Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الجدل يتجدد حول بيتر هاندكه بعد فوزه بنوبل... اكبر كاتب بالالمانية يتهم ب"الفاشية"

مؤلفاته تتجاوز ال80 كتابا في الرواية والمسرح والنصوص... والعرب يتسابقون على ترجمته

يصعب الحديث بموضوعية وهدوء، هذه الأيام على الأقل، عن بيتر هاندكه. هو في نظر معظم النقاد الألمان أكبر أديب في المنطقة الألمانية، وصاحب الإنجاز الضخم والتنوع الهائل في أساليب السرد في كتبه التي بلغت نحو الثمانين. إنه الكاتب الذي "لم ينصَع أبداً إلى روح العصر"، مثلما قالت وزيرة الثقافة الألمانية غروتز تعقيباً على منحه نوبل، الكاتب الذي لازمته منذ البداية الرغبة في الاستفزاز وكسر التابوهات، وهو صاحب "الابتكارات اللغوية" المدهشة، مثلما تقول لجنة نوبل. وكل هذا صحيح.

لكنه من ناحية أخرى، وهذا ثابت، الكاتب الذي تعاطف مع الصرب ودافع عنهم في حرب البلقان، إنه صديق الطغاة، الكاتب الذي زار الرئيس الصربي ميلوشيفتيش أثناء مثوله أمام محكمة العدل الدولية لاتهامه بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، بل لقد أصر هاندكه على أن يشارك في جنازته وأن يلقي على قبره كلمة تأبينه.

النقاش حول مواقف هاندكه السياسية نقاش قديم، اندلع في المنطقة الألمانية في تسعينيات القرن العشرين، ويتجدد الآن ثانية بعد منحه جائزة نوبل. وكأن العالم فوجئ بتلك المواقف، على الرغم من مرور عشرين عاماً عليها! تفجر الجدل في العالم كله حول أحقية هاندكه في الحصول على نوبل، هذا مفهوم، وهو ما قاد إلى ردود فعل عنيفة، وأحياناً مبالغ في تطرفها، فنظر البعض إلى هاندكه على أنه "فاشي"، وأنه "أنكر" مذبحة سربرينتسا التي راح ضحيتها ثمانية آلاف مسلم بوسني، و"مَجّدَ" مجرمي الإبادة الجماعية و"أيّد" المذابح العرقية. هذه المواقف مفهومة أيضاً إلى حد ما، نظراً إلى القضية الأساسية التي يثيرها هاندكه بمواقفه السياسية في حرب البلقان: هل يمكن فصل الأدب عن مواقف الأديب السياسية؟ ماذا لو ساند ديكتاتوراً أو مجرم حرب؟ هل يستحق عندئذ أرفع الأوسمة الأدبية "لابتكاراته اللغوية" مثلما تقول لجنة نوبل؟ وأعتقد أن نقاشاً شبيهاً سيندلع لو نال أدونيس جائزة نوبل. ألن تنقسم الآراء على الفور بين الترحيب الشديد لاستحقاقه، وبين الاستهجان والاستنكار والرفض نظراً لمواقفه الملتبسة في الحرب السورية، التي يعتبرها كثيرون مؤيدة لنظام بشار الأسد؟

نعود إلى هاندكه: ماذا قال وماذا كتب ليستحق هذا الهجوم العالمي ضده؟ وما إنجازه الأدبي الذي جعل لجنة نوبل تكرمه، على الرغم من كل شيء؟

الكاتب المستفز

منذ بداياته الأدبية وبيتر هاندكه (6/12/1942) كاتب جريء ومستفز ومثير للجدل. بدأت شهرته بواقعة أضحت أسطورة في عالم الأدب الألماني. كان الكاتب النمساوي في الثالثة والعشرين من عمره عندما تجرأ وحضر في عام 1966 اجتماعا لـ "جماعة 47" الأدبية المشهورة. أطل هاندكه على أعضاء الجماعة الألمانية بهيئة فوضوية وشعر طويل وصل إلى الكتفين، ثم هاجم الحاضرين واتهمهم بـ "العنة اللغوية" و"العجز عن الوصف". وفي العام نفسه رسّخ سمعته كاتباً شاباً مستفزاً عندما مُثلت مسرحيته "سب الجمهور" على خشبة مسرح فرانكفورت، وفيها قلب هاندكه اللعبة المسرحية، فغدا الجمهور محور المسرحية، بدلاً من أن يكون متفرجاً سلبياً على ما يحدث. لاقت أعمال هاندكه المتمردة في السنوات اللاحقة نجاحاً كبيراً وسط أجواء الحركة الطالبية المتمردة على المجتمع وسلطة الآباء وسطوة العادات والتقاليد، وأضحى أيقونه أدبية لدى جيل 68. وخلافاً لمعظم أدباء "جماعة 47" الأسطورية – مثل هاينريش بُل وغونتر غراس وأوفه يونسون - ظل هاندكه، حتى سنوات التسعينيات، أديباً غير سياسي إلى حد كبير، وهو ما يعكسه العنوان الساخر لأحد أعماله: "أنا ساكن البرج العاجي".

وفي عام 1973 حصل هاندكه على أرفع الجوائز الأدبية في المنطقة الألمانية، وهي جائزة بوشنر، وكان أصغر من ينال هذا الوسام المرموق قبل أن يبلغ الثلاثين.

في سنوات السبعينيات كتب هاندكه بعض أشهر أعماله التي ترجمت أيضاً إلى العربية، مثل: "خوف حارس المرمى عند ضربة الجزاء" (ترجمها أحمد فاروق وصدرت لدى دار الجمل في 2001، وقد أصدرت الدار نفسها مؤخراً ترجمة جديدة عن الفرنسية بتوقيع صالح الأشمر)، و"رسالة قصيرة للوداع الطويل" (ترجمة نيفين فائق، دار الجمل)، كما صدرت له رواية في ترجمتين بعنوانين مختلفين، الترجمة الأولى عن الفرنسية قام بها بسام حجار، وأعطاها عنوان "الشقاء العادي" (دار الفارابي، 1991)، والثانية أنجزتها عن الألمانية مباشرة هبة شريف بعنوان "محنة"، وراجعها وقدمها الدكتور عبد الغفار مكاوي (سلسلة "آفاق الترجمة، القاهرة، 2000). كما ترجم د. مصطفى ماهر مسرحية "كاسبر" (الهيئة المصرية العامة للكتاب) وترجمت ماري طوق (عن الفرنسية) رواية "المرأة العسراء" (دار الآداب). وصدرت في العام الماضي رواية "الحادث الكبير" بترجمة محمد جديد عن دار كنعان، وستصدر قريباً عن داري "سرد" وممدوح عنوان روايته "دون جوان"، بترجمة كاتب هذه السطور.

في مقدمته الضافية لترجمة "محنة" يبرز د. مكاوي سمة مهمة في كتابات هاندكه، وهي سمة "التعمق في الباطن"، كما يشير إلى اهتمامه البالغ بالعلاقة بين اللغة والواقع، والبحث عن لغة ملائمة لوصف الواقع الظاهر والباطن، وقد تجلى هذا البحث في عنوان أحد أعماله وهو "العالم الباطني للعالم الظاهري للعالم الباطني". ويشير مكاوي إلى تأثير كتابات فلاسفة الوجود في هاندكه، وبخاصة مارتن هايديغر، وكذلك تأثير مواطنه الفيلسوف المنطقي والتحليلي لودفيغ فيتغنشتاين. ولعل الروايتين القصيرتين "خوف حارس المرمى عند ضربة الجزاء و"رسالة قصيرة للوداع الطويل" تبيّنان هذه النزعة الداخلية عند هاندكه الذي استطاع "من خلال الموضوعية أو الشيئية المتناهية في الدقة" أن يكون موغلاً "في الذاتية الصادقة المؤثرة إلى أبعد حد". ويقارن د. مكاوي هذه النزعة الباطنية عند هاندكه، والتأمل أثناء الكتابة في فعل الكتابة نفسه، بأعمال بعض الكتاب المصريين مثل المازني ويحيى حقي وإدوار الخراط وبدر الديب.

من "البرج العاجي" إلى "رحلة شتوية"

في تسعينيات القرن الماضي هجر هاندكه "برجه العاجي" وألقى بنفسه في خضم بحر السياسة، معارضاً تدخل الناتو في حرب البلقان، ومسانداً الصرب. وفي عام 1994 أصدر هاندكه كتاباً بعنوان: "العام الذي قضيته في خليج اللاأحد"، وفيه هاجم الناتو مجدداً، معتبراً الصرب "ضحايا حرب البلقان" الحقيقيين، ثم سافر إلى بلغراد حيث قُلِد وساماً قومياً زاد من حيرة قرائه. ومن الضروري هنا أن نشير إلى أن موقفه مرّ بمراحل عدة:

في البداية كان ينتقد التغطية الإعلامية للحرب و"الرأي العام العالمي" الذي تكوّن حولها، والذي يقسم طرفي الحرب إلى فريقين: الصرب (الأشرار) والبوسنيين (الضحايا). كان هاندكه يرى أن هناك رأياً عاماً ساد بخصوص حرب البلقان، وهذا الرأي لا يقبل الخروج عنه. هذه الانتقادات انقلبت إلى عناد من جهة هاندكه، عناد أدى به إلى غلق عينيه أمام حقائق ناصعة، والتشكك الذي يرقى إلى مرحلة الإنكار في حدوث مذبحة سربرينتسا بحق المسلمين البوسنة. لقد تمترس هاندكه خلف رأيه، ورفض أن يرى أي "حقيقة" أخرى.

لم يتراجع هاندكه أبداً عن مواقفه، وظل متمسكاً بها بعناد طفولي، بل وازداد مع الأيام عناداً، ثم قام برحلته الشتوية إلى صربيا عام 1996 حتى "يرى ويسمع" ويبحث عن "الحقيقة"، وكتب كتابه المعروف "رحلة شتوية إلى أنهار الدانوب والسافه والمورافا والدرينا – أو: العدالة من أجل صربيا". خلال تلك الرحلة قابل زعيم البوسنيين الصرب رادوفان كاراديتش، الذي حوكم لاحقاً لارتكابه جرائم حرب. توهمّ هاندكه أنه يقوم بمهمة إنسانية، فقدم لكاراديتش – بسذاجة يُحسد عليها – قائمة بأسماء بوسنيين مختفين، حصل عليها هاندكه من أقاربهم في أوروبا، وطلب من الزعيم الصربي الإفراج عنهم، فوعده بذلك. وبالطبع لم يُفرج عن أحد.

عندما مثل الزعيم الصربي سلوبودان ميلوشيفيتش أمام محكمة العدل الدولية في لاهاي، زاره هاندكه في سجنه. وعندما توفي شارك في جنازته، وألقى كلمة التأبين على قبره أمام 20 ألفاً من أنصار الزعيم القومي الصربي.

موقف هانكه كان الأعلى صوتاً، لكنه لم يكن الصوت الوحيد الذي انتقد تدخل حلف الناتو في حرب البلقان، ولم يكن وحده الذي اتهم وسائل الإعلام بعدم الالتزام بتقديم "الحقيقة" كاملة. ويتذكر الرأي العام الألماني حلقة من برنامج "مونيتور" المعروف أذيعت عام 1999، اتهم فيها البرنامج وسائل الإعلام في ألمانيا بتزوير متعمد في التغطية الصحافية بشأن الحرب في كوسوفو. ولقي هذا التقرير هجوماً عنيفاً من جانب وسائل إعلام أخرى بالطبع، اتهمت "مونيتور" باستخدام طرق انتقائية خلال الاستماع إلى الشهود. غير أن البرنامج أصرّ على موقفه، واستند في ذلك إلى أقوال المراقب الألماني لدى منظمة الأمن والتعاون في أوروبا، هينينغ هنش، الذي أكد الوقائع التي وردت في التقرير التلفزيوني. وفي عام 2000 نشرت مجموعة من الصحافيين الألمان في مجلة "كونكريت" سلسلة من التقارير حول الحرب في كوسوفو، وكذلك حول محاكمة ميلوشيفيتش. وأكدت هذه المجموعة ما ورد في برنامج "مونيتور"، ونعني أن عديداً من "الأدلة" التي تستخدمها وسائل الإعلام لإدانة الصرب أدلة مزورة. وبحسب "كونكريت" فإن فحص الأدلة في محاكمة ميلوشيفيتش قد انتهى منذ 2002 من دون الوصول إلى إدانة حاسمة لميلوشيفيتش، وهكذا طالت المحاكمة إلى أن مات الزعيم الصربي في سجنه عام 2006 من دون أن يصدر حكم بإدانته. وفي إطار محاكمة الزعيم الصربي الآخر، رادوفان كاراديتش، أعلنت المحكمة أنها "لم تستطع إثبات صحة الاتهامات المنسوبة إلى ميلوشيفيتش في ما يتعلق بالحرب في البوسنة"، وهو ما اعتبرته بعض وسائل الإعلام – خطأً – تبرئة لاحقة للزعيم الصربي بعد موته. يُذكر أيضاً أن الكاتب هارولد بينتر، حائز نوبل والمحتفى به عربياً لمواقفه الرافضة للغزو الأميركي للعراق، كان قد دعا في مقالات عدة إلى إعادة تقييم دور ميلوشيفيتش على نحو أكثر تدقيقاً.

متاهة حرب البلقان

آراء هاندكه تدخلنا إذن إلى متاهة حرب البلقان، وأعتقد أنه – على الأقل في البداية – كان يبحث فعلاً عن الحقيقة، حتى لو سبح عكس التيار. تمسك هاندكه بمواقفه التي أعمته في بعض الأحيان، ووصل به الأمر إلى التشكيك في صحة صور مذبحة سربرينتسا، معتبراً إياها بروباغندا ضد الصرب. من هنا وجهت إليه الانتقادات بأنه يهوّن من جرائم الصرب، إن لم يكن يدافع عنها. إذا كان هاندكه قد تمترس خلف آرائه، فقد تحصّن نقاده أيضاً خلف انتقاداتهم، ولا يكاد يذكر أحد أنه عدل عن موقفه بعد سنوات، واعتبر مذبحة سربرينتسا "أبشع جريمة ضد الإنسانية" ارتُكبت في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية".

عندما واجهت هاندكه عاصفة من الانتقادات بسبب آرائه ومواقفه السياسية، أعلن انشقاقه عن الكنيسة الكاثوليكية لموقفها المعادي للصرب، وأعاد في عام 1999 جائزة بوشنر – أعلى الأوسمة الأدبية في المنطقة الألمانية - احتجاجاً على موقف الغرب، وألمانيا تحديداً، من الصرب.

عاش هاندكه بعد ذلك بعيداً من الأضواء والإعلام إلى حد بعيد، يصدر بين الحين والآخر كتاباً لا يكاد يلتفت إليه سوى النقاد المقتنعين بموهبته الأدبية الكبيرة. بدا عندئذ أن هاندكه بات شهاباً خبا وهجه وبريقه. ومنذ ذلك الحين لم يعد أحد يتحدث عن هاندكه إلا ويذكر موقفه المثير للجدل من الصرب واقترابه من مجرم الحرب سلوبودان ميلوشيفيتش. وهذا ما حدث في عام 2006 عندما قرّرت لجنة تحكيم "مستقلة" تكريم هاندكه ليكون أول الفائزين بجائزة الشاعر هاينريش هاينه التي تبلغ قيمتها خمسين ألف يورو. بمجرد أن أعلنت لجنة التحكيم قرارها ثارت ثائرة مجلس مدينة دسلدورف، مانحة الجائزة، بسبب موقف الكاتب النمساوي من حرب البلقان، ورفضت منحه الجائزة. شعر هاندكه بالإهانة، وتخلى طواعيةً عن الجائزة ونقودها. الموقف نفسه – تقريباً - تكرّر في عام 2011، بعد أن اختارت لجنة تحكيم "مستقلة" أخرى بيتر هاندكه ليكون أول الفائزين بجائزة "كانديد" (نسبة إلى بطل رواية فولتير) التي تمنحها مدينة "مندن" التي لا تبعد عن دسلدورف كثيراً. غير أن الجهة الممولة للجائزة اعترضت على اختيار هاندكه بسبب موقفه من حرب البلقان، وأعلنت رفضها دفع قيمة الجائزة (15 ألف يورو). غضبت لجنة التحكيم وتشبثت باختيارها، بل واقترحت أن يتولى أعضاء اللجنة دفع قيمة الجائزة من حسابهم الشخصي، وهو ما رفضه هاندكه.

ستظل مواقف هاندكه السياسية إشكالية ومثيرة للجدل، وستظل أعماله جديرة بالقراءة والدراسة. وسيظل السؤال مطروحاً: هل حصول هاندكه على نوبل شجاعة من اللجنة، أو "صفعة على وجه الصوابية السياسية"، مثلما قال الناقد الألماني دنيس شيك؟ أم هي صفعة على وجه ضحايا حرب البلقان؟ صفعة على وجه أبناء وأحفاد من ذبحوا في سربرينتسا؟ وهل كان توقيت منح هذه الجائزة صحيحاً؟

 

المزيد من ثقافة