ملخص
أوضحت وزارة التربية والتعليم في تونس أنها تهدف إلى تحسين جودة التعليم والتعلم من خلال تنمية كفاءة التلميذ في حل المشكلات وتوظيف المعارف المكتسبة، وتطوير قدراته على التعلم الذاتي والعمل الجماعي بما يعزز استقلاليته وروح المبادرة لديه.
أصدرت وزارة التربية والتعليم في تونس بلاغاً جديداً دعت فيه إلى ضرورة إنجاز الأنشطة التطبيقية داخل الفضاء المدرسي ومنع الاعتماد على المشاريع الجاهزة، وأكدت الوزارة أهمية توظيف مشاريع تربوية مرتبطة بواقع المدرسة تستفيد من التكنولوجيا الحديثة والوسائط الرقمية، موضحة أن هذا التوجه يهدف إلى تحسين جودة التعليم والتعلم من خلال تنمية كفاءة التلميذ في حل المشكلات وتوظيف المعارف المكتسبة وتطوير قدراته على التعلم الذاتي، والعمل الجماعي بما يعزز استقلاليته وروح المبادرة لديه.
وأثار القرار موجة من الجدل، إذ يراه بعضهم محاولة لإصلاح التعليم وجعله أكثر ارتباطاً بالعصر الرقمي، في حين يراه بعضهم الآخر إجراء يصعب تطبيقه في ظل ضعف التجهيزات التقنية وضعف البنية التحتية في المؤسسات التربوية.
وزير التربية التونسي نور الدين النوري قال "نتقدم نحو مشهد تربوي جديد"، وذلك بعد توجيه الوزارة المعلمين بالتخلي عن طرق التعليم التقليدية في عدد من المواد، ومنها التربية التكنولوجية، وضرورة الاعتماد على المختبرات.
الفجوة الرقمية والواقع المدرسي
ويرى رئيس "الجمعية التونسية لجودة التعليم" سليم قاسم أنه "منذ أعوام ظل ملف إصلاح المنظومة التربوية في تونس يراوح مكانه بين لجان واستشارات ووعود معلقة، وأخيراً بدأت وزارة التربية تحرك بعض الملفات العالقة، بدءاً من التعليم الابتدائي، وهو ما يعد في حد ذاته مؤشراً إيجابياً طال انتظاره، إذ لا يمكن لأي إصلاح تربوي شامل أن ينجح من دون أن ينطلق من هذه المرحلة التأسيسية التي تُنحت فيها اللبنات الأولى لشخصية المتعلم".
ويواصل قاسم حديثه قائلاً إن "هذه الخطوة وعلى رغم وجاهتها من حيث المبدأ، تستدعي بعض الملاحظات الجوهرية"، موضحاً أن "المشاريع اليدوية التي ينجزها الطفل خلال المرحلة الابتدائية هي عنصر أساس في نموه الحسي الحركي، وبناء قدراته الذهنية والمنطقية، وتمثل الجسر الضروري الذي يمكّنه لاحقاً من الانتقال إلى التفكير التجريدي، وبالتالي فإن إلغاءها من دون ضمان بديل فعلي داخل المدرسة يحرم الطفل تجربة تربوية لا غنى عنها"، مضيفاً أنه "إذا كان الهدف من التخلي عن الأنشطة المنزلية الحد من تدخل الأولياء أو شراء المشاريع الجاهزة، فإن البديل لا يجب أن يكون المنع بل توفير شروط التنفيذ داخل المدرسة، وهذا يتطلب إجراءات ضرورية منها تخصيص حيز زمني مناسب داخل جداول الأوقات لمثل هذه الأنشطة، وتوفير الإمكانات اللوجستية مثل فضاءات العمل وأدوات ومواد أولية بسيطة".
وشدد قاسم على أهمية "تكوين المعلمين وتأهيلهم لمرافقة هذه المشاريع على نحو فعال ومثمر، وضمان مرافقة بيداغوجية مستمرة من المتفقدين"، مؤكداً أنه "من دون هذه المتطلبات فربما تتحول الإجراءات الجديدة إلى عبء إضافي يرهق المربين بدلاً من أن يصلح الأداء التربوي".
ويرى رئيس "جمعية جودة التعليم" أنه "من الإيجابي أن تتجه الوزارة نحو إدماج التكنولوجيات الحديثة في التعليم الابتدائي، فالمهارات الرقمية باتت من المقومات الأساس لمواطنة المستقبل"، لكن الخطأ الكبير، حسب سليم قاسم، هو أن "تقدم هذه الأدوات كبديل للأنشطة اليدوية أو الحسية".
ونوه قاسم بأن "الطفل يحتاج إلى أن يلمس ويجرب ويصنع بيديه قبل أن يتعامل مع العالم الافتراضي"، مضيفاً أن "الاقتصار على الوسائط الرقمية يهدد بخلق أجيال منقطعة عن واقعها وأسيرة للشاشات، وعاجزة عن تحويل الفكرة إلى فعل والخيال إلى منجز ملموس".
نحو إصلاح منظومي شمولي
وبحسب سليم قاسم فإن "واقع المدارس الابتدائية في تونس لا يساعد في تطبيق مقاربة رقمية متكاملة، فالبنية التحتية الرقمية هشة وعدد الحواسيب في مدارسنا محدود، والربط بالإنترنت ليس في أفضل حالاته، وحتى إن توافرت المعدات فإن غياب رؤية وطنية شاملة لإدماج تكنولوجيا المعلومات وتكوين المربين على الاستخدام التربوي الفعلي يجعلان من هذه الأدوات مجرد واجهة شكلية، بدلاً من أن تكون رافعة تعليمية حقيقية".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
والأهم من كل ذلك، وفق رئيس "جمعية جودة التعليم"، هو "ألا نغفل الصورة الكبرى، إذ إن إصلاح التعليم الابتدائي لا يمكن أن يؤتي ثماره إلا في إطار إصلاح تربوي منظومي يربط بين المراحل الدراسية، ويستند إلى رؤية استشرافية واضحة لملامح الإنسان التونسي الذي نريد أن نعده للمستقبل، إنسان قادر على الفعل والإبداع والمشاركة في بناء مجتمع المعرفة".
وحول رؤيته لخطوات الإصلاح الحقيقي قال قاسم إنه "لا يتحقق عبر قرارات جزئية أو توجيهات مرحلية بل عبر عمل منهجي وتشاركي مستمر، يشمل السياسات والمناهج والتكوين والحوكمة والموارد والبنى التحتية، لأن التربية ليست مجالاً للتجريب السريع بل مشروعاً وطنياً طويل المدى والنفس، يهدف في المقام الأول إلى بناء الإنسان والإسهام في استئناف مسيرتنا الحضارية بكل ثقة وعزم ونجاح".
بدورها أفادت المديرة العامة للمرحلة الابتدائية في وزارة التربية نادية العياري بأنه "لم يجر تغيير المضامين التعليمية لمادة التربية التكنولوجية، بل عملنا على تطوير الممارسات البيداغوجية المتعلقة بهذه المادة"، مشددة على أن "الأنشطة كافة ستظل كما هي، لكن ستكون داخل الفضاء المدرسي من دون الاعتماد على المشاريع الجاهزة ومسبقة الصنع، على غرار المنسج وزرع الفولة".
وقالت العياري في تصريح إعلامي إن "إطار الإشراف البيداغوجي أعد وثيقة توجيهية تساعد المدرس في تدريس مادة التربية التكنولوجية بطريقة تتلاءم مع السياق العام"، مشيرة إلى أن "المذكرة التي جرى إصدارها تتضمن جملة من الإجراءات تتعلق بهذه المادة التي أصبحت مهمشة، باعتبار أن جميع الأنشطة يجري إنجازها من قبل الولي وليس التلميذ".
ضرورة حتمية وليست اختياراً
من جانبه يرى الخبير في سياسات التعليم والأمين العام للـ "منظمة العربية للأسرة والتنمية الاجتماعية" عامر الجريدي في تصريح خاص أن "مواكبة التحولات الرقمية وغيرها ضرورة حتمية وليست اختياراً مهما كانت الإمكانات"، موضحاً أن "تغيير الأوضاع يمر عبر رؤى وأهداف مجتمعية تبنيها الدولة وترسم على ضوئها السياسات والإستراتيجيات، مع ما يتطلبه ذلك من مقاربة منظومية مركبة وشاملة، وتغيير أنماط التفكير لدى الفاعلين في التعليم"، متابعاً أن "هذا يعني أن ننظر إلى المدرسة والتعليم كرسالة لم تعد حكراً على الدولة والمدرّس، وأن رسالتها أصبحت رهينة لا للمدرّس في أسوار الفصل والمدرسة وحسب، بل أصبح دورها مشتركاً مع الإعلاميين والنشطاء الرقميين في توصيل الرسالة التعليمية، كما يستدعي الأمر أن يغادر أصحاب القرار المقاربات الضيقة التي تركز على كل عنصر من عناصر المنظومة بشكل منفصل".
ويعتقد الجريدي أنه مهما كانت المساعي محمودة ومهما كانت النيات حسنة فإن "التطوير التحويلي للمدرسة، أي للتعليم كله، لا يزال يراوح مكانه بين أنماط فكرية القديمة والرؤى الضيقة التي لا تجدي نفعاً".
أما المدرس مجدي النصيري فعلق قائلاً إن "الإصلاح يحتاج إلى إصلاح جيل كامل ولن يكون وليد قرارات اعتباطية هامشية"، مضيفاً "نحتاج إلى استشارة علماء الاجتماع والمؤرخين والمستشارين القانونين وعلماء النفس، وكذلك النقابات والقاعدة التربوية وغيرهم"، مشيراً إلى أن الإصلاح يجب أن يكون جذرياً ويلامس تفاصيل البرامج والتوقيت والمواد والتنظيم الإداري وتقسيم المهمات والتقييم الدوري، مع ضرورة تحديد ماهية العلاقة بين الأستاذ والتلميذ ضمن الأطر القانونية والإدارية، لأن هذه النقطة أصبحت هاجساً للجميع".
وعلى رغم الإجماع الحاصل على ضرورة إصلاح التعليم في تونس إلا أن أعمال المجلس الأعلى والتعليم لا تزال عالقة ولم تنطلق بعد، مع أنه هيئة دستورية أبرز مهماته وضع السياسات الكبرى لإصلاح المنظومة التعليمية في تونس.