Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

 سهير المصادفة تروي وقائع غرائبية في سياق مصري واقعي

"عدم الثبات الانفعالي" روايتها الجديدة تقارب جو علم النفس

الكاتبة المصرية سهير المصادفة (يوتيوب)

لأن عنوان رواية الكاتبة المصرية سهير المصادفة "عدم الثبات الانفعالي" (2019) ينادي الفرويدية، فقد يعجل المرء إلى وسم الرواية بالعلم - نفسي. والثبات الانفعالي الذي ينسب إلى الفرويدية يتأتى من النضج الانفعالي، وهو يعني المقدرة على ضبط الانفعالات، على العكس من الاضطراب الانفعالي والقلقلة العاطفية اللذين يعنيهما عدم الثبات الانفعالي. ومن المعلوم أن امتحان الثبات الانفعالي ينتظر من يتقدم في مصر إلى كلية الشرطة أو قيادة القطار وسواهما من المهن القيادية.

غير أن رواية سهير المصادفة تكتفي من كل ذلك بغلالة شفيفة من العلم - نفسي، لتخفق في فضاء آخر ذي علامتين فارقتين هما: البوليسية، والفانتاستيك. وفي العلامة الأخيرة يغلب جناحا الخارق والغرائبي على جناحها الثالث: العجائبي.

تبدأ الرواية في مطعم لازانيا وقد خلا إلا من راوية ورأس مقطوع. وتضيئ هذه البداية الملغزة والمشوقة شطراً من الفضاء الروائي الرحب، يتعلق بالمطعم: صاحبته مدام فيرونا العجوز، وعم إبراهيم الطباخ الذي يسأل راوية: "ماذا يحدث في هذه الليلة الغريبة، والمطعم هو مسرح لازانيا الذي تغني فيه راوية متنكرة باسمها الفني: شمس، ومعها: سوسن فرج ورفعت جلال وهشام الملا و... الذين ظهروا بعد ثلاثة عشر عاماً من لقائهم الأول والأخير – وراوية معهم- في "دورة ثبات انفعالي". وتدع الرواية سؤال الرأس المقطوع معلقاً، وتعود في الفصل الثاني إلى تلك الدورة التي شاركت فيها رواية في صيف 2005 واستغرقت ألف دقيقة ودقيقة، كأنما زمنها ينادي زمن "ألف ليلة وليلة" بما يصخب فيه من ثلاثية الفانتاستيك: العجائبي والغرائبي والخارق.

تروي راوية / شمس أن دورة الثبات كانت في دغل مهجور على جزيرة الرواق، حيث نزلت تعاليم الكراس ممن أعدوا الدورة، على نحوٍ يذكَّر بالماسونية. فجماعة الكراس تخاطب جماعة الدورة: "نعدّكم لقيادة العالم"، وتحدد أهدافها بتخليص العالم من الظلم والديكتاتورية والفقر والاستبداد، وبنشر الديمقراطية، وإعلاء سقف حرية الفرد دون حدود، واختيار وإعداد من سيقود العالم الذي غدا قرية صغيرة. من زمرة البشر، إذ سيصيرون الصفوة المختارة، لذلك عليهم الطاعة المطلقة، ولن يستطيع أحد إيذاءهم ولا اتهامهم بشيء، إذ سيكون أهل الكراس العين الساهرة لحماية أهل الدورة دون أن يشعروا بوجود تلك العين. ويحكم الكراس على الإنسان بأنه أحط مخلوقات الكرة الأرضية. ومن دروس الدورة أن عليك لكي تنجو بنفسك أن تتحرك حين يتوقع الجميع منك الثبات، وأن تقطع أنفاسك وتتحجر حين ينتظر خصمك منك أية حركة. ولعل ذروة دورة الثبات الانفعالي هي في القول: "نحن ملوك هذا الوجود، ولا يهم إذا كانت لدينا شهوات جشعة أو رغبات دنيئة. المهم هو السيطرة عليها حين يستلزم الأمر".

يقدم فصل "لازانيا" قصة صاحب المطعم، وتخّفي راوية ثلاث عشرة سنة عن حيّها (حي ماسبيرو) تحت اسم شمس. ويقدم الفصل صاحبة الرأس المقطوعة الراقصة صافي ومخدومتها هند وصاحبها الزبون الثري عصمت. وكانت الرواية في فصل سابق قد قدمت شخصية ماسبيرو التي أحبته راوية ثلاث عشرة سنة حباً صامتاً وصبوراً ومستمراً، فلا هي تطارده ولا هو يتزوجها رضوخاً لاعتراض والدته. وإذا كانت الرواية ستفصل في تسمية ماسبيرو، ففي فصل "مثلث ماسبيرو" يقوم الحي العشوائي الذي سينافس العاشقين راوية وماسبيرو على بطولة الرواية. ومنذ هذا الفصل سيغدو السؤال عمن قطع رأس صافي إيقاعاً بوليسياً للرواية. أما الغرائبية فلها هنا الغربان التي تنهش جسد الرضيع ابن هند.

جو بوليسي

كما تخفت راوية بعد ذبح صافي، اختفى ماسبيرو الذي سبق أن أكد لراوية، حين باحت له بمخاوفها من جماعة الثبات الانفعالي، أن المنظمة ألغيت، أو ربما قبضت الدولة على زعيمها. وسر اختفاء ماسبيرو هو الشك في أنه من ذبح صافي. ومن أجل إنقاذه مضت راوية / شمس إلى الجزيرة التي شهدت نشوء الجماعة في حقل زهرة ندى الشمس المتوحشة. وكانت راوية قد أنشأت على الفيسبوك مجموعة مغلقة باسم جماعة الثبات الانفعالي الذين غدوا جميعاً شخصيات شهيرة، ما عداها هي وماسبيرو. وفي هذا الموقع من الرواية تجعل البوليسية أعضاء الجماعة الآخرين يختفون يوماً لعملية مطعم لازانيا، ويوماً في النيابة، خرجوا بعده سالمين.

لو لم يكن في رواية "يوم الثبات الانفعالي" إلا شخصية ماسبيرو، لكفاها إبداعاً مميزاً، وهو من تنقل بين مهن هي بالأحرى أدوار حياته، فعرف بأنه ملك الفسيخ، ملك الفيديو، بائع النكت، صاحب الحمام.... وبالإضافة إليه تدفقت الرواية بشخصيات بالغة التميز والأهمية، وإن يكن نصيبها من الرواية محدود، مثل والد ماسبيرو، ووالدته، والشيخ صلاح الذي كان بمثابة أبٍ لماسبيرو، ومحمد ابن مدام فيرونا الذي يظهر أخيراً ليزيد الغموض غموضاً، إذ يعلن أنه لم يكن ثمة مطعم لازانيا، لأنه غير مرخَّص. وإذ يسلّم راوية حقيبتي الملابس اللتين تركتهما لها والدته، تقول له إن قاتل صافي ينتظرها في الخارج، فيقول محمد إنه يعرف، والبوليس يعرف، وقد كان يتبعك ليصل إليه.

إلى حي ماسبيرو ينتمي أعضاء جماعة الثبات الانفعالي الذين غادروه. وربما كانت لهم علاقة باختفاء هذا الحي العشوائي. وقد كانت إزالته القضية المحورية للرواية. وهذه راوية ترى في مثلث ماسبيرو الفقير العشوائي – مقابل المباني الأسطورية الفارهة - طبقتين بينهما ما بين الزيت والماء. أما ماسبيرو الذي يدرك أنّـ (هم) يريدون ترحيل سكان الحي كأنما هم على سطح قطار، ينتظر سكانه محطة الوصول لينزلوا. لكن ماسبيرو يصرّ على أن على من يزيلون الحي أن يدفعوا له ثمن ذكرياته. وقد كان ماسبيرو آخر بيوت الحي الصامدة أمام الهدم. ولعل الجماعة أبعدت ماسبيرو عن الحي لينفذوا الهدم. أما راوية التي حازت على شقة في الزمالك، وضعت الجماعة فيها كل ما يلزم، وسعت إلى ألاّ تبلغ راوية الشرطة ما هو غير مناسب عن يوم الثبات الانفعالي الذي نسيه الجميع، إلاّها.

خلال ثلاث عشرة سنةً اكتشفت راوية أن معها في الجماعة ساسة كباراً ورجال أعمال وممثلين وصحافيين وتلامذة و... وسلاماً إذن للماسونية. وقد بلغت سوسن فرج أن الجماعة اختارت رواية لتكون الأولى على الدورة، وبأنهم لا يريدون صناعة قتلة محترفين أو مخربين أو مناضلين لتغيير الواقع. وكانت راوية قد قررت أن تنشئ حساباً باسم ندى الشمس لتتجسس على الجماعة، حتى إذا التقت بسوسن فرج رمت بالسؤال: لماذا قتلتم صافي؟ فجاء الجواب ليعزز الغموض البوليسي، إذ نفت سوسن معرفة الجماعة بصافي، وما أرادت إلا الاجتماع عند رواية في مطعم لازانيا بحضور ماسبيرو، لكنهم فوجئوا بانقطاع الكهرباء دقيقة، ثم رأوا رأس صافي على المنضدة.

في التماعة كبرى ترتسم أخيراً اللعبة الروائية الحاذقة، إذ ربما تكون رواية قد وقعت في فخ ألعاب الذاكرة، لتتذكر حياتها في ألف دقيقة وقيقة / نهار ونصف، هي الزمن الكافي لإزالة مثلث ماسبيرو العشوائي الفقير من الوجود، وكذلك لذبح صافي، والقبض عليها.

شغل الثبات الانفعالي، فيما أفادتني "الجوجلة"، رواية يوسف حسن يوسف (جروبي – 2013)، ورواية محمود حسين (شياطين خرس- 2016). فمن الأولى تبرز شخصية فريدة ممن لديهم القدرة على الثبات الانفعالي، إلى درجة لا يعرف من هو أمامها ما هي حقيقة مشاعرها، إلا أن شاءت أن يعرف. ومن رواية حسين أن شخصية رضوى تسترجع ما تعلمته في الجامعة عن الثبات الانفعالي. ومهما يكن، فإن رواية سهير المصادفة "عدم الثبات الانفعالي"، وكما سبق القول تكتفي بغلالة شفيفة من العلم - نفسي، لتخفق في فضاء البوليسية والفانتاستيك، فتعمقّ الكاتبة بذلك، وتجدد، صنيعها في رواية "لعنة ميت رهينة" (2017) حيث تتكلم نور في المهد، وتحفظ صفحات بنظرة، وتتنبأ بما سيقع. وإلى هذا العجائبي، يأتي الغرائبي في اختفاء من تصيبهم لعنة القرية. كما تعمق الكاتبة وتجدد، في روايتها الجديدة، صنيعها في رواية "لهو الأبالسة" ( 2002)، والتي رماها النائب الإخواني حمدي زهران بتهمة /زوبعة الترويج للإباحية. ففي هذه الرواية كان للعشوائية في حي حوض الجاموس حضورها الآسر الذي جاءت بنظيره، إن لم يكن بما فاقه، رواية "عدم الثبات الانفعالي"، فإذا بالفانتاستيكي جداً واقعي جداً، والعكس صحيح.

المزيد من ثقافة