Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

ساحدثكم عن ماريا جيوبرت تلك التي اكتشفت "صدفات" الذرة

غاصت في قلب نواة الذرة وخرجت بنظرية الـ"الانفجار... الصغير"!

ماريا جيوبرت- ماير ثاني امرأة تنال "نوبل" الفيزياء وأول من نالتها عن الفيزياء النظرية (هاكيداي.كوم)

في هذه الأيام، تنشغل شاشات السينما بفيلم هوليوودي عنوانه "مُشِعٌّ" يروي حكاية عالمة الذرّة الشهيرة ماري كوري (1867- 1934) التي كانت أول امرأة تفوز بجائزة نوبل للعلوم، والوحيدة حتى الآن التي نالت تلك الجائزة عن علمين مختلفين هما الفيزياء (1903) والكيمياء (1911). وبرعتْ كوري في مجال الذرة، إذ اكتشفت الخصائص المميزة للمواد المشعة مثل البولونيوم واليورانيوم، التي نشير إليها أيضاً باسم المواد الذريّة. غني عن الذكر بأن ذلك الأمر فتح آفاق جديدة أمام العلوم الحديثة، خصوصاً علوم الذرّة وقواها (بما في ذلك قنابلها)، بل أن التطوّر فيه عمّق معرفة العلم بالكون وبداياته وصولاً إلى نظرية الـ"بيغ- بانغ" الشهيرة.

ثمة خيوط عميقة تربط كوري مع عالِمة فيزياء اخرى هي ماريا جيوبرت- ماير (1906- 1972). إذ تتحدر المرأتان من بولندا التي كانت جزءاً من الإمبراطورية الروسية إبّان ولادة كوري، وسمّت أول مادة مشعة اكتشفتها "بولونيوم" تكريماً لمسقط رأسها. في المقابل، لكنها كانت بولندا تعتبر قسماً من ألمانيا عند ولادة جيوبرت في بلدة "كاتوفيتز" بعد ثلاث سنوات من نيل كوري جائزة نوبل. وحملت كلاهما جنسية اخرى في حياتها، فكانت كوري فرنسية عند مماتها وحملت جيوبرت جنسية الولايات المتحدة التي تألقت فيها.

في سيرة جيوبرت التي سأفصلها في المقال، أنّ والدها عمل أستاذاً أكاديمياً لطب الأطفال في جامعة "غوتينجن"، ومارست أمها تدريس الموسيقى خلال شطر طويل من حياتها، بل اشتهرت بحفلات أحيتها في الجامعة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

بداية المسار العلمي

 

بفضل دعم والديها، درست جيوبرت الرياضيات والعلوم تمهيداً لالتحاقها بالجامعة. وآنذاك، لم تتوفر مدارس حكومية للبنات تقدم لهن ذلك النوع من التعليم، لذا تسجّلت جيوبرت في مدرسة خاصة. وسرعان ما أقفلت تلك المدرسة أبوابها في سياق الاضطراب الذي صاحب الحرب العالمية الأولى والسنوات الصعبة التي أعقبتها. ولذا، لم تصل جيوبرت إلى نهاية الدراسة ما قبل الجامعية، بل فصلتها سنة عن ذلك. ولم يحل ذلك دون اجتيازها امتحان الدخول إلى الجامعة في 1924. وآنذاك، لم يكن في الجامعة سوى أستاذة واحدة تعمل من دون أجر، وشكل ذلك وضعية قابلتها جيوبرت مراراً في مسارها الأكاديمي.

استهلت جيوبرت دراستها الجامعة في قسم الرياضيات، لكنها الجو المفعم بالحيوية الذي رافق صعود الرياضيات الكموميّة Quantum Mathematics (= نوع غير تقليدي من الرياضيات والفيزياء والكيمياء وغيرها)، والإثارة التي حركتها الأفكار الجديدة التي نادى بها العالمين الدانماركي نيلز بور والألماني ماكس بورن، دفعت بجيوبرت إلى الانتقال إلى دراسة الفيزياء. ولم تمنعها وفاة والدها من نيل شهادة الدكتوراه في 1930.

زواج وهجرة

 

عملت والدة جيوبرت في استضافة الطلبة الجامعيين، كي تتمكن من الاحتفاظ بالمنزل الذي كانت تقطنه العائلة، وقد ناله الأب الراحل بوصفه أستاذاً جامعياً. وفي تلك الأجواء، حدث تقارب بين ماريا وجوزيف إي. ماير، وهو طالب جامعي أميركي. وتزوجا في 1930، وبات لقب جيوبرت- ماير إسمها العائلي. ثم هاجرت إلى الولايات المتحدة.

وسرعان ما عُيّن جوزيف في وظيفة بجامعة "جونز هوبكنز"، بالتيمور، في ولاية "ماريلاند". وبسبب قوانين أبوية تحابي الأقارب، لم تستطع جوبرت- ماير شغل وظيفة بمرتب، فاستعاضت عن ذلك بشغل وظيفة أستاذة مساعدة متطوعة. إذ أمن لها ذلك المنصب القدرة على الانخراط في البحوث، والحصول على نزر يسير من المال، والتمتع بمكتب صغير. ثم نسجت علاقة صداقة مع إدوارد تيللر الذي ستعمل معه لاحقاً. وفي العطلات الصيفية، اعتادت على العودة إلى جامعة "غوتينجن" كي تتعاون في أعمال علمية مع ماكس بورن، مشرفها السابق.

مع تصاعد أجواء الاستعداد للحرب في ألمانيا، ترك بورن تلك البلاد. وصارت جيوبرت- ماير مواطنة أميركية في 1932. أنجبت ماريا طفلين من جوزيف هما ماريان وبيتر. لاحقاً، صارت ماريان رائدة فضاء وبيتر أستاذاً جامعياً مساعداً.

في تطوّر تالٍ، حصل جوزيف ماير على وظيفة في جامعة كولومبيا. وهناك، ألّفت ماريا مع زوجها كتاباً عن الميكانيكا الإحصائية. وعلى غرار ما حدث في جامعة "جونز هوبكنز"، لم تتمكن جيوبرت- ماير من الحصول على وظيفة مدفوعة الأجر، لكنها عملت بصفة غير رسمية، وألقَتْ بعض المحاضرات. ثم التقت عالم الفيزياء الذرية الشهير أنريكو فيرمي (الذي سيشتهر بوصفه قائد الفريق العلمي الذي صنع القنبلة الذريّة الأولى). وسرعان ما صارت جزءاً من فريق فيرمي البحثي، لكن من دون راتب أيضاً.

التعليم والبحوث  

 

في 1941، صارت الولايات المتحدة طرفاً في الحرب العالمية الثانية. وتولت جيوبرت- ماير وظيفة في التعليم مدفوعة الأجر، لكنها كانت وظيفة بدوام جزئي، في "كلية سارة لورانس". وكذلك شرعت في شغل وظيفة بدوام جزئي في "جامعة كولومبيا"، ضمن فريق يعمل في مشروع علمي أحيط بسرية فائقة وسُمّي "مشروع المواد اللدنة البديلة". اشتغل المشروع على فصل مادة الـ"يورانيوم 235" التي تمثّل الوقود الذري للأسلحة النووية. وذهبت جيوبرت- ماير مرّات عدّة إلى "مختبر لوس آلاموس" السري للغاية آنذاك، الذي ذاع صيته لاحقاً باعتباره المصنع للقنبلة الذرية الأولى. وفي ذلك المختبر، عملت جيوبرت- ماير مع نيلز بور وإدوارد تيللر وأنريكو فيرمي.

وعقب انتهاء الحرب العالمية الثانية، مُنِحَ جوزيف ماير منصب الأستاذية في "جامعة شيكاغو" التي استضافت عدداً من الأساتذة الكبار في الفيزياء النووية. ومرّة اخرى، قضت قوانين أبوية تحابي الأقارب بأن تشغل جيوبرت- ماير منصب أستاذة أكاديمية مساعدة.... من دون أجر! في المقابل، مكنها ذلك المنصب من العمل مع إنريكو فيرمي وإدوارد تيللر وهارولد أوري الذين عملوا أيضاً في "جامعة شيكاغو".

آرغون والاكتشافات

 

خلال شهور قليلة، مُنِحَتْ جيوبرت- ماير منصباً في "مختبر آرغون الوطني" الذي تُديره "جامعة شيكاغو". لم تكن سوى وظيفة بدوام جزئي لكنها مدفوعة الأجر، إضافة لكونها وازنة تماماً، إذ أُعطيَتْ منصب باحث متقدم.

في آرغون، اشتغلتْ جيوبرت- ماير مع إدوارد تيللر على تطوير نظرية "الانفجار الكبير" (في قياس على اسم نظرية "الانفجار الكبير" أو الـ"بيغ- بانغ" الشهيرة)، بشأن مسألة الأصول الكونية للأشياء. في سياق ذلك العمل، شرعتْ في الاشتغال على سؤال عن سبب ثبات المواد التي تحتوي أنوية ذراتها على نيوترونات أو بروتونات بأعداد تتوالىل بنسق 02، 08، 20، 28، 50، 82 و126  . ثمة توضيح واجب. من المعروف أن نواة الذرة (التي تدور حولها إلكترونات ذات شحنة كهربائية سالبة) تحتوي تقليدياً على أعداد متساوية من أجسام ثقيلة نسبياً هي النيوترونات التي لا شحنة كهربائية ظاهرة لها، والبروتونات ذات الشحنة الكهربائية الموجبة. ويفترض حدوث تتناسب بين تلك المكوّنات، وكذلك الحال بالنسبة للقوى التي تربطها بعضها بعضاً أو تكون "كامنة" في دواخلها. وفي حال اضطراب التوازن، خصوصاً في نواة الذرة، تصبح الذرّة مضطربة، فتقذف إلى الخارج بطاقة على هيئة اشعاعات مختلفة (وتوصف بأنها مواد مشعة)، وكذلك تكون قابلة لتفكك والانشطار، مع خروج الطاقة الضخمة الكامنة فيها، على غرار ما يحدث في الانفجارات الذرية والنووية مثلاً.

ولاحظت جيوبرت أيضاً أن النموذج المتفق عليه علمياً عن تركيبة الذرة (وقد كان نيلز بور من واضعي أسسه النظرية)، يلاحظ أن الإلكترونات تدور حول النواة في مدارات ثابتة أو شبه ثابتة، فتصير شبيهة بـ"أصداف" تطوّق النواة. واستناداً إلى اشتغالاها على معادلات في الرياضيات، برهنت جيوبرت- ماير على أن المكوّنات الموجودة في نواة الذرة تدور حول نفسها، ويكون لكل منها محور يدور حوله، وكذلك فإنها تدور داخل النواة متّخذة مدارات لها أشكال قابلة للتوقع فتوصف بأنها كالأصداف. واستطراداً، عندما تكون أعداد تلك المكوّنات في دواخل النواة في النسق العددي المذكور آنفاً (02، 08، 20، 28، 50، 82 و126)، تغدو "صدفاتها" ممتلئة، فتصبح الذرّة ثابتة. واستطراداً، تكون الذرّة أقل ثباتاً عندما تكون "صدفاتها" نصف مملؤة مثلاً.

وفي وقت شبه متزامن، اكتشف الباحث الألماني ج.ه.د. جانسن التركيب "الصدفي" نفسه الذي وصفته جيوبرت- ماير. وزارها في مقر عملها في "جامعة شيكاغو". وخلال أربع سنوات، ألف العالمان كتاباً ضمّناه استنتاجاتهما العلمية، وسمّياه "نظرية أولية عن التركيب الصدفي لنواة الذرة" (1955).

في "سان دييغو"

 

في 1959، منحت "جامعة سان دييغو" منصبين براتب كامل لجوزيف ماير وماريا جيوبرت- ماير. ومع قبولهما به، انتقل الزوجان إلى ولاية كاليفورنيا. وبعد ذلك بفترة وجيزة، عانت جيوبرت- ماير سكتة دماغية جعلتها غير قادرة على التحكم بسوى ذراع واحدة. وفي سنوات تالية، عانت مشاكل صحية عدة، خصوصاً في عمل القلب.

التكريمات

 

في 1956، انتُخِبَتْ ماريا جيوبرت- ماير عضواً في "الأكاديمية الوطنية (الأميركية) للعلوم". وفي 1963، كوفئت جيوبرت- ماير مع جانسن بجائزة نوبل للفيزياء، عن عملهما على النموذج الصدفي لتركيبة النواة في الذرة. وشاركهما تلك الجائزة العالِم يوجين بول وينغر عن أعماله في الميكانيكا الكمومية. وبذا، كانت ماريا جيوبرت- ماير ثاني امرأة تنال جائزة نوبل للفيزياء (بعد ماري كوري)، والأولى في إحراز تلك الجائزة عن عمل في الفيزياء النظرية.

اقرأ المزيد

المزيد من آراء