ملخص
على رغم أن منطقة الزهراء ضمن غزة الغربية كانت المخصصة للسكان بالانتقال إليها والعيش فيها بعد توقف إطلاق النار، فإنه لم يرجع أي غزي إلى تلك البقعة، حيث سيطر الخوف على قلوب المواطنين بعدما شاهدوا الويلات التي اقترفها الجنود هناك، وأيضاً ترددوا في العودة خوفاً من استئناف الحرب.
بمجرد أن انسحب الجيش الإسرائيلي من محور نتساريم الذي كان يسميه الغزيون ممر الموت، دخلت الجرافات المصرية إلى المنطقة وأنشأت أضخم مخيم إيواء داخل القطاع الذي شهد دماراً كبيراً في الخرسانة التي كانت تغطي الجغرافيا الصغيرة، وهذا الحدث الاستثنائي ليس مجرد فعل إنساني، وإنما أيضاً يحمل رسالة سياسية.
في محور الموت
عندما اندلعت الحرب بين حركة "حماس" وإسرائيل وتوغلت دبابات الجيش داخل القطاع، شقت المدرعات طريقاً عسكرياً في منطقة الزهراء التي تفصل شمال غزة عن جنوبها، وأقامت هناك حاجزاً أمنياً مرعباً.
كانت مدينة الزهراء عبارة عن كتلة معمارية كبيرة يعيش فيها نحو 7 آلاف نسمة، وتضم في جغرافيتها منتجعات سياحية ومراكز ترفيهية وجامعات ومعاهد تعليمية وقصر العدل، لكن عندما توغل فيها الجيش الإسرائيلي سحقها بالكامل.
لم يسلم من مدينة الزهراء أي شيء وتحولت إلى أرض بور بسبب كمية المتفجرات التي استخدمتها إسرائيل لتحويل المنطقة إلى محور نتساريم، وبالفعل شقت تل أبيب فيها موقعاً عسكرياً وأقامت داخله بؤراً قتالية ومراكز قيادة وتحكم، ومنها كانت تنطلق الدبابات لتنفيذ عمليات قتالية داخل مناطق شمال القطاع أو جنوبه.
نتساريم
الموقع المميز لمدينة الزهراء التي تربط بين شمال القطاع وجنوبه، دفع الجيش الإسرائيلي إلى استغلال تلك الجغرافيا وحولها إلى بوابة نتساريم، وجعلها تفصل بين الشق الشمالي والجنوبي، وعندما بدأ يوزع أوامر الإخلاء على السكان اضطر الغزيون إلى عبور محور نتساريم للوصول إلى المنطقة الإنسانية. وتحول المحور إلى حاجز عسكري قتل فيه المئات واعتقل الجنود من بوابته آلاف الجائعين، وحاصر الجيش الإسرائيلي مدينة غزة المركزية من بوابته، حتى أطلق عليه السكان "ممر الموت".
وعندما هدأت المدافع بموجب خطة الرئيس الأميركي دونالد ترمب للسلام والازدهار في غزة، وانسحب الجيش الإسرائيلي إلى مواقع جديدة، وغادر الجنود محور نتساريم، عاد بعض الغزيين لاستكشاف منطقة الزهراء، حينها كانت تحولت إلى صحراء مجرد رمال صفراء من دون أية مقومات حياة.
من منطقة رعب إلى مخيم إنساني مهم
على رغم أن منطقة الزهراء ضمن غزة الغربية كانت المخصصة للسكان بالانتقال إليها والعيش فيها بعد توقف إطلاق النار، فإنه لم يرجع أي غزي إلى تلك البقعة، حيث سيطر الخوف على قلوب المواطنين بعدما شاهدوا الويلات التي اقترفها الجنود هناك، وأيضاً ترددوا في العودة خوفاً من استئناف الحرب.
وشكل تحول المنطقة إلى أرض قاحلة تفتقر حتى لهياكل المباني التي دمرها الجيش الإسرائيلي وكذلك غياب المياه والكهرباء، وعدم إدخال الجيش الإسرائيلي للخيام ومستلزمات الإيواء لغزة، عوامل إضافية منعت الغزيين من استغلال تلك المساحة للتوسع فيها والعيش داخلها بدل التكدس في منطقة المواصي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
بعد تفكير في جوانب مختلفة، قررت اللجنة المصرية لإغاثة أهالي قطاع غزة اختيار تلك المنطقة التي تحمل ذكريات سيئة للغاية في صدور الغزيين، بإقامة أضخم معسكر إيواء، وبالفعل نجحت في تحويل ممر الموت إلى مخيم إغاثي إنساني شامل.
ضخم وشامل
اختارت اللجنة المصرية مساحة 200 دونم (الدونم الواحد يساوي 1000 متر) في محور نتساريم، جرفته ومهدت الأرض جيداً، ثم جهزت البنية التحتية بطريقة مثالية، مدت خطوط المياه والكهرباء والمراحيض ونصبت الخيام بطريقة منظمة وليست عشوائية.
جهزت اللجنة 15 ألف خيمة، واختارت 15 ألف عائلة فقدت مأواها وسط الدمار والمعاناة، للعيش في أكبر مخيم إيواء على مستوى غزة، ووفرت لهم جميع الخدمات الأساس.
يقول المتحدث باسم اللجنة المصرية في غزة محمد منصور "يعد هذا المشروع خطوة كبيرة ضمن الجهود المصرية المستمرة لتخفيف المعاناة الإنسانية داخل غزة، وافتتح المخيم في وقت مهم جداً، إذ تمنع إسرائيل دخول مستلزمات الإيواء لغزة".
غزة تفقد الإيواء
تزامن تدشين المخيم المصري الكبير مع التحذير الذي أطلقه المتحدث باسم الدفاع المدني داخل قطاع غزة محمود بصل، وقال فيه "الوضع الإنساني في القطاع كارثي وصعب، مما يهدد حياة المواطنين مع اقتراب فصل الشتاء. الكارثة الإنسانية في القطاع أكبر بكثير مما نتحدث عنه عبر وسائل الإعلام، لا نستطيع التعامل مع المتطلبات الإنسانية في ظل رفض إدخال المساعدات ومستلزمات الإيواء".
أنقذ المخيم المصري الكبير سكان غزة من البرد القارس وأمطار فصل الشتاء. ويضيف منصور "يشمل الإيواء البنية التحتية من شبكة مياه وشبكة صرف صحي ومراحيض، وخدمات إغاثية شاملة، ومخابز لتأمين الخبز اليومي".
ويضم أيضاً التكيات لتوزيع الوجبات الساخنة على أهالي القطاع، والخدمات الطبية لخدمة المرضى والمصابين والحالات الإنسانية، ومدرسة ومناطق لقضاء أوقات الفراغ. ويوضح منصور أن مصر فعلت ذلك رفضاً لاستخدام إسرائيل التجويع كسياسة للعقاب الجماعي، وتطبيقاً للتعافي المبكر وإعادة الإعمار في القطاع وفقاً للخطة العربية الإسلامية.
وفق معايير السلامة
بحسب منصور، فإن المخيم يعد رسالة للعالم بأن الأولوية القصوى للنازحين من منطقة الشمال بعد إجلائهم في ظل ظروف شديدة القسوة هو تقديم يد المساعدة لهم، مشيراً إلى أن هذه الخطوة الميدانية تعبر عن حجم الالتزام المصري بدعم الشعب الفلسطيني، ضمن خطة شاملة لإقامة مخيمات جديدة شمال وجنوب القطاع، بما يضمن توفير بيئة آمنة للنازحين وتسهيل وصول المساعدات الإنسانية إليهم.
المخيم الأكبر في تاريخ القطاع صمم وفق معايير دولية لضمان الأمن والسلامة، مع مراعاة التوزيع الجغرافي والخدمات الأساس لكل منطقة داخل المخيم، وفيه يُتاح تسهيل الحركة ووصول المساعدات بصورة منظمة وسريعة، مما يعكس إدارة مصرية احترافية في التعامل مع الأزمات الكبرى.
رسالة سياسية
يلفت منصور إلى أن الإيواء يحمل في طياته اعتبارات سياسية، فبينما تتواصل خروقات اتفاق وقف إطلاق النار داخل غزة، تواصل القاهرة العمل بهدوء وفاعلية على الأرض لتأمين حاجات آلاف العائلات المنكوبة.
يحمل المخيم الذي أقيم على أنقاض نتساريم رمزية سياسية عميقة، كونها كانت لفترة قريبة مركزاً للجيش الإسرائيلي الذي كان يخطط لتهجير الغزيين من أرضهم، لكن اليوم تحول إلى رمز للتضامن العربي والإغاثة الإنسانية المصرية.
يؤكد منصور أن البعد الإنساني والسياسي للقضية الفلسطينية جزء لا يتجزأ من الأمن القومي المصري، وأن القاهرة لن تتخلى عن دورها في دعم الشعب الفلسطيني، سواء عبر المفاوضات أو في الميدان.
هذا المخيم ليس الأول للجنة المصرية، إذ وصل عدد المخيمات التي أنشأتها في قطاع غزة إلى نحو 16 مخيماً موزعة على جنوب ووسط وشمال القطاع، فيما بلغ عدد العائلات التي ستُسكَّن داخل هذه المخيمات 100 ألف أسرة فلسطينية.
يقول منتصر الذي انتقل للعيش في المخيم المصري إنه "مجهز بالكامل، به شبكات تهوية وبئر مياه ومياه للشرب، أعتقد يضمن الكرامة الإنسانية للغزيين ولا يسبب لهم إحراجاً من حاجتهم للمساعدات، وفيه تضامن أخلاقي يحفظ للغزي حقوقه".
ما يعجب سهير في مخيم الإيواء أنه يضم مدرسة ونقاطاً طبية تؤهل المصابين في الحرب وتوفر لهم علاجات مناسبة في ظل انهيار الوضع الصحي. وتقول "أطفالي انقطعوا عن التعليم لأعوام طويلة، باتوا لا يفقهون القراءة والكتابة والحساب، اليوم يضعون طريقهم على مستقبل أفضل يمكنهم من التعليم والرعاية الصحية".