Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هل تثبت المعالجة المسرحية الجديدة لشخصية ماري بوبينز أنها كانت رائدة في التصدي للتحرش الجنسي؟

بعد خمسة عشر عاماً من عرضه للمرة الأولى يصل هذا العمل بعدما عملت سلسلة من الأعمال على تعقيد وإثراء تلك الشخصية وظاهرتها

نداء خالد: زيزي سترالن في عمل من إنتاج ماري بوبينز عام 2015 (جوهان بيرسون) 

 

تتأفف ماري بوبينز كما لو أن السيدة بانكس قد طالبت بأمر غير لائق نوعاً ما عندما أثارت موضوع شهادات التوصية. "لقد اتخذتُ قاعدة ألا أقدم شهادات التوصية أبداً"، تقول ذلك بحيوية، موجِّهة حديثها إلى والدة جين ومايكل بانكس في المسرحية الغنائية التي تعرض حالياً على مسرح "برينس إدوارد" بلندن. وتضيف، في تلميح بسيط إلى السيدة براكنيل: "إنها فكرة قديمة جداً مزروعة في فكري ... إن أفضل الناس لا يحتاجون إلى شهادات  التوصية أبداً". إنها ليست وقحة تماماً، لكن نبرتها لا تدع مجالاً للشك بشأن مَنْ يتحاور مع مَنْ في هذا اللقاء.

إن الإشارة إلى هذا الغموض، إلى الصرامة الممزوجة بشيء من الحركية الهزلية التي تدفعها إلى أن ترفض شرح نفسها لكل شخص، يشكّل سمة تشترك فيها الشخصية الأدبية الغنائية التي سيطرت على صورة احتضان الأطفال، مع مبتكرتها، باميلا ليندون ترافرز التي كتبت عنها للمرة الأولى في كتاب نُشر عام 1934. لا ينبع ذلك بالضرورة من خوف ماري بوبينز من أن يقدّم أرباب عملها السابقون شهادات سلبية عنها. بالأحرى، يتعلق الأمر أكثر بشهادات قد تكشف عن تلك الثغرات الصارخة التي لا يمكن تجاوزها في الحكاية التي تقدّمها [بوبينز] كخلفية عنها.

كيف يمكنك تسليم أبنائك إلى شخصية يبدو أن قدومها جاء على عجلة ومن دون تمهيد "وأنها موجودة منذ زمن بعيد ومتصالحة مع كل القوى في الكون"؟ بتلك المفردات، وصف ريتشارد آير، مدير النسخة المسرحية من العمل الموسيقي، شخصية بوبينز.

بعد خمسة عشر عاماً على عرضه للمرة الأولى هذا المكان نفسه، يعود ذلك العمل بعد أن أدت مجموعة من الأعمال إلى تعقيد ظاهرة ماري بوبينز وإثرائها.

هل ستثبت بأنها "سبقت حركة "#مي-تو" #MeToo"، وفق كلمات كاميرون ماكينتوش، المؤلف المشارك للمسرحية؟ هل ستكون سديدة أكثر من الأوقات الماضية في طريقة انتقادها الأعمال المصرفية، في زمن ما بعد انهيار بنك "ليمان براذرز"؟ كان فيلم "إنقاذ السيد بانكس" (2013) من أهم الصيغ في الأعمال التي قدّمت تنويعات على قصة بوبينز. إذ ركز الفيلم بشكل واضح على مدى مقاومة ترافرز، تلك السيدة السريعة الغضب والصعبة المراس (أدّت دورها بشكل رائع إيما طومسون)، في غمار بيع حقوق تحويل كتابها إلى عمل سينمائي تتولاه شركة "والت ديزني"، وكيف بقيت قلقة للغاية تجاه الفيلم الذي صدر عام 1964 بمزيجه السحري من التصوير الحي والرسوم المتحركة.

وبغض النظر عن حقيقة أن الفيلم منح ترافرز حرية التذمّر حول الأمور كلها، بما في ذلك المالية (مع صفقة منحتها 5 في المئة من الأرباح لقاء بيع حقوق كتابها)،  فقد استمرت الكاتبة في رفضها فيلم ديزني معتبرة إياه مهزلة عاطفية. كما أن فيلم "إنقاذ السيد بانكس" يتتبع بشكل مثير الجذور الخاصة لشخصية بوبينز المسرحية ويربطها بطفولة المؤلفة الأسترالية. كان والدها الحبيب (الذي أدى دوره كولن فاريل) مصرفياً فاشلاً وشخصاً حالماً ومدمناً على الكحول، توفي عندما كانت ابنته في السابعة من عمرها.

قُدّمَت العمة إيلي الدقيقة بشكل فائق ولطيف، كنموذج لبوبينز نفسها بعدما جلبت إحساساً من النظام كانت العائلة في أمس الحاجة إليه بسبب انهيار والدتها الذي أدى إلى انتحارها.

لذا يبدو أن الحذر المقنّع، الذي يشكّل مسألة غريزة غريبة في بوبينز، قد نشأ عن رغبة في الخصوصية كانت أكثر تقييداً لدى المؤلفة. لقد سعت إلى الهروب من ماضيها الأسترالي المضطرب عِبْر إعادة اختراع نفسها، من طريق قدومها إلى إنكلترا، وتغيير اسمها (كان اسمها الفني هيلين ليندون غوف مستمداً من اسم والدها ترافرز روبرت غوف)، وتقديم نفسها في البداية كممثلة محترفة (أدّت دور تيتانيا في الفيلم المستمد من مسرحية شكسبير "حلم ليلة صيف" في عشرينيات القرن العشرين)، ومن ثم ككاتبة. وعندما خرج كتاب بوبينز إلى الضوء، كانت منخرطة في الأوساط الأدبية الأيرلندية الفخمة وتنشر نصوصاً شعرية ونقدية في المجلات الصغيرة. إذا كنت تتمتع بمعدلات جاذبية مثل التي لديها، فقد ترغب أيضاً في أن يتحول سجلك الرسمي إلى نوع من اللاحتمية التي تؤكّد نفسها.

وفي سياق متصل، تحضر المركزية العاطفية لشخصية الأب في عالمها الخيالي (إذ كانت ابنته دوماً في موقع يمكّنها من إنقاذه) بقوة في فيلم "عودة ماري بوبينز" (الذي صنعته "ديزني" في 2018 كتتمة للعمل الذي أُنتج في 1964. بينما تُقتل شخصية الأم في البداية في الفيلم المتمم، ضمن قصة تنطلق من حياة شخصية مايكل بانكس الصغير وهو في سن الرشد (قجسّده الممثل بن ويشو)، أثناء فترة "الكساد العظيم" في ثلاثينيات القرن العشرين. الآن، بعدما بات الأب أرملَ تجتاحه أشواق رفيعة شبه مؤثرة، ولديه عمل متواضع كصراف في بنك والده القديم ويمتلك أطفالاً مشتتين من دون أمهم، يغدو بديهياً أنه رجل في حاجة إلى مربية. من تلك النقطة، تنطلق سليلة ماري بوبينز (أدّتها الممثلة إميلي بلنت) ويبدأ إحياء محبب للأمجاد السينمائية القديمة.

ويعمل الولاء لمقاطع وصور الفيلم الأصلي على خدمة الفلسفة الموضحة من قِبَلْ بيرت، منظف المداخن الذي أدى شخصيته في النسخة الكلاسيكية عام 1964 الممثل ديك فان دايك (بلكنته العالقة في الأذهان إلى الأبد، وعلاقتها مع اللهجة اللندنية الحقيقية، تماثِل علاقة لكنة جون كولنز في نطقها حروف العِلًة، مع اللكنة غير الهوليودية "الفوقية"). يملك بيرت هواجس قاتمة في الفيلم الأصلي، منشداً "لا يمكنني وضع إصبعي على الموجود في المتجر/ لكنني  أخشى أن ما سيحدث أمر يتكرر". لذا، يؤكد جزء التتمة لفيلم بوبينز أنه يسير على نمط محدد.

في سياق متصل، شاهد كاميرون ماكينتوش هو المنتج الفني المبرز الذي سينتج أعمالاً مسرحية غنائية من بينها "قطط"، و"شبح الأوبرا"، و"الآنسة سيجون"، فيلم "ديزني" الأول وأُغرم بالممثلة جولي أندروز بعيد انتهائه من المدرسة. وعندما قرأ شارة النهاية، اكتشف أن الفيلم يستند إلى أحد كتب بي إل ترافرز. وسرعان ما قرأ كل أعمالها بنهم.

أعتقد أن ذلك يشكّل الفارق الرئيسي بين سعيه إلى تأمين حقوق متكافئة لعرض العمل على خشبة المسرح، وبين محاولة شركة والت ديزني ترغيب المؤلفة بمنحه حقوق العرض على شاشة السينما. عمل ديزني على الإيفاء بوعد قدمه لابنته ديان، التي كانت من العجبين بكتب ترافرز. وكذك كان ماكينتوش محباً حقيقياً. ويأتي المنتج السينمائي الفائق النجاح، وكذلك المؤلفة الشديدة الحرص، من خلفيات محطمة. إذ اعتاد كلاهما الحصول على الأشياء بطريقته الخاصة. نتيجة لذلك، مثلت مفاوضاتهما تصادماً متعنتاً بين شخصين لديهما تشابه قوي معين في المزاجية.

تعد كتب ماري بوبينز رائعة في حد ذاتها. يصف ريتشارد آير الذي قرأ الكتب بناء على طلب ماكنتوش المتحمس، ذلك "التعاقب المذهل من المشاهد السريالية التي تمزج بين الأسطورة والسحر مع الحياة المنزلية من دون تأثير للمشاعر". إنه يشبه التناغم بين مكان وزمان تلك الأحداث وبين تلك التي تجدها في كتب فيليب بولمان. ويصنّف تلك المقاطع التي تجعلك تستحثك على تفكير العميق، بوصفها تجارب شاذة مذهلة تمر كحوادث طبيعية في يوم ماري بوبينز، شكراً جزيلاً. وتُلصِقْ السيدة كوري أقراص بسكويت الزنجبيل لها شكل نجوم، بسقف السماء. وهناك حديقة للحيوانات لكنها مخصصة للبشر وتحرسها الحيوانات.

قصدت ترافرز أن تجذب كتبها الكبار أيضاً. لذا، عندما تطلع على شيء من الجوانب الطفولية المجنونة التي يبدو أن القصص تخلقها، يبدو لك الأمر كما لو أنك تنطلق في عملي أدبي كلاسيكي آخر للأطفال (لنفكر بـ"بيتر بان" على وجه الخصوص). وتتحدث فاليري لوسون التي كتبت سيرة حياة ترافرز، عن "تلهف الكاتبة للبواطن". مثلاً، كم عدد المؤلفين الآخرين ممن لازموا السكان الأصليين لفترات طويلة في نافاجو؟ إن كل هذه الأمور متقاطعة.

بعد أن كوّن حباً هائلاً للكتب، تمكن ماكينتوش أخيراً من لقاء ترافرز في عام 1993 عندما كانت متقدمة في السن، وهشة ومتيقظة الذهن إلى أبعد الحدود. ليس من الصعب تصوّر الهجوم الساحر واللاذع والصادق في آن معاً الذي شنه ماكينتوش. ومع إدراكه الجيد لعقلية المربية الأيقونية التي ابتدعتها، لم يكن منزعجاً من تكتيكات ترافرز المتشابهة والمتمثلة في التهرّب الشديد. وكذلك تساءلت كيف يمكنها أن تعرف الإجابة على الأسئلة حول شخصية ظهرت لها ببساطة. في الحالات كلها، كان قادراً على إقناعها بأنه يريد أن يشبع مسرحيته الموسيقية بروح قصصها وليس مجرد شراء اسم بوبينز من أجل العمل على نقلٍ كسول ومُربِح، من الشاشة إلى خشبة المسرح.

من الواضح أن ماكينتوش علّم نفسه كيف يقرأ ترافرز بأكثر من طريقة. وأدى ذلك إلى اتفاق خلاق في نهاية المطاف مع مؤسسة ديزني التي احتاجت في البداية إلى بعض الإقناع بأنه يجب تأييد المسرح الغنائي. وفي الواقع، ليس ضرباً من الخيال طرح أسئلة عما إذا كان ماكينتوش قد بدأ في توجيه ترافرز. وعرض عليه توماس شوماخر، الذي أصبح الرئيس المنفتح جداً لشركة "ديزني للإنتاج المسرحي" في 2001، حزماً من المواد المتراكمة المتعلقة بفيلم تتمة جرت الموافقة عليه لكنه لم يُصنع أبداً. في الفترة التي كان يعمل فيها في كواليس دار "أوبرا سيدني"، سُرَّ لاكتشاف أن ما أرادت ترافرز أن يُدرَجْ في جزء التتمة، يتناغم مع ما كان يجربه (ماكينتوش) من أجل المسرحية الغنائية.

وقد وُصِفَ العمل الذي تؤدي دور البطولة زيزي سترالين في دور ماري (مع أداء بيتولا كلارك العظيمة في دور بيرد وومان)، بأنه "مسرحية غنائية تستند إلى قصص بي إل ترافرز وفيلم والت ديزني".

يستند العرض إلى نص جديد من تأليف الممثل جوليان فيلوز (نجم مسلسل "داونتاون آبي")، مع أغنيات بارعة للملحنين البريطانيين ستايلز ودرو، جرت إدغامها مع مجموعة الأغاني الأصلية التي وضعها الأخوان شيرمان وتثير الحماسة في عروق الجمهور منذ أن وصلت إلى أسماعه للمرّة الأولى في 1964. أنا لن أفسد متعة مشاهدتكم للمسرحية عِبْرَ إخباركم مدى إشباع الصياغة الجديدة بأجواء القصص. في المقابل، يتوجب القول استثنائيّاً إنّ التماثيل الموجودة في الحديقة لا تتصرف كما ينبغي أن تتصرف التماثيل الحسنة المنشأ التي تتسمّر في مكانها. في المشهد نفسه، يوحد المتجولون في المنتزه قواهم بهدف زرع تلك الفكرة في عقل تمثال الملكة بوديكا.

يحدد ريتشارد آير السبب الذي يجعل جاذبية هذا العمل خالدةً إلى الأبد. إذ يوثّق دخول لطيف لكائن غامض على عائلة تعاني من خلل وظيفي في العلاقات بين أفرادها. لذا، استعدوا لصعود سلالم مسرح "برينس إدوارد". لا محالة، فإن هذه النسخة من ماري بوبينز ستنجح في تحقيق الغرض المطلوب منها وستجعل كتاب ترافرز يختفي من رفوف المكتبات.

تُعرَضْ مسرحية "ماري بوبينز" الغنائية على خشبة مسرح "برينس إدوارد" في لندن، والحجز مفتوح حالياً لغاية 29 مارس (آذار) 2020.

© The Independent

المزيد من ثقافة