات أميركي قوله إن أحد المهندسين السوريين تحدث مع القرويين في بريشا وعلم منهم أن البغدادي سعى إلى البحث عن ملجأ في منزل أبو محمد سلامة قائد في تنظيم "حراس الدين"، إحدى الجماعات المتشددة التي تأتمر بأوامر تنظيم القاعدة، لكنه من غير الواضح مصير هذا القائد أو طبيعة علاقته بالبغدادي.
أنقرة بلا دور
في المقابل، فإن العاصمة التركية أُخطرت بالعملية الأميركية قبل تنفيذها بقليل بحسب مسؤولين في واشنطن بهدف منع حدوث أي اشتباك مع الطائرات والقوات الأميركية المهاجمة، خصوصاً أن المنطقة فيها نقاط مراقبة عسكرية تركية وفقاً لاتفاق خفض التصعيد، إلا أن المسؤولين الأميركيين أوضحوا أن أنقرة لم يتم إخطارها بهدف أميركا من الهجوم، خشية تسريب معلومات قد تضر بسرية العملية.
وأوضح مسؤول أميركي آخر لمجلة "فورين بوليسي" أن تركيا لم تقدم أي نوع من المساعدة إلى الجانب الأميركي، على الرغم من أن زعيم "داعش" كان على بعد كيلومترات قليلة من الحدود التركية، مُعتبراً أن ذلك يُشير إلى أن تركيا لا تفعل سوى القليل لمكافحة التنظيم.
وعبّر مراقبون عن دهشتهم من كيفية تجاوز البغدادي الحواجز الأمنية التي تنتشر في إدلب وتشرف عليها الفصائل الموالية لتركيا، وبقائه في المكان قرب الحدود التركية لأشهر من دون أن تعلم أنقرة بما يجري.
وفيما أكد ترمب أن الروس فتحوا المجال الجوي السوري للطائرات الأميركية من دون علمهم بطبيعة العملية، ذكرت الاستخبارات العراقية أنه كان لها دور كبير في إنجاح العملية، غير أن الرئيس الأميركي اكتفى بتوجيه الشكر إلى الجانب العراقي بينما لم يكشف المسؤولون الأميركيون عن فحوى التعاون مع الحكومة العراقية وتفاصيله.
التخطيط للغارة الأميركية
كشفت صحيفة "نيويورك تايمز" التسلسل الزمني للعملية الزمنية بدءاً من جمع المعلومات والتخطيط للهجوم، وانتهاء بالتنفيذ والتأكد من النجاح، حيث حدد أكثر من ستة من القادة العسكريين الأميركيين ومسؤولي الاستخبارات ومكافحة الإرهاب التفاصيل الدقيقة لهذه المهمة الطويلة والمعقدة والمحفوفة بالمخاطر.
فقد بدأ التخطيط للعملية الصيف الماضي حينما حصلت وكالة الاستخبارات الأميركية "سي آي إيه" على معلومات بأن زعيم "داعش" موجود في إحدى القرى التابعة لمحافظة إدلب في شمال غربي سوريا، وذلك عقب اعتقال واستجواب إحدى زوجات البغدادي وأحد السُعاة المرافقين لها.
وبناءً على هذه المعلومات الأولية، عملت الاستخبارات الأميركية عن كثب مع مسؤولي الاستخبارات الكردية والعراقية في كل من سوريا والعراق بهدف تحديد موقع البغدادي بدقة، عبر تحرك عناصر موثوقة في المكان ومراقبة تحركاته الدورية.
ولكن بعد التأكد من تحديد الموقع الذي يقيم فيه البغدادي، ومع بدء وحدة قوات العمليات الخاصة الأميركية "دلتا فورس" التخطيط للتنفيذ والتدريب للهجوم، واجهتها عقبة منيعة تتمثل في أن موقع الهجوم يتمركز داخل منطقة يسيطر عليها تنظيم القاعدة، وأن المجال الجوي فوق المنطقة يخضع لسيطرة النظام السوري والطيران الروسي، وربما كان هذا هو السبب في إلغاء المهمة مرتين من قبل بحسب المسؤولين الأميركيين.
سبب الإسراع بالتنفيذ
غير أن التخطيط النهائي للغارة جاء خلال يومين أو ثلاثة من نهاية الأسبوع الماضي، حيث كان البغدادي على وشك الرحيل من المكان، ولهذا أصر القادة العسكريون الأميركيون على التحرك بسرعة خشية صعوبة تقفي أثر البغدادي بعد رحيله من المكان، خصوصاً مع الانسحاب الأميركي من غالبية الأراضي الأميركية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وبحلول الخميس الماضي، أعطى ترمب الضوء الأخضر لتنفيذ العملية، ومع منتصف ليلة الأحد بتوقيت سوريا، أي الخامسة مساءً بتوقيت واشنطن، أقلعت ثماني طائرات هليكوبتر عسكرية أميركية من طراز شينوك – 47 من قاعدة عسكرية قرب أربيل بالعراق، وحلقت بسرعة كبيرة على ارتفاعات منخفضة لتجنب رصدها.
عبرت الطائرات الحدود ودخلت الأراضي السورية وظلت تحلق لمدة 70 دقيقة خطرة تلقت خلالها طلقات نارية مجهولة من الأرض، إلى أن وصلت إلى قرية بريشا شمال مدينة إدلب مباشرة في شمال غربي سوريا حيث يوجد الموقع المستهدف.
إنزال القوات والاشتباك
قبل إنزال القوات الخاصة، بدأت طائرات الهليكوبتر وطائرات حربية أخرى في إطلاق النار على مجمّع من المباني لتوفير غطاء لقوات الإنزال الخاصة "دلتا فورس" ومعها عدد من الكلاب العسكرية المدربة.
وبحسب ما قاله الرئيس الأميركي، تجاوزت قوات الكوماندوز الباب الرئيسي خشية أن يكون مفخخاً، وبدلاً من ذلك دمّرت القوة أحد حوائط المجمع، ما سمح لهم بالاقتحام والاشتباك مع مجموعة من مقاتلي "داعش"، فقتلت قوات دلتا عدداً منهم وآخرين بعد أن نصح مترجم ناطق بالعربية الأطفال وغير المسلحين بالهروب وهو ما أنقذ 11 طفلاً.
مقتل البغدادي
ووفقاً للرئيس ترمب، ركض البغدادي مسرعاً إلى نفق تحت الأرض واصطحب معه ثلاثة أطفال ليستخدمهم كدروع بشرية على ما يبدو، وبسبب خشية الكوماندوز الأميركي من حمل البغدادي سترة ناسفة، أرسل الجنود أحد الكلاب المدربة للسيطرة على البغدادي، إلا أن زعيم "داعش" فجر نفسه وقتل معه الأطفال الثلاثة.
وفيما أكد ترمب أن البغدادي كان يصرخ ويبكي خلال هروبه إلى النفق، لم يعلق وزير الدفاع الأميركي مارك إسبر على ذلك، قائلاً إنه لا يملك هذه التفاصيل وأن الرئيس ربما أتيحت له فرصة الحديث مع الكوماندوز الأميركي على الأرض.
العملية أُنجزت
في الساعة السابعة والربع بتوقيت واشنطن، أبلغ قائد قوات دلتا فورس أن البغدادي قُتل وأن خمسة آخرين من مقاتلي "داعش" قتلوا أيضاً، في حين أعلن المتحدث باسم البيت الأبيض أن أعداءً آخرين قُتلوا في المكان وأن جنديين أميركيين أصيبا بإصابات طفيفة وعادا إلى الخدمة، كما أصيب الكلب الذي حاول مطاردة البغدادي في النفق.
بعد الغارة، نقلت قوات الكوماندوز الأطفال الـ11 من المكان وسلمتهم إلى سيدة في المنطقة، وبعد ذلك صدرت أوامر بتدمير المكان.
ووفقاً للرئيس ترمب، ظلت القوات الخاصة على الأرض مدة ساعتين لتطهير المباني من المقاتلين وجمع معلومات تحتوي تفاصيل مهمة عن عمليات "داعش"، كما أوضح ترمب أن الكوماندوز حصلوا على عيّنات من الحمض النووي من البغدادي حتى يتأكدوا في تقييم سريع من أن القتيل هو أبو بكر البغدادي.
وبمجرد أن تجمعت القوات الخاصة داخل طائرات الهليكوبتر وحلقت للعودة باستخدام المسار نفسه الذي سلكته في رحلة الذهاب، قصفت طائرات أميركية مجمع المباني المتبقية لضمان تدميرها النهائي.