Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

سيروان باران يرسم سيرة الحروب العراقيّة في مأزقها التاريخي

احتجاج فني على الحدث... لإظهار جمالية قبحه

الرسام العراقي سيروان باران (يوتيوب))

كثيرة هي التأثيرات التي أحدثتها الحروب في حركة الفنّ العالمي، لدينا أكثر من أمثولة في التاريخ عن تداعيات هذا السحق لجموع البشر وما خلفه من طرق وأدوات للتعبير. نستعيد هنا "اليد المقطوعة" للرسام الألماني إرنست لودويغ كيرشنر (1880- 1938)، إذ أوحى في بورتريه شخصي رسمه لنفسه أنّ الحرب أعاقت إبداعه وأوقفته. ثمّة تجارب أخرى لمن كانت حياته مختبراً لبيان تلك الفظاعة، حينما قاتل فنّانون وكتّاب روس ضد أقران لهم من الألمان، فلاديمير ماياكوفسكي (1893- 1930) على الجانب الروسي، وأوغوست ماكي (1887- 1914) على الجانب الألماني (قُتل في الحرب العالمية الأولى).

عراقيّاً نملك اليوم سيرة بصفحات طوال عن قصص الحروب الداخليّة والخارجيّة، لعلّه منذ سبعينيات القرن الماضي، وحتّى آخر حرب مريرة خاضها البلد ضدّ داعش. ولأنّ عدداً من الفنّانين العراقيّين راح يقدّم أعمالاً أتت في سياق ردود الأفعال على ما حصل بنحو مواكب لغضب الناس وسخطهم، جريمة سبايكر أحد الموضوعات، لذا وتحت هول ما عنته هذه الأحداث من وحشية، جاء العديد من اللوحات والأعمال الفنيّة، مندرجة في إطار توثيق ما تتركه الحروب من انكسارات في الذات.

لكنّ الذي قدّمه الفنّان سيروان باران في تجربته الاخيرة وعرض في  بينالي "فينسيا" بدورته الـ 58، كان مختلفاً؛ لجهة الاشتغال العميق في "آخر الجنرالات" و"الوجبة الأخيرة" على إبراز المأزق التاريخيّ الذي وقع فيه أبطال العملين المُقدمين مؤخّراً، والتي أفضت إلى نهايتهم، وللتسامي أيضاً على فكرة المماحكة الآنية للحدث والاحتجاج عليه باسم الفنّ والجمال لإظهار قبحه.

سيروان أراد أن يختصر عقود الحروب العراقيّة عبر سطح كلّ عمل، في مفارقة أنّ هذا الفنّان المولود ببغداد 1968، دان سلسلة حروب بعمره تقريباً، عايشها جنديّاً ورسّاماً في مراحل سابقة من حياته، ملخّصاً مأساة البلد بأكمله، في كلّ من النحت الذي اشتغل عليه لعشرين يوماً والرسم بما استغرقه من شهر واحد.

 

في عمله الأوّل نحن أمام جنرال يحاول الهرب على متن قارب، لكنّ الغرق يبقى حليفه في النهاية، إلا النياشين والأوسمة هي التي تظلّ شامخة على جسده، في استحضار أبعد من أن يكون تجريبيّاً، يضمر رفضه لكلّ السلطات والحكومات سواء التي صنعت الحروب أو التي علقت ما تريد على صدور رجالاتها، فهم ضحاياها في النهاية.

و"آخر الجنرالات" عمل نحتي بحدود (270 - 80 سم)، مادّته من (الفايبر كلاس)، استعاد فيه شعيرة جنائزية تخصّ السومريّين، وهي أنّ الميت يوضع في مشحوف (قارب صغير يستخدم في أهوار وأنهار جنوب العراق)، وبحسب هذا الإرث فإنّ الملك السومري تُترك معه أهمّ موجوداته وخصوصاً الثمين منها. ومع هذا الجنرال فإنّ نياشينه هي أهمّ ما عنده ساعة الحرب وقُبيل الفتك به، جعلها الفنّان شاخصة على صدر جثّة نصف متحلّلة، وهي بقيافة متخيّلة لم يمسسها التفسّخ الذي طال الجسد، في تسوية فنيّة تجعل هذا القائد ضحية أيضاً، مثله مثل جنوده.

أما مشهد لوحة الجنود بقياس 4- 5 م، فسخّره باران وكأنّه بعين طائر في السماء بوصفه شاهداً على هؤلاء الضحايا وهذه الحروب بعمر 45 عاماً، ومهم هنا أن ننتبه إلى الكثافة اللونيّة للأخضر وهو ولون ملابس العسكر الذي لا يزاحمه إلا اللون البني للأرض التي ستبتلعهم.

رسم هذا العمل لم يكتمل إلا بعد زيارة للفنّان إلى بغداد، التقى فيها بعائلات جنود لا على التعيين، حيث حصل منهم على ملابس أبنائهم وأنواط الشجاعة التي نالوها، وهي التي وظّف أغلبها كقطع أصليّة داخل فضاء "الوجبة الأخيرة". أما الصحون فوضعها بتركيبتها الحقيقية ليبدو مشهدها صادماً بواقعيته وجاذباً لعين الملتقي، حينما جعل سطح اللوحة مجالاً يفرض فيه أسلوبه الخاص بالتوفيق بين مضمون فكرته عن الإدانة، وهي تتضح من هيئات أجساد تبدو وكأنّها تحتضن بعضها البعض، وبين تقنيات التوظيف لملابس الجنود في مقابل الصحون التي هي منالهم الأخير قبل الفناء، وحتّى إزاء ما يجاور العمل عبر نماذج من مراسلاتهم لعائلاتهم وحبيباتهم.

وبتأويل عنوان "الوجبة الأخيرة" وتأمل مضمونه، نلمس مقاربة بائنة مع لوحة "العشاء الأخير" وما احتوته من حركة ودهشة على الوجوه؛ بهدف الإفصاح عما في الحروب العراقيّة من محمولات دينيّة وعقائديّة، وبالأخصّ في العنف والاحتراب الأهلي 2006 أو في المواجهة مع داعش 2014.

أما دافع باران من هذه المشاركة، وبهذا الإنتاج الذي لا تنتهي وظيفته مع انتهاء البينالي في تشرين الثاني المقبل، فبرّره بالتالي: "تستمرّ الحرب في العراق منذ سبعٍ وأربعين سنة، وأنا الآن في الحادية والخمسين من عمري. أريد أن يفهم الزوار ما معنى أن تحيا حياتك كاملة في صراع".

منه فإنّ الخطاب الذي يؤشّره العملين، يستوجب أن يعرضا في بغداد، وليس في فينسيا فقط، وأن يكونا نواةً لمتحف الخراب الذي عشناه، علّنا نتوّج مستقبلنا بما هو مختلف، فمثل هاتين التجربتين ليس ميدانهما غرف مقتني الأعمال الفنيّة أو الصالات والغاليريات المعتادة.  

المزيد من ثقافة