Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

غياب "الضابط الكل" في "اللانظام" العالمي

صعود روسيا والصين في دور المنافس والخصم لأميركا على قمة العالم

هل كان ترمب هو الذي صنع الهبوط الأميركي بقراراته (أ.ف.ب)

التطورات الدراماتيكية متسارعة في منطقة كانت هادئة منذ هزيمة داعش على يد قوات سوريا الديمقراطية. وليس الغزو التركي لشرق الفرات بحساباته الإستراتيجية المتسرعة وغير الدقيقة سوى صورة متحركة في مشهد متغير.

الصورة لها ثمن يزداد يومياً، ويدفعه في النهاية، لا فقط المعتدى عليه صاحب الأرض بل أيضاً المعتدي ومن أعطاه الضوء الأخضر ومن هدّد بإجراءات بقيت في الهواء. والمشهد الواسع يبدأ من سؤال سوريا إلى أين، والكرد إلى أين، وتركيا إلى أين، ويصل إلى الصراع الجيوسياسي في الشرق الأوسط وعليه ضمن متغيرات النظام الأقليمي والنظام العالمي.

التطور الدراماتيكي الأول هو بالطبع اندفاع الرئيس رجب طيب أردوغان في مغامرة الاجتياح للأرض السورية بحجة محاربة "الإرهاب". وهي الحجة التي كانت "ماركة مسجلة" إسرائيلية عبر إجتياح اسرائيل للأراضي العربية بدعوى إقامة "مناطق آمنة"، ويبدو أن الجميع بات يقلدها.

التطور الثاني كان الضوء الأخضر الأميركي للغزو، بحيث انتقلت إدارة الرئيس دونالد ترمب من سياسة حماية الكرد ومنع الاجتياح إلى سياسة السماح به ضمن مساحة محددة سحبت واشنطن قواتها منها. ثم قرر ترمب، عندما أدرك أن طموحات أردوغان أكبر مما التزمه في الاتصال الهاتفي، سحب كل القوات الأميركية من أمام القوات التركية الغازية.

وهذا قاد إلى التطور الدراماتيكي الثالث بسرعة بالغة عبر اتفاق بين دمشق وقوات سوريا الديمقراطية بواسطة روسية وإيرانية على أن يتولى الجيش السوري الانتشار شرق الفرات وحماية الحدود مع تركيا. وهو بدأ الانتشار سريعاً.

أمّا التطور الدراماتيكي الرابع المفترض، فإنه ينتظر جهود موسكو لترتيب اتفاق بين دمشق وأنقرة يكمل الاتفاق بين دمشق والكرد. ومن المبكر تصوّر ما تنتهي إليه الصورة المتحركة على الأرض. لكن من الصعب تصديق ما يبدو في الظاهر، وهو أن أردوغان يتحدى العرب وأوروبا وروسيا والصين وأميركا ويكمل التوغل في المنطقة على الرغم من الدعوات لوقف العملية العسكرية فوراً.

وقمة السخرية في الحديث عن "ضوابط" للغزو من نوع التهديد بعقوبات ضد تركيا إذا تصرفت بطريقة "غير إنسانية" أو مارست "التطهير العرفي" كما أعلن المسؤولون في واشنطن. فليس هناك "احتلال إنساني". وأقل ما يعبر عن الموقف الحقيقي للقادرين على التأثير هو: اقتلوا المقاتلين ولكن لا تذبحوا الكرد.

كوندوليزا رايس مستشارة الأمن القومي ومن ثم وزيرة الخارجية أيام الرئيس جورج بوش الابن، تحدثت عن "تغيير في معمارية السياسة الدولية قياساً على ما جرى في بداية الحرب الباردة: "الولايات المتحدة قررت استخدام قوتها لتحقيق الهيمنة الليبرالية الجديدة".

وروبرت أوبراين مستشار الأمن القومي الجديد والرابع للرئيس ترمب أصدر عام 2016 كتاباً تحت عنوان "عندما كانت أميركا نائمة" على طريقة تشرشل في كتاب "عندما كانت بريطانيا نائمة". أبسط ما قاله إن الرئيس أوباما أخطأ في فكرة "نهاية الاستثناء الأميركي" و"القيادة من المقعد الخلفي".

ولم يتردد في القول إنه "لا أي رئيس، ولا حتى جيمي كارتر، كان كارثة على الأمن القومي مثل أوباما". لكن أوبراين جاء إلى البيت الأبيض ليخدم رئيساً قرر سحب القوات الأميركية من الحروب "السخيفة والقبلية التي لا تنتهي". وهذا ما لم يصل إليه أوباما. فما يريده ترمب، بحسب مايكل أوهانلون من مؤسسة بروكنغز، "التملص من إستراتيجية الردع الموسع التي مارستها أميركا لحماية حلفائها". وما لم يأخذه في الاعتبار، كما يقول النائب السابق لوزير الخارجية الأميركية نيكولاس بيرنز، هو "انعكاس قراره لإرضاء أردوغان على ما خسرته أميركا من صدقية كحليف موثوق".

لكن جزءاً من الجدل في قلب أميركا يدور حول سؤال مهم: هل كان ترمب هو الذي صنع الهبوط الأميركي بقراراته، أم أن الأوضاع الأميركية هي التي صنعت ترمب؟ والأجوبة متعددة ومتناقضة.

الأكثرية تركز على مسؤولية ترمب عن تدهور سمعة أميركا وهيبتها، وتحن إلى سياسة أوباما. وترى الأقلية أن حروب بوش الابن في أفغانستان والعراق استنزفت أميركا مالياً وعسكرياً، ودفعت "الإستبلشمنت" ورجال الأعمال في "الوول ستريت" إلى المجيء بأوباما لترتيب "الهبوط الناعم" لأميركا.

وبين الآراء اللافتة ما جاء في مقال وقعته ميرا راب – هوبر من مركز أبحاث في جامعة ييل وريبيكا فريدمان ليسنر مساعدة بروفسور في كلية الحرب البحرية الأميركية ونشرته مجلة "فورين أفيرز"، والخلاصة "أن النظام الليبرالي العالمي الذي ساد بقيادة أميركا لن يستعاد بعد رحيل ترمب. فهو شذوذ تاريخي جاء من خلال تركيبة شروط وظروف ملائمة، لا يمكن الحصول عليها ثانية، بما في ذلك وحدة شعبية نسبية في الداخل وغياب أي خصوم جديين في الخارج".

بكلام آخر، فإن ترمب ليس شذوذاً تاريخياً بل ابن ظروف أنهت الشذوذ التاريخي الذي خدم أميركا. فالصورة مختلفة كثيراً اليوم. انقسام شعبي داخلي عميق. صعود روسيا والصين في دور المنافس والخصم لأميركا على قمة العالم. وتنامي قوى أقليمية لديها طموحات إلى أدوار كبيرة، وفي مقدمها إيران وتركيا. ونحن في "اللانظام العالمي" و"اللانظام الإقليمي". ولا قوة تريد أو تستطيع أن تمارس دور "الضابط الكل".

المزيد من آراء