Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

أي مستقبل للعلاقات الروسية - الأوروبية التي تزداد تدهورا؟

لم يعد من الممكن العودة إلى التسعينيات، فالقادة الروس لا يلهثون حالياً وراء أن تصبح بلادهم "جزءاً من العالم الأوروبي المتحضر" كما توهموا سابقاً

إيمانويل ماكرون متوسطاً فولوديمير زيلينسكي وكير ستارمر (يسار) وفريدريش ميرتس ودونالد توسك (يمين) أثناء سيرهم في القصر الرئاسي في كييف في 10 مايو 2025، بعد اجتماع "تحالف الراغبين" (أ ف ب)

ملخص

على المديين المتوسط ​​والطويل وبعد انتهاء الأعمال العدائية في أوكرانيا، سيتعين على روسيا والاتحاد الأوروبي تحديد صيغ التفاعل بينهما نظراً إلى قربهما الجيوسياسي.

تتزايد التوترات في العلاقات الروسية - الأوروبية وتتجه نحو مزيد من التنافر والمواجهة على خلفية الحرب الدائرة داخل أوكرانيا بصورة أساس، ولكن هذه الحرب ليست وحدها السبب الوحيد والرئيس للهوة التي تزداد عمقاً واتساعاً بين موسكو وبروكسل، فهناك خلافات أخرى تنعكس في انهيار عدد من صور التعاون وغياب الحوار حول القضايا الرئيسة. ويتجلى ذلك في تعليق أو إنهاء عضوية روسيا في المنظمات الدولية مثل مجلس أوروبا، ووقف العلاقات الدبلوماسية مع بعض الدول الأوروبية.

وأدى طرد روسيا من مجلس أوروبا وانسحابها طوعاً من عدد من المنظمات الأوروبية الأخرى إلى إضعاف العلاقات الدبلوماسية وتدهورها، إلى حد إعلان وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف خلال الـ13 من نوفمبر (تشرين الثاني) الجاري، عن "عودة النازية من جديد إلى أوروبا"، وتحول الاتحاد الأوروبي بسرعة إلى "كتلة عسكرية عدوانية".

وأسفر إضعاف العلاقات الدبلوماسية وتدهور عرى الثقة بين الطرفين عن تراجع التعاون الاقتصادي وتدهوره أيضاً بصورة دراماتيكية، بسبب العقوبات والعقوبات المضادة التي تحد من التجارة والاستثمار بين روسيا ودول الاتحاد الأوروبي.

ونتيجة لهذه الاتجاهات السلبية التي تزداد عصفاً بين بروكسل وموسكو، يبدو أن روسيا وأوروبا تتجهان نحو مزيد من الافتراق والعزلة عن بعضهما بعضاً، مما يجعل من الصعب حل المشكلات والتناقضات المشتركة، لا سيما بعد تزايد التوترات الأمنية وتصاعد أخطار الصراع العسكري.

تصريحات لافروف

وبما يشبه نعي علاقات بلاده مع القارة العجوز، قال وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف إن الشعور بالانتماء الوطني والولاء للوطن يختفي تدريجاً داخل الغرب، في حين أن هذه القيم تشكل جزءاً من "الشيفرة الوراثية" لدى الشعب الروسي.

وأعلن لافروف ضمن مقابلة أجراها مع صحيفة "كوريري ديلا سيرا" الإيطالية الشهر الجاري حول مستقبل المفاوضات في شأن أوكرانيا وعلاقات روسيا مع الغرب، وامتنعت الصحيفة عن نشرها، أن "النازية تعود من جديد في أوروبا"، وأن الاتحاد الأوروبي "يتحول بسرعة إلى كتلة عسكرية عدوانية". وضمن هذا السياق، أوضح أن روسيا تسعى إلى إعادة أوكرانيا إلى "جذورها الصحية والمستقرة" كدولة.

وقال لافروف للصحيفة "تشكل معظم العواصم الأوروبية الآن العمود الفقري لما يسمى ’تحالف الراغبين‘، الذي لا يريد سوى أمر واحد وهو استمرار القتال في أوكرانيا لأطول فترة ممكنة. هدفهم الرئيس هو تقويض موقف الإدارة الأميركية الحالية، التي دعت في البداية إلى الحوار، وتمعنت في موقف الجانب الروسي، وأظهرت عزمها على إيجاد تسوية سلمية مستدامة".

وانتقد لافروف "النخب في بروكسل" التي "تتغاضى عن التمييز الصارخ" الذي تمارسه سلطات كييف ضد ما تسميه "الشعوب غير الأصلية"، في إشارة "مهينة" إلى الروس الذين يعيشون في أوكرانيا منذ قرون. ودعا إلى التأمل في هذا الوضع، "وبخاصة في ظل تصويت ألمانيا وإيطاليا واليابان أخيراً داخل الأمم المتحدة ضد القرار السنوي للجمعية العامة الذي يدين تمجيد النازية". وأضاف أن "الغرب لا يخفي أنه يخوض عبر الأيدي الأوكرانية حرباً بالوكالة ضد روسيا، وهي حرب لن تتوقف حتى بعد انتهاء الأزمة الحالية"، مؤكداً أن "عزيمة روسيا على ضمان أمنها من التهديدات التي يولدها الغرب عبر نظامه التابع في كييف هي عزيمة مشروعة ومبررة".

وعبر لافروف عن أمل موسكو في "ألا تدفع الولايات المتحدة النزاع إلى مراحل أخطر من التصعيد"، مشيراً إلى أن "أوروبا تعد علناً لحرب كبرى جديدة ضد روسيا، وتعمل على عرقلة أية جهود سلام تتعلق بالأزمة الأوكرانية". ومع ذلك أكد وزير الخارجية الروسي أن بلاده ستبقى منفتحة على التواصل مع أوروبا، "بعدما يزول هذا الهوس المعادي لروسيا". وقال "عندها سنرى ما إذا كانت هناك إمكانية لعلاقة صادقة".

واتهم لافروف الحكومة الإيطالية بالانحياز بـ"سهولة مفاجئة" لخط عدواني ضد روسيا على رغم مصالحها الوطنية. وقال إن روسيا "لا تعد أي شعب عدواً بل الحكومات فقط"، معتبراً أن "العلاقات الروسية – الإيطالية تمر بأزمة هي الأشد في تاريخها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية".

وأكد لافروف "لم يحدث هذا بمبادرة منا. كان من المدهش مدى سهولة انضمام إيطاليا على عكس مصالحها الوطنية إلى أولئك الذين كانوا يراهنون على الهزيمة الاستراتيجية لروسيا"، جازماً أن بلاده "لم تشهد حتى الآن أية تغييرات جوهرية في هذا النهج العدواني، فروما تواصل تقديم دعم شامل للنازيين الجدد في كييف".

وأوضح الوزير أن مبادرة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حول "بناء هندسة أمنية جديدة في أوراسيا قائمة على المساواة وعدم تقسيم الأمن"، لا تزال مفتوحة أمام أوروبا شرط أن "تتصرف حكوماتها باحترام، دون غطرسة نيوكولونيالية، وعلى أساس المساواة والاحترام المتبادل وتوازن المصالح".

وأكد لافروف أن "العثور على الحقيقة حول أوكرانيا في أوروبا أمر صعب"، لكنه أشار إلى أن عدداً من المواطنين الأوروبيين يسعون إلى فهم جذور هذه المأساة. وذكر بأن كتاب "الصراع الأوكراني من منظور صحافي إيطالي"، للكاتب والناشط الإيطالي المعروف إليسيو بيرتولازي، يحوي وثائق تثبت انتهاك السلطات الأوكرانية للقانون الدولي.

وخلص لافروف إلى أن "الغرب التاريخي حاول أن يعزل نفسه عن روسيا"، لكنه شدد على أن "العالم الحديث لا يقتصر على أقلية غربية"، وأن روسيا "تواصل توسيع علاقاتها الدولية".

 

الصراع الأوكراني

يكشف تحليل الخطاب الأوروبي العام حول الحرب في أوكرانيا عن غياب نهج استراتيجي تجاه هذه القضية وتضارب النقاشات السياسية والأيديولوجية الدائرة حولها. وتستند المواقف الأوروبية المتباينة في شأن روسيا وأوكرانيا إلى أفكار "قيمية" أو "معيارية"، متجاهلة الظروف الجيوستراتيجية الموضوعية. ونشأ ذلك نتيجة للتباعد المتزايد بين أوروبا وروسيا على مدى الأعوام الماضية، سواء قبل الصراع المسلح في أوكرانيا أو أثناءه، لذلك فشلت الجهات الغربية الفاعلة إلى حد كبير في اتخاذ موقف استراتيجي واضح ومفهوم.

فالشرط الأول للموقف الاستراتيجي هو أن يشكل فكرة مقبولة عالمياً لطبيعة الهيكل الاستراتيجي العالمي المستقبلي، لكن من الواضح على مستوى الخبراء أن الأفكار الليبرالية الغربية للنظام العالمي فقدت أهميتها، ومع ذلك لا يزال السياسيون الغربيون ووسائل الإعلام الرائدة يعتقدون أن القيم الغربية هي أساس النظام الدولي.

فمن دون رؤية واقعية للنظام الدولي الناشئ يستحيل تحديد دور مستدام لأوروبا فيه، بالتالي بناء علاقات بينها والقوى الأخرى. وهذا يصعب أيضاً تحديد أهداف استراتيجية واضحة في العلاقات مع روسيا وأوكرانيا. كانت هذه هي الحال، على سبيل المثال، في قمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) عام 2008، عندما أيد الغرب احتمال انضمام أوكرانيا وجورجيا إلى "الناتو"، بينما عارض ذلك كثير من دوله خلال الوقت نفسه.

وفي غياب استراتيجية واقعية تجاه موسكو، تجاهل الغرب المصالح الاستراتيجية لروسيا من جهة وقلل من شأن استعدادها النهائي للقتال من أجل هذه المصالح من جهة أخرى، لذلك صاغ الغرب أهدافاً عسكرية غير واقعية إلى حد كبير في أعقاب تصاعد الصراع في أوكرانيا، منها إرسال قوات عسكرية أوروبية إلى أوكرانيا وإعلانه عن بدء استعداداته لمواجهة غزو روسي مزعوم، وترافق ذلك مع تنكره للوقائع الميدانية على الجبهة الأوكرانية، بالتالي يتحمل الغرب الأوروبي مسؤولية استمرار الحرب في أوكرانيا بصبه الزيت على النار المشتعلة أصلاً، من طريق إمداده كييف بكل أنواع الأسلحة بما فيها تلك الأسلحة الأميركية الفتاكة التي يشتريها من الولايات المتحدة لحساب أوكرانيا.

وكما يتضح الآن، يفتقر الغرب إلى استراتيجية خروج في حال فشل أوكرانيا في تحقيق أهدافها العسكرية، ويرتبط عدم القدرة على إيجاد استراتيجية خروج أيضاً بنقص فهم الغرب لكيفية تشكيل نظام عالمي متعدد الأقطاب يتماشى مع الحقائق الاستراتيجية الدولية الجديدة. وهذا يحدد مسألة ما إذا كانت المواجهة المطولة مع روسيا تصب في مصلحة أوروبا الغربية أم تناقضها.

إن عجز أوروبا الغربية عن الاعتراف بعزلة موقفها المتشدد من الصراع الأوكراني أمر مميت، وفي ظل هذه الظروف ازدادت التناقضات في الروايات وتباينت وجهات النظر، ويبدو من وجهة نظر أوروبية مغالية أنه لا بديل عن استمرار الصراع المسلح.

مواقف أوروبية

في الأثناء، اعتبر الرئيس الفنلندي ألكسندر ستوب أن الحوار بين أوروبا وروسيا سيعود حتماً في مرحلة ما، معلقاً على تصريحات سابقة لسلفه ساولي نينيستو. التي دعا فيها أوروبا إلى فتح قنوات تواصل مباشرة مع موسكو، مستوحياً نهج الرئيس الأميركي دونالد ترمب.

إلا أن ستوب ضمن تصريحات نقلتها هيئة الإذاعة والتلفزيون الفنلندية، شدد على أن هذا الحوار ينبغي ألا يعلن عنه علناً خلال مراحله الأولى. وقال "في مرحلة ما وبصورة ما، سيعود الحوار بالتأكيد. من تجربتي الشخصية تعلمت أنه لا ينبغي الإفصاح عن جميع المفاوضات وقنوات التأثير مسبقاً".
وكشف ستوب أن القادة الأوروبيين تناولوا هذا السؤال مراراً خلال العامين الماضيين، مؤكداً أن أي تواصل مع روسيا يجب أن يكون منسقاً على المستوى الأوروبي، وأن تحدد الدول الأوروبية أهدافها التفاوضية مجتمعة، لا بصورة فردية.

ولفت ستوب إلى أن العلاقات الأوروبية - الروسية بعد انتهاء النزاع في أوكرانيا لن تعود إلى ما كانت عليه سابقاً لكنها لا بد أن تُستأنف، معتبراً أن على فنلندا وأوروبا معاً "الاستعداد معنوياً" لهذا التحول المستقبلي.

وخلال الـ12 من نوفمبر الجاري حذر الرئيس الصربي ألكسندر فوسيتش من احتمال اندلاع صراع مسلح بين أوروبا وروسيا، مصرحاً ضمن مقابلة مع قناة "بينك تي في" بأن الوضع يزداد توتراً وأن جميع الأطراف تستعد لمواجهة محتملة.

وقال فوسيتش "أحلل الحقائق وأستنتج أن الحرب بين أوروبا وروسيا أصبحت حتمية بصورة متزايدة، هذه ليست مجرد كلمات جوفاء فالجميع يستعد لها". واعتبر الرئيس الصربي أن بلاده في وضع صعب "بين المطرقة والسندان". ولذلك، تعتزم صربيا مواصلة تعزيز جيشها لضمان أمنها الوطني بحسب قوله.

وضمن السياق، جدد المتحدث باسم الرئاسة الروسية دميتري بيسكوف موقف موسكو الثابت في شأن استعدادها للتسوية السلمية داخل أوكرانيا، مشيراً إلى أن "الطرفين، الأوروبي ونظام كييف، يظهران حتى اللحظة عزوفاً تاماً عن اتخاذ أية خطوات فعلية في هذا الاتجاه".

فراق اقتصادي

تمتعت روسيا والاتحاد الأوروبي بعلاقات تجارية واقتصادية مكثفة حتى بداية الحرب الأوكرانية. وخلال عام 2017 مثل الاتحاد الأوروبي نحو 44 في المئة من إجمال التجارة الخارجية لروسيا، وروسيا بدورها هي رابع أكبر شريك تجاري للاتحاد الأوروبي، إذ مثلت نحو ستة في المئة من تجارته الخارجية خلال عام 2017 حين عاود حجم التبادل التجاري بين روسيا والاتحاد الأوروبي نموه، إثر انخفاض ملحوظ خلال الفترة بين عامي 2014 و2016، ليصل مجدداً إلى 247 مليار دولار أميركي بزيادة قدرها 23 في المئة مقارنة بعام 2016، إذ تمكنت روسيا آنذاك من ترسيخ مكانتها كمورد رئيس للطاقة إلى الاتحاد الأوروبي، وكانت تلبي وحدها ثلث حاجاته من الطاقة.

وكانت الزيارة الأخيرة للممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية السابق جوزيب بوريل خلال عام 2021 إلى موسكو بمثابة الانطلاقة النهائية لتعزيز العلاقات التجارية والاقتصادية، إذ تمثل العلاقات الروسية - الأوروبية القوية 60 في المئة من إجمال التجارة الخارجية. وفي عام 2021 بلغ حجم التبادل التجاري 282.047 مليار دولار أميركي، بينما بلغت الصادرات الروسية 188.115 مليار دولار أميركي.

وأوضح الدبلوماسي نفسه أن هدف زيارته هو "التأكد من استعداد موسكو لعكس مسار علاقاتها المتدهور مع الاتحاد الأوروبي، واغتنام فرصة بناء الحوار"، وخلص إلى القول "يبدو أن الأمر ليس كذلك".

أشعلت سياسة بوريل القاسية جولة جديدة من التوترات خلال سبتمبر (أيلول) 2021 أي قبل أشهر من اندلاع الحرب الأوكرانية، إذ أعقبت تصريحات الدبلوماسي الأوروبي القاسية تصعيداً في الصراع. ونتيجة سلسلة من العقوبات والعقوبات المضادة، ألغت أوروبا فعلياً جميع العلاقات الاقتصادية التي تطورت بسرعة كبيرة منذ عام 1945.

فُرضت عقوبات على سلع وشركات وأفراد روس وردت روسيا بفرض عقوباتها، وأصبحت الصادرات القضية الأكثر حساسية ضمن العلاقات الثنائية.

ووفقاً لأحدث البيانات، انخفض حجم التبادل التجاري بين روسيا وأوروبا انخفاضاً حاداً مقارنة بمستويات عام 2022، فخلال عام 2024 ووفقاً لمكتب الإحصاء الأوروبي (يوروستات) بلغ 67.5 مليار يورو، وخلال الربع الثاني من عام 2025 بلغ 14.5 مليار يورو، وهو يقترب من الصفر، ويعود ذلك أساساً إلى انسحاب أكثر من 150 شركة أوروبية من السوق الروسية.

وكانت خصوصية هذا "الخروج" تتمثل في أن الشركاء التجاريين المستثمرين لم يغادروا السوق الروسية جسدياً فحسب (نقل مكاتبهم وموظفيهم)، بل أخذوا معهم رأس المال الاستثماري وفي كثير من الأحيان رأس المال المصرح به.

أما بالنسبة إلى قطاع الطاقة - إمدادات الطاقة إلى أوروبا - فهناك ما يستدعي التفكير. لم تكن هناك أزمة في أوروبا نتيجة للعقوبات المضادة، ولكن سلاسل توريد الهيدروكربونات كانت في حاجة إلى التوسيع وإعادة الهيكلة، خصوصاً بعد تفجير خطي "نورد ستريم" اللذين كانا يمدان أوروبا بالغاز الروسي الرخيص.

إن العلاقات الروسية - الأوروبية المبنية على حجر الزاوية المتمثل في العلاقات الاقتصادية الناجحة تقليدياً تواجه مهمة هائلة، إزاء كيفية نقل العبء الكامل للعلاقات الروسية - الأوروبية إلى المستوى الآسيوي، وتقاسم كلف الانفصال عن أوروبا مع نمو العلاقات التجارية والاقتصادية مع تركيا والصين والهند.

وترى المنظمات الدولية أن أحجام الصادرات والواردات من هذه الدول، على رغم نموها بصورة كبيرة لم تصل إلى العتبات النوعية التي يفهم منها تعويض الفجوات التي كان يملؤها الشركاء الأوروبيون سابقاً من قبل هذه الدول.

وأخيراً النشاط الاستثماري، إذ يواصل الاتحاد الأوروبي الاستثمار في روسيا عبر دول ثالثة وتحديداً من خلال فروعه في كوريا الجنوبية وتايوان وتركيا والصين.
وتشير الإحصاءات إلى تراجع ملحوظ في نشاط الاستثمار، وهو في الواقع لم ينخفض ​​إلا قليلاً من حيث القيمة المطلقة بنسبة خمسة إلى 10 في المئة، وفقاً لخبراء صندوق النقد الدولي.

إن تقييم روسيا وأوروبا بأن العلاقات التجارية والاقتصادية الروسية دخلت في أزمة عميقة يتأكد عملياً، ومما لا شك فيه أن الأزمة قائمة إلى حد ما إن لم تكن عميقة.

فالعلاقات الاقتصادية والتجارية بين روسيا والاتحاد الأوروبي تمر حالياً بأوقات عصيبة بسبب العقوبات الأوروبية التي فرضتها الدول الأوروبية على موسكو قبل الأزمة الأوكرانية وأثناءها، والتي أقرت الحزمة الـ19 منها ضد روسيا خلال الشهر الماضي، بحيث صار الاتحاد الأوروبي محل شك في سمعته كشريك موثوق للجار الشرقي الذي كان يؤمن موارد طاقة رخيصة للقارة العجوز. وتلقت هذه العلاقات ضربة موجعة من العقوبات الأحادية الجانب التي فرضها الاتحاد الأوروبي على حساب المصالح الاقتصادية المتبادلة، بذريعة دعم مخططات جيوسياسية مشبوهة. وأظهرت أحداث الأعوام الثلاثة الأخيرة أن العلاقات التجارية والاقتصادية بين روسيا والاتحاد الأوروبي، ليس فقط لم تتطور إلى شراكة استراتيجية حقيقية قائمة على مبادئ المساواة والأمن غير القابل للتجزئة والاحترام المتبادل للمصالح، بل تراجعت إلى حد التدهور بسبب بقاء الصور النمطية العدائية البالية من حقبة الحرب الباردة راسخة.

فقد أعلن مفوض الطاقة الأوروبي دان يورغنسن رسمياً العام الماضي أن الاتحاد الأوروبي سيقطع نهائياً جميع علاقاته مع روسيا في مجال الوقود، ووصف هذا بأنه "أولوية قصوى" لافتاً إلى أن زيادة إمدادات الغاز الطبيعي المسال من الولايات المتحدة ستساعد في تحقيق ذلك، "يجب أن ندرك أنه لا يمكننا تقليل اعتمادنا على روسيا من دون الطاقة من الولايات المتحدة. إنهم أصدقاؤنا الحقيقيون، وآمل أن نستمر في صداقتنا".

وهكذا ووفقاً لمنطق السيد يورغنسن، فإن جزيئات الحرية والديمقراطية ستُستبدل كاملةً بجزيئات الوقود الشمولية التي تقوض أمن الاتحاد الأوروبي، وبعد ذلك خلف الستار الحديدي الجديد ستعيش أوروبا في سعادة أكبر من أي وقت مضى، ولكن سيتعين إزالة لافتة "جنة عدن" حتى لا تجتذب انتباهاً غير ضروري من جانب اللاجئين المتدفقين من كل حدب وصوب.

إن الخطط الأوروبية للانفصال الكامل عن روسيا هي نوع منفصل من الخيال، وإذا جمعنا كل ما اقتُرح حول هذا الموضوع خلال الأعوام الأخيرة، فإن جميع مرافق تخزين الغاز الموجودة تحت الأرض وفوق الأرض لن تكون كافية.

مهما فلسف البيروقراطيون الأوروبيون معاداتهم لروسيا في خضم الرهاب الذي يعيشونه منها، فذلك لا يؤدي إلا إلى النتيجة نفسها، ارتفاع حتمي في أسعار الطاقة والكهرباء الأوروبية وتراجع إضافي في مستويات المعيشة الأوروبية، وتسارع وتيرة تفكيك الصناعة داخل ما كان يوماً ما أحد أقوى المراكز الاقتصادية على خريطة العالم. وأدت الخطوات الأخيرة لقطع علاقات الوقود مع روسيا إلى انزلاق الاقتصاد الأوروبي ونظامه الاجتماعي إلى دوامة صعبة.

إن أنصار "الطلاق النهائي في مجال الطاقة" من روسيا يقنعون الأوروبيين بأن كل شيء سيكون على ما يرام وأنهم لن يلاحظوا أي تغيير، بل طائرات ضخمة بيضاء الأجنحة مزودة بـ"الغاز الديمقراطي" تسارع إلى الإنقاذ من الولايات المتحدة، وإذا حدث أي شيء فإن النرويج ستساعد.

لكنهم نسوا أن يذكروا أن "غاز الحرية" الأميركي بحكم تعريفه سيظل دائماً أغلى بكثير من الغاز الروسي. على سبيل المثال، سعر شراء الغاز الطبيعي الحالي في هولندا أعلى بخمسة أضعاف منه في الولايات المتحدة. أما النرويج، التي زودت الاتحاد الأوروبي بـ30 في المئة من حاجاته من الغاز الطبيعي خلال عام 2023، وفقاً لصحيفة "فايننشال تايمز"، فإنها تخطط في ظل الارتفاع الحاد في أسعار الكهرباء المحلية "لقطع علاقات الطاقة مع أوروبا".

لهذا السبب تحديداً بدأت أصوات تُسمع في جميع أنحاء أوروبا تطالب بالخضوع لروسيا عاجلاً أم آجلاً. على سبيل المثال، إحدى بنود المسودة النهائية للبرنامج الانتخابي لحزب "البديل من أجل ألمانيا" الذي يكتسب زخماً متزايداً في بلده، هي استئناف العلاقات التجارية مع روسيا. ويصرح ممثلو الحزب بأن "روسيا تزودنا ​​بالغاز الرخيص ويجب استئناف التجارة معها".

 

المصالح ستقود السياسات

أبرزت الأزمة الأوكرانية بوضوح الحاجة الملحة إلى وضع إطار عمل مشترك للعلاقات بين روسيا والاتحاد الأوروبي في "الجوار المشترك"، يراعي مصالح الطرفين والدول في المنطقة بصورة حقيقية، ولا يكون مصدر إزعاج، بل أداة لتعميق التعاون وتوسيعه. من الضروري التعلم من الأخطاء الواضحة التي ارتكبت في تطبيق الاتحاد الأوروبي لمبادرة الشراكة الشرقية، والتي أسهمت طبيعتها الأحادية الجانب بصورة كبيرة في الأزمة الحالية. وضمن هذا السياق، يعتمد كثر على استعداد الاتحاد الأوروبي للانخراط في حوار حقيقي وموضوعي حول قضايا مواءمة عمليات التكامل الأوروبية والأوراسية. 

تهتم روسيا في المقام الأول بأوروبا لما تقدمه من فوائد اقتصادية وتكنولوجية، وسيكون من المفيد الحد من أو إزالة المعوقات السياسية التي تعوق العلاقات الاقتصادية، وستُثمر التغييرات الإيجابية هنا فوائد أكبر بكثير من أية تنازلات جيوسياسية.

في السابق، بنيت العلاقات بين الاتحاد الأوروبي وروسيا على فكرة ظهرت خلال تسعينيات القرن الماضي، مفادها أنه مع "تحديث" روسيا وتحولها إلى "دولة طبيعية"، ستصبح "أشبه ببقية أوروبا". لكن هذه الفكرة أصبحت الآن من الماضي، وكذلك فكرة ارتباط روسيا بالاتحاد الأوروبي ارتباطاً وثيقاً دون تبني مؤسساته.

لم تفرق الأزمة الأوكرانية بين أوروبا وروسيا فحسب، بل دفعت الأخيرة أيضاً إلى الانغلاق على ذاتها. وهذا يعني أن روسيا لم تعد ترى نفسها حدوداً شرقية لأوروبا، بل تعد لاعباً جيوسياسياً رئيساً ومستقلاً على الصعيد العالمي. واليوم وعلى رغم تمسكها بطابعها الأوروبي الثقافي فإن روسيا ليست "آسيوية" ولا "أوراسية" سياسياً، روسيا هي روسيا.

لأجيال اعتبر الروس أوروبا قدوة لهم، أما الآن فروسيا تعدها جاراً بالدرجة الأولى، إذ يُنظر إلى الاتحاد الأوروبي كشريك تجاري رئيس ومصدر مهم للتكنولوجيا والاستثمار. ومع ذلك وعلى رغم قوته الاقتصادية لا ينظر إليه في روسيا كلاعب جيوسياسي واستراتيجي متكامل، ففي السياسة العالمية أو الجيوستراتيجية يعتقد الروس أن أوروبا تتبع الولايات المتحدة ببساطة - طوعاً في كثير من الأحيان وأحياناً على مضض، وتعزز هذا الاعتقاد بموسكو بتضامن الاتحاد الأوروبي التلقائي مع حجج إدارة ترمب لانسحاب الولايات المتحدة من معاهدة الصواريخ النووية متوسطة المدى، وتعد موسكو هذه الحجج باطلة.

في أوروبا يدور النقاش حول كيفية التعامل مع روسيا أكثر من تركيزه على ماهيتها. وترى دول مثل بولندا ودول البلطيق في روسيا تهديداً وجودياً، لكن عدداً من الدول الأعضاء الأخرى في الاتحاد الأوروبي، على رغم قلقها إزاء تصرفات موسكو في أوكرانيا وارتيابها من "التدخل الروسي" في السياسة الداخلية الأوروبية، تركز أكثر على تطوير العلاقات الاقتصادية مع روسيا. وأخيراً هناك أوروبيون يحاولون فهم المنطق التاريخي والجيوسياسي والنفسي وراء تصرفات روسيا.

وليس مستغرباً أن لا روسيا ولا الاتحاد الأوروبي لديهما اليوم فهم واضح لكيفية استرجاع النبض الإيجابي في العلاقات الثنائية خلال المستقبل القريب.

استنتاجات

لم يعد من الممكن العودة إلى التسعينيات، فالقادة الروس لا يلهثون حالياً وراء أن تصبح بلادهم "جزءاً من العالم الأوروبي المتحضر"، كما توهموا سابقاً عقب انهيار الاتحاد السوفياتي. بل على العكس باتوا اليوم يرون روسيا قوة عظمى ذات مصالح عالمية، وأنه من غير الممكن العودة إلى عام 2013 أي إلى الوضع الذي سبق الأزمة الأوكرانية. ومع ذلك، لم تكن العلاقات بين الاتحاد الأوروبي وروسيا آنذاك وردية على الإطلاق، فقد سادت حال من عدم الرضا بين الجانبين.

على رغم الصراع الدائر في أوكرانيا فإن حدة المواجهة العسكرية بين "الناتو" وروسيا في أوروبا ما زالت منخفضة نسبياً من الناحية العملانية، وإن كانت نظرياً تبدو على عكس ذلك. يجري كلا الجانبين حساباتهما للسيناريوهات المحتملة، لكن لا يعتقد أي منهما أن أي صدام عسكري في هذا الجزء من العالم قد يسفر عن أي فوائد. علاوة على ذلك، لدى كل من "الناتو" وروسيا أسباب قوية للاعتقاد أن أي صراع كبير في أوروبا سيؤدي على الأرجح إلى استخدام الأسلحة النووية، وبعد ذلك يستحيل الحد منها أو ردعها.

وبالنظر إلى المستقبل ستؤثر عوامل رئيسة عدة على السياسة الأوروبية تجاه روسيا. أولاً، الجدل الأوروبي الداخلي بين مؤيدي توسيع العلاقات الاقتصادية مع روسيا والمشككين الذين سيظلون يعدونها تهديداً وجودياً. ثانياً، نفوذ الولايات المتحدة، التي من المرجح أن يتشدد موقفها تجاه روسيا في المستقبل المنظور. وأخيراً، تداعيات التقارب الروسي - الصيني على الاتحاد الأوروبي في ظل تصاعد التنافس الصيني - الأميركي.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

التفاعل الروسي - الأوروبي

خلال عصر تنتشر فيه المعلومات بسرعة فائقة ويؤثر فيه الجميع على بعضهم بعضاً، تؤثر روسيا وأوروبا بطبيعة الحال في بعضهما بعضاً، وستستمران في التأثير من خلال نشر الأفكار والتصورات التي تصب في صالحهما. ومن غير المرجح أن تجدي محاولات الحد من هذا التأثير، الذي اشتكى منه الاتحاد السوفياتي سابقاً وتشتكي أوروبا منه اليوم.

لا ينبغي لروسيا أن تتوقع كثيراً من أوروبا، فجهود الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون غير كافية لتحويل الاتحاد الأوروبي إلى ثقل موازن جيوسياسي واستراتيجي للولايات المتحدة. ويبدو أن الاتحاد الأوروبي لن ينتج قادة بمكانة شارل ديغول أو ونستون تشرشل، أو حتى سياسيين يضاهون جاك شيراك وهلموت كول ومارغريت تاتشر.

ولا ينبغي أن تكون هناك أية توقعات كبيرة في شأن تأثير العقوبات أيضاً. سيتعين على فرنسا أو ألمانيا أو كليهما من قادة الاتحاد الأوروبي أن يكونوا على استعداد لإعادة النظر فيها. هذا غير مرجح حتى من دون ضغوط من الولايات المتحدة، والتي مع ذلك لن تقف مكتوفة الأيدي إذا ظهرت احتمالية تخفيف العقوبات. إن سلوك أكبر ثلاث دول في أوروبا - فرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة - عندما انسحبت الولايات المتحدة من الاتفاق النووي الإيراني، يشير إلى كيفية تصرفهم في المستقبل. خلال اللحظات الحرجة لا يمكن للأوروبيين تجاهل الأميركيين. وبعد كل شيء، في المستقبل المنظور، ستظل الولايات المتحدة الدرع العسكري لأوروبا والسوق الرئيسة والشريك الاقتصادي الرئيس والمزود الأساس بالمعلومات الاستخباراتية.

لن يؤدي الضغط الأميركي الأكثر صرامة على الحلفاء الأوروبيين إلى رد فعل عنيف، بل على العكس سيجبر الأوروبيين على تقديم تنازلات خوفاً من قطيعة حقيقية مع أميركا.

لا يسع موسكو إلا أن تأمل في أن تدافع أوروبا بقوة أكبر عن مصالحها الاقتصادية في روسيا، شريطة ألا يترتب على ذلك عواقب على الأخيرة. فالعقوبات الاقتصادية أداة معقدة للغاية، وحتى أشد القيود صرامة التي تفرضها الولايات المتحدة تترك مجالاً للتعامل التجاري مع الدولة التي تستهدفها. وفي بعض الحالات، قد تأخذ واشنطن في الاعتبار الشكاوى الأوروبية حيال الأضرار التي لحقت بدول الاتحاد الأوروبي جراء العقوبات المناهضة لروسيا، وفي حالات نادرة قد تواجه دول الاتحاد الأوروبي الولايات المتحدة بالدفاع عن مصالحها الاقتصادية الأساس.

في نهاية المطاف لا داعي لقلق روسيا حيال بنية أمنية جديدة في أوروبا، فتدريجاً وتحت تأثير المواجهة مع الولايات المتحدة وعواقب التقارب بين موسكو وبكين والتنافس المتزايد بين أميركا والصين، ستظهر في أوروبا بنية ما من تلقاء نفسها. لقد جعلت أحداث الأعوام الأخيرة عقد "مؤتمر يالطا" جديد أمراً مستحيلاً، وتفتقر أوروبا إلى الوسائل والقدرة على إبرام "اتفاق هلسنكي" جديد، ومع ذلك فإن الردع المتبادل في أوروبا يعزز الأمن، وتضمن المصالح التجارية الحفاظ على العلاقات الاقتصادية وإن كان ذلك على نطاق محدود.

علاقات مد وجزر

أرسيت أسس العلاقات بين الاتحاد الروسي والاتحاد الأوروبي خلال النصف الأول من تسعينيات القرن الماضي، ووُقعت اتفاق الشراكة والتعاون الأساس خلال عام 1994، وصدق عليها عام 1997.

كانت وثيقة شاملة ومعدة باحترافية (صاغها خبراء بارزون من روسيا وأوروبا). من الناحية النظرية، استندت إلى فرضية بدت بديهية آنذاك. وفتحت نهاية الحرب الباردة الباب أمام توطيد العالم القديم بأوسع معانيه (في أقصى الشرق والجنوب قدر الإمكان) استناداً إلى المعايير والقواعد التي طورت وصقلت في أوروبا الغربية خلال عملية التكامل بين خمسينيات وتسعينيات القرن الماضي.

أتيحت لعدد من الدول الجديدة فرصة الانضمام مباشرة، فخلال عام 1992 كان الاتحاد الأوروبي يضم 12 دولة وخلال عام 2015 بلغ عدد أعضائه 28 دولة، أما الدول المتبقية فأحيلت إلى دور أعضاء منتمين بصورة مختلفة إلى "أوروبا الكبرى"، ولم يعرض أي شيء آخر. 

لم تعد روسيا قط مرشحاً نظرياً للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، ولكن كان يفترض أن تحولها ما بعد الشيوعية سيتبع النموذج الأوروبي العام وسيجعلها في نهاية المطاف أكثر توافقاً مع الاتحاد الأوروبي، مشكلة معه نوعاً من الجماعة.

لفترة طويلة وصلت حتى أواخر العقد الأول من القرن الـ21 تقريباً تقبلت موسكو هذا المنظور، بل حاولت لاحقاً تكييفه بطريقة ما مع اختلافها الواضح بصورة متزايدة مع الاتحاد الأوروبي. أدى ذلك إلى حوار سياسي مكثف على أعلى مستوى حتى عام 2014، وهو حوار لم يسبق للاتحاد الأوروبي أن شهده مع أية دولة أخرى. وكان الجانب الروسي مَن أصر ذات مرة على أن موسكو وبروكسل في حاجة إلى قمتين كل عام، على رغم أن الاتحاد الأوروبي لا يعقد سوى قمة واحدة مع أهم شركائه.

لعل تطور العلاقات بين روسيا والاتحاد الأوروبي، من بزوغ فجر واعد خلال أوائل التسعينيات إلى تراجعها المحبط خلال العقد الثاني من القرن الـ21، يمثل الفصل الأكثر إلهاماً في تاريخ التحول العالمي بعد الحرب الباردة. فمع تراجع أهمية فكرة وجود مجتمع رسمي بين روسيا وأوروبا، وعدم اتخاذ أية خطوات عملية في هذا الاتجاه منذ النصف الثاني من العقد الأول من القرن الحالي، فقدت المبادئ الأصلية معناها. 

كانت محاولة إقامة شراكة مؤسسية بين روسيا والاتحاد الأوروبي تتويجاً لمدرسة فكرية روسية ركزت وعملت منذ أواخر القرن الـ18 وأوائل القرن الـ19 في الأقل، على تغريب الممارسة السياسية الروسية وتحديد الأهداف. وللمرة الأولى، أُتيحت الفرصة لتغيير طبيعة العلاقات مع الغرب جذرياً.

لكن هذا الاحتمال ثبت أنه خبيث، فالروس المتغربون دعاة التحديث الذين كثيراً ما دافعوا عن التفاعل الأكثر فاعلية مع أوروبا ودعوا إلى اتباع نهجها، لم يقصدوا خضوع روسيا رسمياً للقواعد واللوائح الأوروبية، ومع ذلك بعد عام 1992 كان هذا تحديداً ما نوقش.

إن تجربة تحويل أوروبا إلى كيان سياسي موحد يبرز إطاره المعياري إلى الخارج انطوت على علاقات هرمية مع جيرانها المباشرين، وأصبح التفوق الأخلاقي ادعاء بالتفوق السياسي.

منذ البداية لم يكن الأمر مجرد مسألة تعاون كما هو شائع بين أية دولة أو جمعية، بل كان بمثابة ترابط مؤسسي غير مألوف بين روسيا والاتحاد الأوروبي، ومن هنا جاء التفاعل المكثف مع المؤسسات الأوروبية على أعلى مستوى ورغبة موسكو في ضمان وضع حصري لها، ولكن ضمن نظام يتمحور حول بروكسل.

ومع ذلك، التزم الجانب الأوروبي أقصى درجات الحصرية على مبادرات غير ملزمة مثل الحفاظ على هذا التفاعل المكثف لضمان استمراره. وبمعنى آخر، لم تحد أوروبا عن قواعدها وأنظمتها في علاقاتها مع روسيا.

لو كانت موسكو على رغم كل شيء تسعى للانضمام إلى "أوروبا الكبرى" لكانت تنازلاتها المختلفة مبررة، وإلا لكان من المستحيل تفسير ضرورتها. وقوبلت تطلعات الغربيين لاتباع النماذج الأوروبية بعجز روسيا التام عن تجاوز نفسها بما يكفي للحد من سيادتها بصورة كبيرة باسم الالتزام بهذه النماذج.

 

تغيير الأهداف

مما لا شك فيه أن هناك من يفكر في بروكسل وموسكو في كيفية تجاوز فترة الأزمة الراهنة وتدهور نموذج العلاقة الإيجابية، الممتدة من أواخر العقد الأول من القرن الحالي إلى النصف الثاني من العقد الثاني منه، إذ دخل بعدها الجانبان العقد الثالث من القرن الـ21 ضمن حال من التوتر المتبادل العميق، وغياب شبه تام للعلاقات السياسية بين روسيا والاتحاد الأوروبي.

يعد "التوجه نحو الشرق" أحد المفاهيم الرئيسة التي تحدد السياسة الخارجية الروسية الحالية. ويلعب تطوير العلاقات مع الدول الجيوسياسية غير الغربية دوراً مهماً في ترسيخ مكانة روسيا على الساحة الدولية. واليوم، يعد الاتحاد الاقتصادي الأوراسي ومجموعة "بريكس" ومنظمة شنغهاي للتعاون وصور التعاون الثنائي، منصات رئيسة لتعزيز مكانة روسيا كلاعب رئيس وتشكيل نظام عالمي متعدد الأقطاب. علاوة على ذلك، يروج حالياً بنشاط لمفهوم "الغالبية العالمية" الذي يعرف بأنه "الدول غير الغربية وغير المشمولة في علاقات ملزمة مع الولايات المتحدة والمنظمات التي ترعاها". وتشمل دول "الغالبية العالمية" الصين والهند وباكستان ودول الخليج العربي ومصر وماليزيا وغيرها، وأُشير إلى أهمية التفاعل مع هذه الدول ضمن جلسة منتدى سانت بطرسبورغ الاقتصادي الدولي لعام 2024، بعنوان "رثاء لأوروبا، عصر جديد من التعاون الدولي".

طرح المخارج

يعد مراقبون أنه نظراً إلى تدهور العلاقات مع الاتحاد الأوروبي كجزء من العالم الغربي، والطابع الوجودي للأزمة الأوكرانية بالنسبة إلى كلا الجانبين (روسيا والاتحاد الأوروبي) خلال هذه المرحلة، من المستحيل تقديم توصيات لتطبيع العلاقات على المدى القصير. ومع ذلك، على المديين المتوسط ​​والطويل وبعد انتهاء الأعمال العدائية داخل أوكرانيا، سيتعين على روسيا والاتحاد الأوروبي تحديد صيغ التفاعل بينهما نظراً إلى قربهما الجيوسياسي. وفي ظل هذه الظروف من المهم لكل من روسيا والاتحاد الأوروبي الحفاظ على البراغماتية وتحديد مبادئ الجوار، من أجل الحفاظ على أمن الجزء الأوروبي من القارة.

لكن الحوار السياسي التقليدي السابق بين روسيا والاتحاد الأوروبي هو من بقايا عصر مضى والعودة إليه مستحيلة، فكل شيء قد تغير، روسيا وأوروبا والغرب والعالم. باختصار، النظام العالمي الليبرالي الأحادي القطب انتهى. الجميع يرسخون دعائمهم الداخلية ويسعون إلى تقليص أي تأثير خارجي، ويستغلون الظروف الخارجية لحل مشكلاتهم الداخلية.

هناك أيضاً اعتبار أعم، في روسيا يتزايد الاعتقاد أن الاتحاد الأوروبي دخل بعد خروج بريطانيا منه مرحلة تغيير لا رجعة فيها، ولن يعود أبداً إلى ما كان عليه قبل 15 و20 عاماً.

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات