ملخص
لا شك في أن منطقة الشرق الأوسط بانتظار تطورات مصيرية خلال هذا الشهر، وقد يكون موعد انعقاد جلسة مجلس حكام الوكالة الدولية للطاقة الذرية بين الـ 19 والـ21 من نوفمبر (تشرين الثاني) الجاري تاريخاً مفصلياً بناء على ما سيصدر عنه وكيف ستتعامل طهران مع نتائجه، وبالتالي فقد يسرّع في حسم خيارات واشنطن إما بالذهاب إلى التفاوض أو حرب قد تعيد تشكيل المعادلات الجيوسياسية في المنطقة.
"الإيراني يذبح خصمه أو غريمه وحتى صديقه بقطعة قطن"، هذه المقولة لم تعد مقتصرة على السلوكيات الاجتماعية للفرد أو الإيراني، بل انتقلت إلى السلوكيات السياسية والدبلوماسية وحتى الأمنية والعسكرية، وتحولت إلى قاعدة تحكم قرارات السلطة بكل مستوياتها، مما جعلها تقترب من أن تكون قاعدة تحكم هذه السلوكيات، بخاصة في التعامل مع تداعيات الضربة الأميركية لمنشآتها النووية، والشروط التي وضعتها واشنطن من أجل العودة لطاولة التفاوض.
وإذا ما كان السلوك الإيراني الذي يعتمد على المماطلة وطول النفس والرهان على الوقت لإحداث أو حصول متغيرات قد تساعد في تخفيف حدة الضغوط والتهديدات التي تتعرض لها، فإنها تبدو كمن يمارس لعبة "الروليت الروسية"، لأن الرهان على الوقت قد ينتهي ويأتي دور الطلقة الوحيدة في المسدس لتنطلق باتجاه الرأس.
في مقابل هذا السلوك الذي تسميه طهران وقياداتها بأنه "صبر إستراتيجي"، هناك على الجهة الأخرى من الحلبة أو طاولة القمار طرف آخر تحكمه عقلية "راعي البقر" (الكاوبوي) الذي لا يملك كثيراً من الوقت، ويريد إنجاز المهمة بأسرع وقت لينتقل إلى غيرها، ولذلك فهو لا يتردد في اللجوء لاستخدام التحايل والتضليل، وتوظيف كل الوسائل من أجل الوصول إلى هدفه، في الوقت نفسه الذي يشهر مسدسه الجاهز للاستخدام دائماً، وأن يصوّب على خصمه لفرض إرادته ووجهت نظره والتخلص من مصدر التهديد أو الإزعاج.
التطورات التي تشهدها العلاقة الأميركية - الإيرانية ولعبة الشد التي يمارسها الطرفان من خلال الشروط والشروط المقابلة، يبدو أنها وصلت إلى نقطة حرجة لم تعد تنفع معها سياسة "القطنة" الإيرانية التي تعلن دائماً أنها على استعداد للحوار والعودة لطاولة التفاوض، على أساس من الندية والاحترام والاعتراف بحقوقها النووية، وإخراج موضوع قدراتها الصاروخية عن جدول أية مفاوضات، بما يساعد في الوصول إلى تفاهم واسع وشامل يؤسس لمرحلة جديدة في المنطقة.
وعلى رغم تمسك رجل "الكاوبوي" بشروطه وسقف مطالبه المرتفع لكن طهران كشفت عن تلقيها رسائل من الإدارة الأميركية في واشنطن من أجل العودة لطاولة التفاوض واستئناف الحوار الثنائي المباشر، وأن الوسيط العُماني تولى هذه المهمة ويعمل من أجل تحقيق خرق إيجابي في الجمود القائم، لكن ذلك لم يمنع الإدارة الأميركية من استبعاد أو إسقاط خيار المسدس أو العمل العسكري ضد إيران بالدرجة الأولى، في حال لم تبادر طهران بالتجاوب مع هذه الإشارات، وما الاتصال الذي أجراه وزير الحرب الأميركي بيت هيغسيث بوزير الدفاع العراقي ثابت العباسي، وتضمن تحذيراً واضحاً ومباشراً لحكومة بغداد بأن العراق سيتعرض لهجمات أميركية ضد مواقع لبعض الفصائل في حال تدخل لإسناد طرف مجاور قد يتعرض لهجوم أميركي، وهو موقف تبعته زيارة غير مجدولة المساعد السياسي لوزير الخارجية الإيرانية مجيد تخت روانتشي إلى مسقط، للتشاور مع الوسيط العُماني حول صيغة وسطية تسهل عملية العودة لطاولة التفاوض.
ومن المفترض أن طهران تدرك أن العودة لطاولة التفاوض لن تكون بالسهولة التي كانت عليها في السابق قبل هجوم يونيو (حزيران) الماضي وتدمير منشآتها النووية، وأن عليها التعامل والتعاون بإيجابية مع ما قد يطرحه الوسيط العُماني أو أي وسيط آخر، ولذلك فمن المرجح أن تكون الرسالة الإيرانية التي حملها تخت روانتشي إلى مسقط تتضمن الحديث عن استعداد طهران لتقديم تنازلات في الموضوع النووي في مقابل إخراج القدرات الصاروخية من التداول، عبر الكشف عن المقترح الروسي والقبول به لما يشكله من مخرج لمصادر القلق الأميركية المرتبطة بمخزون اليورانيوم المخصب بدرجة 60 في المئة، إذ تتولى موسكو مهمة نقله إلى أراضيها وعملية تخفيفه وتحويله إلى يورانيوم للوقود النووي بدرجة تخصيب 3.67 في المئة، وأن يجري الاتفاق على تعليق أنشطة تخصيب اليورانيوم خلال المدة الزمنية التي تستدعيها إعادة بناء المنشآت التي تدمرت تحت إشراف "الوكالة الدولية للطاقة الذرية"، وبشروط "معاهدة الحد من انتشار أسلحة الدمار الشامل."
أما المسائل الإقليمية فمن المتوقع أن تأخذ مساراً منفصلاً عن المسار النووي لكنها قد تتداخل مع المسار الصاروخي، وأن الرهان في التفاوض حول هذين المسارين قد ينتهي إلى الصيغة التي طرحها وزير الخارجية العُمانية بدر البوسعيدي أمام "منتدى المنامة للحوار الإستراتيجي" قبل أسبوع، والذي دعا فيه الدول العربية والإقليمية والدولية إلى إنهاء العزلة المفروضة على إيران ودمجها في الإقليم من خلال الربط الاقتصادي والتجاري، وأيضاً من خلال إنشاء نظام أمن إقليمي تكون شريكة فيه إضافة إلى العراق واليمن، مما يساعد في إحداث تغيير في سلوكياتها، وألا ينظر إليها باعتبارها تهديداً لأمن واستقرار المنطقة ودولها.
وعلى رغم كل هذه المؤشرات فإن القيادة الإيرانية تعاملت مع التحذير الأميركي لفصائل "الحشد الشعبي"، حليفها العراقي، بكثير من الجدية، وأن المقصود بالطرف المجاور للعراق هو إيران، ولذلك بدأت سلسلة من التحركات العسكرية والمناورات المحددة ورفعت جاهزية قواتها ودفاعاتها إلى أعلى درجاتها، معلنة استعدادها للتصدي لأي هجوم قد يحصل.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وقد بنت طهران فرضيتها بأنها هي المستهدف انطلاقاً من أنه لا حاجة لواشنطن إلى أن توجه تحذيراً مباشراً للعراق إذا ما كان المستهدف لبنان، مع عدم إسقاط احتمال أن يتعرض لهجوم جديد بالتزامن مع الهجوم عليها من أجل إلهائه ومنعه من مساندة طهران، بخاصة في ظل ما تملكه إسرائيل بالتنسيق مع واشنطن من حرية العمل العسكري ضد "حزب الله" هناك، وكذلك فإن استهداف اليمن لا يستدعي أيضاً مثل هذه الخطوة، بخاصة أن واشنطن وتل أبيب سبق لهما أن هاجمتا اليمن ولم يتدخل أي طرف في المحور الإيراني.
وفي وقت تسعى القيادة الإيرانية، وتحديداً المرشد الأعلى، إلى عدم عرقلة أي مسار قد يساعد في إعادة إحياء المسار التفاوضي، من دون التخلي عن السقوف العالية لمواقفهم التي تؤكد عدم وجود ثقة بالمفاوض الأميركي وأهدافه، فإنها تراقب بدقة التحركات الأميركية العسكرية على كل المحاور، وتحديداً ما يشهده البحر الكاريبي وتشديد الحصار العسكري حول حكومة الرئيس نيكولاس مادورو في فنزويلا، حليفتها في أميركا الجنوبية، وتقرأ هذه الاستعدادات باعتبارها عملية تضليل تقوم بها واشنطن من خلال تركيز الاهتمام في قرب الهجوم على كراكاس، وتقوم بتوجيه الضربة في مكان آخر وهو إيران.
لا شك في أن منطقة الشرق الأوسط بانتظار تطورات مصيرية خلال هذا الشهر، وقد يكون موعد انعقاد جلسة مجلس حكام الوكالة الدولية للطاقة الذرية بين الـ 19 والـ 21 من نوفمبر (تشرين الثاني) الجاري تاريخاً مفصلياً، بناء على ما سيصدر عنه وكيف ستتعامل طهران مع نتائجه، وبالتالي فقد يسرّع من حسم خيارات واشنطن إما بالذهاب إلى التفاوض أو الذهاب إلى حرب قد تعيد تشكيل المعادلات الجيوسياسية في المنطقة، وعندها قد لا تكون "القطنة" الإيرانية ذات جدوى أمام مسدس راعي البقر "الكاوبوي"، ما لم تحصل مفاجآت دراماتيكية تبعد المنطقة من الكأس المرّة، وتنقلها إلى تسوية شاملة تضعها على بداية طريق التهدئة والتفاهم والتعاون الإيجابي.