تحديات لبنان تتعاظم وسط ثنائية الفرصة والخطر في كل أزمة. الفرصة تكبر بمقدار ما يزداد ويتجذر زخم الانتفاضة الشعبية السلمية العابرة للطوائف والمناطق. والخطر يشتد بمقدار ما تتعمق هواجس الخائفين من الانتفاضة على مصالحهم المحلية وحساباتهم الأبعد. فالانتفاضة سحبت من التداول ما هددت به السلطة من "قلب الطاولة" وأربكت حسابات أي خطة مفترضة.
وفي الأسبوع الثاني للانتفاضة تبلورت ملامح الهجوم المعاكس عليها: نماذج من "العنف" المحدود كرسائل معبرة. ونماذج من "اللطف" الممدود لاحتواء المطالب الشعبية باحتضانها لتغيير الموضوع. فالناس، كما قال ماركس، "تصنع تاريخها بأيديها، ولكنها لا تصنعه على هواها في ظروف تختارها بل في ظروف تواجهها منقولة لها مباشرة من الماضي".
واللبنانيون الذين يصنعون التاريخ اليوم لم يختاروا الظروف، بل نزلوا إلى الشارع في ظروف فرضت نفسها عليهم بفشل السلطة وغطرستها وتراكم السياسات الخاطئة في الماضي والحاضر. وليس عن عبث يوصف الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله بأنه "مرشد الجمهورية". ولا في إطار المفاخرة وحدها قال "إن المقاومة هي الطرف الأقوى في المعادلة الداخلية". فهو يهدد ويدعو من يخاف من إصبعه المرفوع إلى أن يخاف، كما يقدم النصائح للمسؤولين وللمنتفضين. يدافع عن المسؤولين ويقول ما فاتهم قوله في كلمة الرئيس ميشال عون وبيان الرئيس سعد الحريري وخطب وزير الخارجية جبران باسيل. ويطلب من المحتجين أن يعرفوا من يقودونهم ومن "يمول" التظاهرات، وأن يشكلوا وفداً للتفاوض مع السلطة على مطالبهم. ومختصر موقفه ثلاث لاءات: لا لإسقاط العهد، لا لاستقالة الحكومة، ولا لانتخابات نيابية مبكرة. والحجة المعلنة هي الخوف من الفراغ والفوضى. وهي أيضاً أن هناك قوى داخلية وخارجية دخلت على الخط لحرف الحراك الذي "كان عفوياً في أيامه الثلاثة الأولى" من أجل أهداف سياسية. أي قوى داخلية وخارجية؟ هو لا يسمي بل يلمح بما هو أبلغ من التسمية. ولا يكشف أي شيء مما يسميها "معلومات" لديه. وأي أهداف سياسية؟ إنها دفع لبنان إلى الفراغ والفوضى والانهيار، لأن هذا ما بقي لفعله أمام الذين فشل رهانهم على "حرب أميركية على إيران".
لكن الجانب الآخر من الصورة مختلف تماماً: الستاتيكو الحالي مريح لحزب الله الذي قاد إليه عبر سلسلة متغيرات على مراحل. إذ هو يملك مع حلفائه الأكثرية في المجلس النيابي والحكومة بعدما عمل كل ما هو ممكن لإيصال حليفه العماد ميشال عون إلى رئاسة الجمهورية. وهو يمسك، وسط تسليم التركيبة الحاكمة، بقرار الحرب والسلم، ويملك حرية الحركة بحيث يشارك عسكرياً في حرب سوريا وله دور في العراق واليمن وسواهما. ولا مصلحة له في هز الستاتيكو. ولا بديل لديه من الحريري في رئاسة الحكومة، بحيث تشكل السلطة مظلة ديبلوماسية له وقت العقوبات الأميركية.
وهكذا اكتملت عنده المعادلة: ستاتيكو لبناني يخدمه. وتقدم في المنطقة لـ"محور المقاومة والممانعة" الذي هو اسم مستعار للمشروع الإيراني على حساب العرب والغرب. وإذا كان يستطيع "تغيير كل المعادلات في لبنان" بالقوة، كما أعلن، فإنه يعرف خطورة ما بعد المغامرة وإدخال لبنان في الحصار العربي والغربي. فضلاً عن أن "التحكم" بلبنان هو ربح صاف له، في حين أن "حكم" لبنان هو أكثر من خسارة له. وليس صحيحاً أن الخيار أمامنا هو ما يضعه السيد نصرالله: الحكومة الحالية أو الفراغ والفوضى. تماماً كما كان الخيار الذي وضعنا فيه على مدى عامين ونصف العام: عون أو لا رئاسة.
الصحيح أن الإصرار على بقاء هذه الحكومة في مواجهة ثورة شعبية شاملة تطالب باستقالتها هو الذي سيقود إلى ما هو أخطر من الفراغ والفوضى. فالقاسم المشترك بين ما يقال في الشارع وفي الكواليس هو فقدان ثقة الشعب بالسلطة و"الثقة هي محرك الازدهار، ومن دونها ينهار البناء الاجتماعي وتزداد المخاطر"، كما يقول فرنسيس فوكوياما. فكيف يقال للشعب إن الخيار الوحيد أمامه هو السعي إلى نيل مطالبه من سلطة لا يثق بها؟ وأي استهانة بالشعب أكثر من الادعاء أن موظفاً في سفارة يحرك مليوني لبناني للنزول إلى الشارع والبقاء فيه لأسابيع ليلاً ونهاراً؟ لبنان ليس متروكاً لقدره عندما يمسك شعبه بمصيره.
والمفارقة أن العواصم الكبرى المتهمة بالتآمر تلتقي مع السيد نصرالله على دعم الحكومة. وحين تقول الأمم المتحدة بلسان ستيڤان دي جاريك الناطق باسم الأمين العام، إنها تراقب الوضع اللبناني، و"إن من القضايا المهمة تفكيك سلاح الميليشيات"، فإن السيد نصرالله يختار "تفكيك الثورة الشعبية". لكن من الوهم استمرار هذا الوضع من دون تغيير مقبول. فمن السهل التفاهم على حكومة إنقاذ إذا كان المطلوب إنقاذ لبنان من الانهيار، لا التضحية به للحفاظ على الكراسي. ومن الصعب القضاء على انتفاضة شعبية وفرصة مفتوحة للبنانيين مهما يكن الهجوم المعاكس قوياً والأخطار شديدة.