Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

كيف حاول ديك تشيني تغيير وجه أميركا؟

 إرثه الكارثي في العراق طغى على مشروعه الحقيقي لتوسيع صلاحيات الرئيس

ديك تشيني (رويترز)

ملخص

من وراء ستار الهدوء الذي اتسم به كان تشيني يحكم بقلمه لا لسانه، وبأساليبه الملتوية لا المباشرة، وبالتكتم لا الظهور الإعلامي، وكان هدفه الأول توسيع السلطات الرئاسية التي تقلّصت نتيجة لضغوط الكونغرس بعد حرب فيتنام وفضيحة ووترغيت.

لم يكن ديك تشيني رجلاً عابراً على دوائر صنع القرار الأميركي، فرحلته من متدرب صغير في الكونغرس إلى نائب رئيس بسلطات رئيس تخللتها قرارات انقسمت أميركا بسببها. في عين محبيه هو "رجل وطني" نجح في الإشراف على حرب تحرير الكويت 1991، في أعين كارهيه تتجلى صورة "مجرم الحرب" الذي أسهم في قلب موازين الشرق الأوسط عبر غزو العراق 2003.

الوصي على العرش

بين الصورتين المتضادتين أغفل كثر البصمة الحقيقية التي أراد ديك تشيني تركها، وهي مشروعه الحقيقي لتوسيع السلطة الرئاسية، الذي تقول مجلة "تايم" إنه يتسق مع مشروع دونالد ترمب، لكن المفارقة أن تشيني لم يكن يوماً متحمساً لترمب، فقد اعتبره نقيضاً لنموذج القائد المحافظ الذي يولي الأولوية لوطنه لا ذاته المتضخمة.

بعد العمل مع أربعة رؤساء من نيكسون إلى بوش الابن، عُرف تشيني قبل رحيله في الثالث من نوفمبر (تشرين الثاني) 2025 بأنه نائب الرئيس الأكثر نفوذاً في تاريخ في الولايات المتحدة، ووصف بأنه "الوصي على العرش"، أي رجل الظل الذي يملك القوة الحقيقية وراء جورج دبليو بوش.

 

ربما لن نصل إلى الحقيقة الكاملة حول الآمر الفعلي بالقرار الحاسم بإسقاط أي طائرة مدنية غير مستجيبة في الـ11 من سبتمبر (أيلول)، لكن المشهد التمثيلي في فيلم "فايس" عن حياة تشيني ومغامراته السياسية يعطينا لمحة جيدة على طريقة تفكيره.

بينما كان الرئيس خارج واشنطن وبرج التجارة العالمي في نيويورك يحترق، كان تشيني في البيت الأبيض يراقب التطورات من كثب، وآخرها البلاغ باتجاه طائرة رابعة نحو واشنطن ولم يصلهم فوراً خبر سقوطها في بنسلفانيا. عندما تبيّن أن تنظيم "القاعدة" يتعمد الاصطدام بالمباني باستخدام الطائرات، أصدر تشيني على الفور أمراً للجيش بإسقاط أي طائرة غير مستجيبة، وهو تفويض لا يملكه إلا الرئيس، فبرر لمن حوله قائلاً إنه استشار بوش قبل إصدار الأمر، وقال بوش نفسه إنه وافق على القرار، غير أن تقرير لجنة التحقيق بأحداث الـ11 من سبتمبر شكك بهذا الادعاء.

في المشهد التمثيلي الذي يستعيد قرار نائب الرئيس، يقول الراوي إن الجميع في تلك اللحظة كان يرى الهلع والارتباك وحالة اللايقين التي تسيطر على البلاد، إلا تشيني، فقد أدرك ما لم يدركه الآخرون بقدرته على تجاهل الضوضاء المربكة، لقد رأى تشيني فرصة لتعزيز سلطته، رأى الفرصة واتخذ القرارات المؤثرة في حياة الملايين مثل شبح خفي.

الآمر الناهي بصمت

من وراء ستار الهدوء الذي اتسم به كان تشيني يحكم بقلمه لا لسانه، وبأساليبه الملتوية لا المباشرة، وبالتكتم لا الظهور الإعلامي. بحكم تواضع شعبيته لم يكن تشيني دائماً المرشح الأول لمنصب نائب الرئيس، بل إن بوش كلفه بالبحث عن مرشح في حملته الانتخابية عام 2000.

تبنى تشيني آنذاك خطة لإجبار المرشحين المحتملين على الكشف عن أسرارهم الأكثر حساسية على أمل الحصول على منصب نائب الرئيس، وفي إحدى الحالات استخدم تشيني هذه المعلومات ضد أحد المرشحين لترجيح كفته، وفق ما يرويه بارتون جيلمان في كتابه Angler.

بعد تكليفه مهمة الإشراف على الحرب على الإرهاب استغل نائب الرئيس الأميركي الأجهزة الحكومية لإبراز المعلومات الاستخباراتية التي تدعم حجة إطاحة صدام حسين، على رغم أن العراق لم يلعب أي دور في هجمات الـ11 من سبتمبر، وكان تشيني نائب الرئيس الوحيد الذي يطلع على التقرير الأمني اليومي قبل الرئيس نفسه.

قال جاك غولدسميث، الذي تولى رئاسة مكتب المستشار القانوني بوزارة العدل واكتشف برامج التعذيب والتنصت السرية التي وضعها نائب الرئيس، إن "تشيني كان يؤمن إيماناً واسعاً بقوة السلطة التنفيذية"، وقال بنفسه أمام المحكمة العليا إن الكونغرس والقضاء لا يملكان الحق في مطالبة السلطة التنفيذية بالمعلومات، فالرئيس ببساطة فوق الرقابة.

وبعد هجمات الـ11 من سبتمبر دفع تشيني وكالة الاستخبارات المركزية إلى استخدام التعذيب في التحقيق، وسمح لوكالة الأمن القومي بمراقبة اتصالات الأميركيين. وكان أحد مهندسي غزو العراق الذي خلف تداعيات عميقة في ميزان القوى في المنطقة لمصلحة إيران، فيما لم يتم القضاء على الإرهاب بالكامل لا في العراق ولا أفغانستان.

توسيع صلاحيات الرئاسة

في ديسمبر (كانون الأول) 2005، وبعد أكثر من عامين من غزو العراق، قال تشيني للصحافيين "نعم، أعتقد أن السلطة الرئاسية تآكلت على مر الأعوام"، واعتبر أن قانون صلاحيات الحرب لعام 1973 الذي يلزم الرئيس بإبلاغ الكونغرس قبل إرسال القوات إلى الحرب "يمثل تعدياً على سلطة الرئيس".

الخلاصة التي توصل لها تشيني هي أن الكونغرس استغل ضعف الرئاسة بعد حرب فيتنام وفضيحة ووترغيت لتقويض صلاحيات الرئيس، وكان من الضروري الانقلاب على هذا المسار، وفقاً لرواية تيموثي نافتالي الذي أجرى مقابلة مع تشيني عام 2007، ضمن مشروع تاريخ ريتشارد نيكسون الشفوي.

المفارقة أن خصمه ترمب استخدم الحجة نفسها لتبرير إجراءات إدارته في استهداف قوارب نقل المخدرات في مياه الكاريبي والمحيط الهادئ، وتلويحه بتوجيه ضربة عسكرية لفنزويلا، من دون استشارة الكونغرس، وهي إجراءات يرى البعض أنها لم تكن لتحدث لولا جهود تشيني في تمهيد الطريق لها.

أصبح إدراك الرؤساء لصعوبة تمرير سياساتهم واتخاذ القرارات الحاسمة دلالة على إحدى السمات المميزة للديمقراطية الأميركية وهي حدود سلطة الرئيس، لكن البعض يحذر من أنها قد تؤدي إلى أزمة دستورية إذا اختل التوازن بين السلطات الثلاث، التنفيذية والتشريعية والقضائية.

عندما سعى أوباما إلى الترشح للرئاسة أطلق وعداً بطي صفحة بوش، عبر تقليص السلطات الرئاسية المتوسعة على وقع عمليات التعذيب لاستخراج المعلومات والرقابة غير القانونية على الأميركيين، لكن منتقدي أوباما يرون أن الرئيس الديمقراطي لم يخلف وعده فحسب، بل سعى إلى توسيع صلاحياته، وأبدى امتعاضه من اللامركزية الحكومية التي تضيق المساحة التي يتحرك فيها الرئيس لتنفيذ سياساته.

 اعترف أوباما نفسه الذي حاول توسيع سلطته التنفيذية بحدود منصب الرئيس التي تلزمه ببناء التحالفات وإقناع الحزبين لتمرير سياساته، والتي جعلت إدارته عرضة للدعاوى القضائية وضغوط اللوبيات، ووكالات اتحادية لا يمكنه إملاء الأوامر عليها، وغيرها من العقبات.

عبر هاري ترومان عن حدود السلطة، قائلاً "أجلس هنا طوال اليوم محاولاً إقناع الناس بفعل الأمور التي يجب أن يكون لديهم الإدراك الكافي للقيام بها من دون أن أقنعهم، هذه كل صلاحيات الرئيس"، وقال بوش الابن "لو كانت ديكتاتورية لكان الأمر أسهل بكثير"، المفارقة أن تشيني وأوباما وترمب كلهم عبروا عن اتفاقهم مع هذا الاعتقاد، لكن بطرق مختلفة.

معضلة القائد الاستثنائي

شهد تشيني قبل وفاته خطر ومعضلة توسيع السلطة التنفيذية، وكان هجوم السادس من يناير (كانون الثاني) على الكابيتول بعد رفض ترمب نتيجة الانتخابات نقطة التحول الجوهرية في فكر تشيني، فقد انضم إلى ابنته ليز في الكونغرس لمواجهة تيار ترمب داخل الحزب الجمهوري وأعلن دعمه لكامالا هاريس، قائلاً إن ترمب لا يمكن الوثوق به في السلطة، واعتبره التهديد الأكبر للولايات المتحدة على مدى تاريخها الممتد لـ248 عاماً.

توصل هنري كيسنجر إلى أن توسيع صلاحيات الرئاسة والمركزية الحكومية قد تقود إلى عواقب وخيمة، كما حدث في ألمانيا بعد رحيل موحدها أوتو فون بسمارك، الذي استطاع بذكاء تركيز السلطة بيده لتحقيق مصالح بلاده العليا، لكنه في النهاية بنى نظاماً سياسياً غير قابل للنجاح إلا بوجود قادة استثنائيين بعبقرية بسمارك نفسه.

كتب كيسنجر في تأملاته لإرث المستشار الألماني "كانت مأساة بسمارك أنه ترك إرثاً لم تستطع ألمانيا استيعاب عظمته بعد رحيله. على مدى ما يقارب الـ20 عاماً حافظ بسمارك على السلام وخفف من حدة التوترات الدولية بفضل اعتداله ومرونته، لكنه دفع ثمن عظمته التي أسيء فهمها، إذ لم يستطع خلفاؤه أن يستخلصوا من تجربته درساً أفضل من التسلح المفرط وخوض حرب أدت إلى انتحار الحضارة الأوروبية."

ربما أدرك تشيني متأخراً ما أدركه من قبله الآباء المؤسسون، وهو أن الأمم لا تلد دوماً قادة استثنائيين، ولهذا كان لا بد من تقييد صلاحيات الرئيس، والأخذ في الاعتبار توازن السلطات، وإنشاء مؤسسات يمكن أن تدار بأداء متوسط، وكما قال المؤرخ تيموثي نفتالي "كان ديك تشيني من أنصار الرئاسة القوية، ولسوء حظه عاش ليرى الجانب المظلم من هذه السياسة، حين يستخدم شخص المنصب لتحقيق مصالحه الشخصية لا الوطنية".

المزيد من تقارير