Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هل يمكن للعالم إحراز تقدم من دون الولايات المتحدة؟

تحديات صعبة ستواجه مختلف الدول للتكيف مع النظام الجديد

تواجه الولايات المتحدة الصين وروسيا كمنافسين عالميين، وتشكل بكين تحدياً اقتصادياً وعسكرياً، وعلى الصعيد الإقليمي تواجه أميركا تحديات من إيران وكوريا الشمالية (أ ب)

ملخص

ربما يكون من المستحيل تصور أن الانعزالية والأحادية الأميركية التي تنامت بعد عودة الرئيس ترمب إلى البيت الأبيض يمكن أن تصل إلى مرحلة الانسحاب الكامل من أدوار الولايات المتحدة العالمية مالياً واقتصادياً وعسكرياً وفكرياً، ولكن مع افتراض أن غياب الولايات المتحدة عن المؤسسات والمنظمات الدولية والتجمعات الاقتصادية سيتزايد خلال الأعوام المقبلة، فلا شك أن النتائج ستكون معقدة.

مع مقاطعة الولايات المتحدة لقمة مجموعة الـ20 التي عقدت في جوهانسبورغ بسبب ادعائها بأن المزارعين البيض داخل جنوب أفريقيا يتعرضون لإبادة جماعية، سعت دول أخرى إلى إبرام صفقات جديدة واتخذ بعضها لهجة أكثر صرامة مع الرئيس دونالد ترمب بمن فيهم رئيس الوزراء الكندي مارك كارني، الذي صرح بأن العالم قادر على إحراز تقدم في مجموعة من القضايا من دون الولايات المتحدة، لكن وجهات النظر تتباين عما إذا كانت دول الـ20 التي تضم ثلاثة أرباع سكان العالم وثلثي الناتج المحلي الإجمالي العالمي وثلاثة أرباع التجارة العالمية، يمكن أن تستغني عن مركز الثقل السياسي والاقتصادي للولايات المتحدة، فما حجج الأطراف المتباينة وأيها أكثر قبولاً؟

تنمر جيوسياسي

منذ تأسيسها عام 1999، غالباً ما كانت مجموعة الدول الـ20 التي تضم أكبر اقتصادات العالم خاضعة لهيمنة الولايات المتحدة ومصالحها، لكن مع مقاطعة الرئيس الأميركي للقمة السنوية للمجموعة احتجاجاً على ادعائه بأن جنوب أفريقيا تضطهد أقليتها البيضاء، اتخذت بعض الدول لهجة أكثر حزماً تجاه أكبر اقتصاد في العالم، وحاولت إظهار أن الحياة يمكن أن تستمر عبر توقيع الصفقات وتعميق التحالفات وتقديم التعهدات، في رسالة علنية واضحة بأن الدول قادرة على التكاتف وإنجاز المهام على رغم نفوذ الولايات المتحدة.

أفرز هذا مناخاً من التنمر الجيوسياسي عكسته تصريحات عدد من كبار القادة والمسؤولين المشاركين في قمة جوهانسبورغ، لا سيما رئيس الوزراء الكندي مارك كارني الذي أشار أيضاً إلى أن مركز الثقل في الاقتصاد العالمي آخذ في التحول، وأوضح الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا بعد انتهاء الاجتماع يوم الأحد الماضي أن "على رغم ترويج ترمب للأحادية، فإن التعددية ستنتصر... جميع من شاركوا في القمة يعلمون أننا معاً سنكون أقوى بكثير، وأكثر كفاءة".

حتى الدولة المستضيفة (جنوب أفريقيا) لم تكن أكثر لطفاً إزاء الولايات المتحدة، إذ طالب وزير خارجيتها رونالد لامولا ضمن منتدى قبيل الاجتماع بأن ترسل القمة رسالة واضحة مفادها أن العالم قادر على المضي قدماً مع أو من دون الولايات المتحدة، فيما أصدرت القمة بياناً ختامياً تضمن عدداً من البنود التي عارضها مسؤولو ترمب.

وإضافة إلى ذلك، سمح غياب أميركا للدول الأخرى بتجاوز مشكلاتها مع بعضها بعضاً، فقد تناسى قادة دول الاتحاد الأوروبي خلافهم مع جنوب أفريقيا بسبب احتفاظ الأخيرة بصداقتها مع روسيا عقب الهجوم ضد أوكرانيا، وأعلنوا عن اتفاق معادن جديد مع جنوب أفريقيا، وتعهدوا بمليارات الدولارات لتطوير الطاقة المتجددة داخل أفريقيا.

واقعية أم مبالغة؟

غير أن هذه النبرة الصاخبة من التصريحات الناقدة لدور الولايات المتحدة العالمي، وعلى رغم واقعيتها التي تستند بصورة كبيرة إلى دراسات وبيانات حقيقية، فإنها بدت كنوع من المبالغة من قبل دول اختلفت مع إدارة ترمب منذ أشهر عدة، إذ لا تزال البرازيل تعاني الرسوم الجمركية المرتفعة التي فرضتها واشنطن على بعض منتجاتها، وتخوض جنوب أفريقيا مفاوضات صعبة مع إدارة ترمب في محاولة لخفض رسومها الجمركية البالغة 30 في المئة، ولا تزال كندا الدولة الوحيدة في مجموعة الدول الصناعية السبع التي لم تتوصل بعد إلى اتفاق تجاري مع الولايات المتحدة في مواجهة الرسوم الجمركية، وركز رئيس وزرائها مارك كارني الذي شارك في معارضة اقتراح ترمب بأن تصبح كندا الولاية الـ51 للولايات المتحدة، على محاولة الابتعاد من أميركا وعدم الاعتماد عليها بالقدر الذي كانت عليه في الماضي.

ومع ذلك، يدرك هؤلاء القادة أنهم لا يستطيعون ببساطة تجاهل الولايات المتحدة تماماً، فحجم اقتصادها الأكبر في العالم وقدرتها العسكرية المتفوقة وتأثيرها الواضح في عالم الابتكار والتكنولوجيا، يعني أنها لا تزال تتمتع بنفوذ كبير في قضايا عالمية حرجة مثل الطاقة المتجددة والتجارة والحروب، وهو ما ظهر بصورة ملموسة خلال اليوم الأول من القمة، عندما اضطر حلفاء أوكرانيا سريعاً إلى عقد اجتماع على هامش القمة لمناقشة خطة سلام مثيرة للجدل تدعمها الولايات المتحدة للحرب مع روسيا.
وبينما يمكن للإعلان النهائي للقمة التأثير في القرارات السياسية لمؤسسات دولية مثل صندوق النقد الدولي على رغم كونه غير ملزم، فإن للتصويت الأميركي تأثيراً كبيراً في عدد من المؤسسات السياسية والمالية الدولية.

دولة لا غنى عنها

غالباً ما كان يشار إلى الولايات المتحدة على أنها "دولة لا غنى عنها"، وهو مصطلح ظهر للمرة الأولى خلال يناير (كانون الثاني) 1997 من قبل الرئيس بيل كلينتون خلال خطاب تنصيبه الثاني، وكررته وزيرة خارجيته مادلين أولبرايت ضمن خطاباتها وكتاباتها بما يوحي باستحالة الحفاظ على نظام نسبي في العالم وحل القضايا العالمية والإقليمية الأساس من دون الولايات المتحدة، واكتسب هذا المصطلح زخماً في عالم أحادي القطب، عندما ارتفع نفوذ الولايات المتحدة وسلطتها حول العالم إلى مستويات غير مسبوقة خلال فترة زمنية قصيرة للغاية.
ولفترة طويلة من حقبة ما بعد الحرب ظلت الولايات المتحدة القوة الدافعة للعالم وبوصلته ومحطة الوقود للاقتصاد العالمي، إذ وضعت أميركا القواعد واشترت البضائع وفرضت الرسوم وكانت الدولارات مثل بطاقة "فيزا" مقبولة في كل مكان، ووفر الجيش الأميركي الأمن لكل ناد جيوسياسي، سواء أحبوا ذلك أم لا.

الأولى... ولكن

لكن الواقع اختلف اليوم، إذ تواجه الولايات المتحدة الصين وروسيا كمنافسين عالميين، وتشكل بكين تحدياً اقتصادياً وعسكرياً، وعلى الصعيد الإقليمي تواجه أميركا تحديات من إيران وكوريا الشمالية ومع ذلك لا تزال أقوى قوة في العالم اقتصادياً وتكنولوجياً وعسكرياً، لكن يجب عليها الآن العمل في عالم متعدد الأقطاب تواجه فيه قيوداً دولية وداخلية، وفق ما يشير المستشار السابق للرئيس السابق باراك أوباما، دينيس روس.  

ولعل ما يشير إلى استمرار تمتع الولايات المتحدة بعدد من عناصر القوة، أن الرئيس ترمب حينما شارك في اجتماعات قمة مجموعة السبع التي استمرت يومين الشهر الماضي في كندا لم يمكث سوى 12 ساعة، واضطرت القمة إلى إصدار بيانات فردية متفق عليها مسبقاً حول قائمة من قضايا محددة حظيت بدعم الولايات المتحدة، أما بالنسبة إلى بقية القضايا فقد أصدرت كندا ملخصاً رئاسياً يوضح القضايا الأخرى التي ناقشها القادة كوسيلة للتعامل مع مشاركة عابرة للولايات المتحدة، وكأفضل طريقة لما يمكن فعله.

لم يمنع ذلك ترمب من تحقيق مراده، فقد أجبر مجموعة السبع على إعفاء الشركات الأميركية من الحد الأدنى العالمي لمعدل ضريبة الشركات الذي تفاوضت عليه المجموعة عام 2021 بعدما هدد بفرض ضريبة انتقامية على شركات الدول الست الأخرى، إذا لم تعف الشركات الأميركية.
ولا تزال معظم الحوكمة المالية العالمية في صندوق النقد والبنك الدوليين وفي أطر التعاون الضريبي الدولي وحل الديون خاضعة لهيمنة الولايات المتحدة، كما يظل النظام المالي العالمي يعتمد على الدولار الأميركي، مما يترك الدول الأخرى وبخاصة النامية تحت رحمة أسعار الفائدة الأميركية.

حوكمة في غياب أميركي

لكن الغياب الأميركي عن بعض المؤسسات والفعاليات الدولية الحيوية يثير تساؤلات أوسع حول مدى الثقة في الولايات المتحدة وقدرتها على قيادة الحوكمة العالمية، فمع بلوغ الأمم المتحدة عامها الـ80، بدت كلمات ميثاقها حول قدرة شعوب الأرض على إنقاذ الأجيال المقبلة من ويلات الحرب فارغة من أي معنى، إذ لم تفشل الأمم المتحدة في منع الحرب فحسب، بل إن نظامها المتجذر منذ عام 1945، والذي تمارس فيه الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن (الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وروسيا والصين) حق النقض (الفيتو) على القرارات الجماعية، يعني أنها غالباً ما تصاب بالشلل عند اندلاع الحروب.

لم تنتقد الأمم المتحدة لا الحرب الروسية على أوكرانيا ولا الهجوم الإسرائيلي المدمر على غزة، ولا الهجمات الأميركية على زوارق في عرض البحر الكاريبي تقول واشنطن دون دليل إنها لمهربي المخدرات، ومع بروز ظاهرة الحوكمة العالمية دون مشاركة أميركية سواء كان ذلك في قمة الـ20 أو قمة المناخ في البرازيل أو في بعض المؤتمرات الدولية الخاصة بالتنمية المستدامة، أصبحت دول عدة تنظر إلى الأميركيين على أنهم فقدوا حقهم في التأثير في النتيجة النهائية، بل بدت دول مثل الصين والبرازيل غير مستعدة للرضوخ لتهديدات ترمب بحسب المتخصص في الشأن الاقتصادي السياسي داخل جامعة شيفيلد مايكل جاكوبس.  

علامات التحول

إذا كانت الولايات المتحدة ظلت على مدى الـ80 عاماً الماضية الزعيم بلا منازع في التمويل العالمي، والقوة العسكرية والابتكار التكنولوجي والهيمنة الفكرية، فإنها تشهد حالياً تحولاً هيكلياً لا رجعة فيه بعيداً من هذه الهيمنة المتفردة، ليس نحو انهيار أميركي بل نحو عالم يزداد لا مركزية عبر محاور اقتصادية وعسكرية وفكرية متعددة، وهو تحول لن يحدث بين عشية وضحاها ولكن لم يعد بالإمكان إيقاف زخمه إلا في ظروف استثنائية كاندلاع حرب عالمية.

وحتى لو تعهدت أية إدارة أميركية مستقبلية باستعادة التحالفات والاستقرار، فإن إدراك الجميع أن الولايات المتحدة لم تعد قوة مهيمنة موثوقة بصورة دائمة قد ترسخ بالفعل في عملية صنع القرار الاستراتيجي العالمي، لأنه بمجرد أن يتغلغل هذا الإدراك، تبدأ الجهات الفاعلة بالتكيف بصورة طبيعية، بوعي وبلا وعي، مما يؤدي إلى تحول منهجي طويل الأمد.

وهناك كثير من الأمثلة الجيوسياسية الدالة على ذلك، منها اختيار بابا أميركي قبل أشهر قليلة، والذي يمكن تفسيره على أن الكنيسة الكاثوليكية التي طالما تجنبت اختيار بابا أميركي في الماضي خشية الخضوع لتأثير واشنطن، لم تعد ترى الولايات المتحدة قائداً استثنائياً في الشؤون العالمية، وفق ما يقول الكاتب السياسي جوناثان لاست.

ومن بين الأمثلة الأخرى قرار فرنسا وألمانيا إنشاء مجلس دفاع مشترك، مما يعني أن أكبر اقتصادين في أوروبا يعتقدان أن حلف الناتو انتهى وأنه يجب إنشاء نظام أمني جديد من دون الولايات المتحدة، ويناقش حلفاء الناتو الآخرون علناً الاستقلال الاستراتيجي، ويزيد حلفاء آسيويون مثل اليابان وكوريا الجنوبية إنفاقهم الدفاعي بدل الاعتماد كلياً على الضمانات الأمنية الأميركية.

هذا كله يشير إلى لحظة تحول مماثلة لتلك التي شهدها العالم عندما اندلعت الحرب العالمية الثانية في لحظة محددة للغاية، لحظة لم تعد فيها بريطانيا العظمى مع نهاية الحرب العالمية الأولى قادرة على قيادة النظام العالمي، بينما لم تكن الولايات المتحدة مستعدة لقيادته بعد، واللحظة الراهنة في عالم اليوم تتسق مع هذا الوضع تماماً، إذ لم تعد الولايات المتحدة مستعدة لقيادة النظام العالمي بينما الصين غير قادرة على قيادته بعد.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

عالم من دون أميركا

ربما يكون من المستحيل تصور أن الانعزالية والأحادية الأميركية التي تنامت بعد عودة الرئيس ترمب إلى البيت الأبيض يمكن أن تصل إلى مرحلة الانسحاب الكامل من أدوار الولايات المتحدة العالمية مالياً واقتصادياً وعسكرياً وفكرياً، ولكن مع افتراض أن غياب الولايات المتحدة عن المؤسسات والمنظمات الدولية والتجمعات الاقتصادية سيتزايد خلال الأعوام المقبلة، فلا شك أن النتائج ستكون معقدة وتتميز بفراغ في رأس السلطة العالمية واضطراب اقتصادي وتزايد عدم الاستقرار العالمي، إذ ستحاول دول أخرى مثل الصين وروسيا ملء هذا الفراغ، لكن العالم سيواجه تحديات كبيرة في التكيف مع النظام الجديد، إذ من المرجح أن يشهد العالم سباق تسلح وقد تصبح القوى الإقليمية أكثر عدوانية، مما قد يؤدي إلى تزايد الصراعات داخل مناطق مثل الشرق الأوسط وأوكرانيا وبحر الصين الجنوبي.

ومن المحتمل أن يؤدي انهيار التحالفات الأمنية القائمة حالياً إلى زعزعة الاستقرار، ففي حين قد يتمكن الناتو من البقاء ضمن عالم من دون الولايات المتحدة إذا بذلت القوى الأوروبية العظمى (المملكة المتحدة وألمانيا وفرنسا) أقصى جهد سياسي واقتصادي وعسكري ممكن، من المتوقع أن يدفع انسحاب أميركا حلفاء مثل اليابان وكوريا الجنوبية إلى البحث عن ترتيبات أمنية جديدة أو حتى تطوير رادع نووي خاص بهم، وقد يؤدي أيضاً إلى تجاهل عام للقانون الدولي والمعاهدات، بما في ذلك انهيار الأمن البحري الذي تساعد البحرية الأميركية حالياً في حفظ ممرات الشحن العالمية به، ولا توجد دولة أخرى تمتلك قدرة مماثلة على القيام بهذا الدور، ولهذا من المرجح أن ترتفع كلف الشحن، وتتباطأ التجارة الدولية.

ركود وأزمات

على هامش ذلك ستعاني الأمم المتحدة أزمة مؤسسية عميقة، إذ ستفقد مقرها الحالي داخل نيويورك ونحو 22 في المئة من موازنتها الأساس، إضافة إلى مساهمات الولايات المتحدة في إدارات وبرامج الأمم المتحدة المختلفة.

وضمن عالم تغيب فيه الولايات المتحدة عن أي دور ستصبح الصين تلقائياً القائد بلا منازع في مجال التكنولوجيا العالمية، على رغم أن أوروبا واليابان والهند ودول جنوب شرقي آسيا قد يكون لديها حافز أكبر لتوحيد جهودها لمواجهة هيمنة الصين في هذا المجال، لكن يصعب الجزم بإمكانية إنشاء نظام بيئي تكنولوجي عالمي مستقل عن بكين من دون الولايات المتحدة، إذ سيعتمد هذا إلى حد كبير على مدى صلابة أو مرونة هيمنة بكين، وكذلك على مدى قدرة الصين على تجنب احتكار التقنيات الجديدة التي تعد أساساً للمجتمع العالمي ككل.

على الصعيد الاقتصادي، سيؤدي انعزال أكبر اقتصاد في العالم إلى إلحاق ضرر بالغ بالاقتصاد العالمي، وقد يؤدي إلى ركود أو كساد وسيتضرر الشركاء التجاريون المقربون مثل كندا والمكسيك، وسيصبح وضع الدولار الأميركي كعملة احتياطة عالمية غير مستقر مما يسبب مشكلات كبيرة في المجتمع المالي العالمي، بينما سيصبح اليورو حتماً العملة الاحتياطة الرئيسة بمجرد خروج الدولار من النظام المالي العالمي، لأن اليوان الصيني ليس قابلاً للتحويل بالكامل مما يعني أن الصين ستستغرق وقتاً طويلاً قبل أن تتمكن من منافسة الاتحاد الأوروبي في المجال المالي، وربما تكتسب عملات عالمية أخرى مثل الجنيه الاسترليني والين الياباني والفرنك السويسري أهمية أكبر، وستحصل المراكز المالية الأوروبية والآسيوية (لندن وفرانكفورت وشنغهاي وسنغافورة) على حوافز قوية للازدهار والنمو.

ومن المتوقع أن تخضع المؤسسات المالية الدولية (البنك الدولي للإنشاء والتعمير وصندوق النقد الدولي)، والتي كثيراً ما لعبت الولايات المتحدة دوراً قيادياً فيها، لإصلاحات شاملة وربما مؤلمة للغاية.

قد يؤدي غياب الولايات المتحدة عن أسواق الطاقة العالمية إلى انتعاش موقت لمنظمة "أوبك" وتعزيز مكانة روسيا، وسيؤدي انسحاب واشنطن من أسواق الأسلحة والمواد الغذائية العالمية إلى إعادة هيكلة كبيرة لهذه الأسواق، وحتى مع الجهود المشتركة التي تبذلها الأطراف الأخرى فإن الفجوة التي ستتركها الولايات المتحدة في سوق الأسلحة سيكون من الصعب للغاية سدها.

شكوك في واشنطن

في ظل هذه التصورات الخيالية لن ينهار العالم بل سينجو من انعزال وأحادية الولايات المتحدة، ولكن بطريقة صعبة ومزعجة للغاية وسط صراع حتمي طويل ومتوتر على "الإرث الأميركي"، وبخاصة بالنسبة إلى الجهات الدولية التي ظلت مختبئة في ظل القوة العظمى الأميركية على مدى عقود.

 لكن من المستحيل توقع انسحاب أميركي كامل من الشؤون العالمية والمالية والتجارية نظراً إلى ارتباط الشركات الأميركية بالسوق العالمية واندماج السوق الأميركية بالعالم، وعدم رغبة الإدارات الأميركية المتعاقبة بما فيها إدارة ترمب في التخلي عن دور الولايات المتحدة القيادي في العالم، ومع ذلك تظل المشكلة التي تواجه أميركا هي أن العالم أصبح لديه لمحة عن واشنطن كشريك غير متوقع وغير موثوق به، إذ أدى عدم الاستقرار الداخلي للحكم في الولايات المتحدة إلى تشكيك الحلفاء في موثوقية أميركا على المدى الطويل.

وحتى لو حاولت إدارة ما بعد ترمب ترميم الثقة، فلن يفترض قادة العالم مجدداً أن استقرار الولايات المتحدة مضمون، وكما يقول أستاذ التاريخ أندريه كورتونوف فإن هذا الشك وحده كافٍ لإحداث تحولات سلوكية وهيكلية طويلة المدى في كيفية عمل الدول والأسواق.

اقرأ المزيد

المزيد من تقارير