ملخص
طقس "النظرة الحامية"... هو أن تخرج امرأة مسنة وسط الميدان وترفع ثوبها الأبيض في إشارة إلى حرمة الدم، أو تلوح بعصا خشبية، فيتوقف المقاتلون فوراً احتراماً لرمزية الأم الكبرى، إذ يصبح العنف عيباً جماعياً.
خلال فجر يوم لا يُنسى من أيام أغسطس (آب) الماضي، وجدت مريم عبدالغفار نفسها تجثو على قدميها متفادية الوقوع في خندق حفرته قوات "الدعم السريع" خلال حصار المدينة لمنع سكانها من الفرار. تفاجأت مريم وهي امرأة سبعينية، ورد اسمها وشهادتها في تحقيق "الغارديان" عن حصار الفاشر، بخرق اتفاق وقف إطلاق النار الذي استمر منذ يونيو (حزيران) الماضي. كانت الفاشر، عاصمة ولاية شمال دارفور تغرق في حصار عسكري، والحياة اليومية تنهار أمام قصف من طائرات مسيرة وقذائف مدفعية وانقطاع تام للإمدادات. وخلال تلك اللحظة، لم تنتظر "الجدة" مريم أن تدعى للمواجهة، فاختارت الحضور في الخط الأمامي. عندما اندلعت طلقة قرب منزلها ورأت شاحنات الـ"بيك أب" التابعة للقوات تتوافد باتجاه حيها، لم تر خياراً سوى أن تشد بندقيتها الكلاشينكوف القديمة، وتصوبها نحو الشاحنات. اختلط صوت طلقتها مع دوي إطلاق النار الكثيف، وحلقت الطائرات المسيرة، وانفجرت البيوت الطينية المجاورة. وهنا، شعرت بعنقها يغدق بالدماء، عندما دفعها القصف نحو الخلف، لكنها لم تتزحزح.
لم تتدخل مريم لأنها كانت مقاتلة بطبعها، بل لأن البقاء في المكان ذاته تحول في ظل انهيار مؤسسات الدولة إلى فعل من العدالة. كانت فقدت ولدين في حرب دارفور السابقة، وفقدت حفيدها في مجزرة الفاشر الأخيرة، فاختارت جسدها حاجزاً لدخان الانفجارات. كانت أكبر المقاتلات سناً في صفوف الدفاع عن النفس، ورفيقاتها يرددن "لم نستطع أن نفقد مريم". في قرية نازحة من ضواحي الفاشر، حيث النساء والفتيات يحملن أدوات بسيطة للطوارئ والمطبخ والمقرات الموقتة، تبوأت مريم موقعها، ليس بوصفها بطلة تاريخية بالمعنى الرومانسي، بل بوصفها امرأة مثقوبة بالحرب، صلبة وحاضرة في العنف وفي الحياة. ولحظة التلقي التي ارتبطت بها جوار الخندق، مع بندقيتها، في لحظة تهدئة بين دفعات القذائف، أصبحت رمزاً للاحتضان المجتمعي للمقاومة المحلية، التي تبدأ من زاوية الحي ومن مسارب الجدران ومن مطبخ حول إلى مركز توزيع، ومن امرأة عجوز تحولت إلى وجه لا ينسى في دفاع المدينة.
تحرك غريزي
في أواخر أكتوبر (تشرين الأول) الماضي لم يعد هناك من يحمي أحداً، سوى تحرك غريزي عاد للحياة في المدينة، النساء الجدات والممرضات والناجيات استعدن دور "الحماية" بمعناه العميق، كما في ثقافة دارفور القديمة، حيث كانت النساء يتدخلن لوقف القتال. في الفاشر، الحماية لم تعد تقاس بالقدرة على الردع، بل بالقدرة على البقاء حياً. بهذا المعنى، تحولت الحماية من فعل سياسي إلى فعل وجودي.
داخل المدينة المحاصرة، حيث يعد الحصار المؤلم امتداداً لمسار من الصراعات القائمة منذ اندلاع الحرب خلال أبريل (نيسان) 2023 والمجازر التي شهدتها دارفور قبل عقدين، برزت قصص إنسانية تشكل لوحة رمزية عن بعث واستيقاظ عنصر الدفاع عن النفس والمجتمع. شهدت مريم عبدالغفار ما فعلته الحرب، التي وقعت قبل عقدين من الزمن والتي أودت بحياة 300 ألف من المدنيين. وشهدت احتشاد الناجين من الحرب الحالية ونزوحهم نحو الفاشر طلباً للحماية، عندما اجتاحت "الدعم السريع" ولايات دارفور الأخرى وسقطت واحدة تلو الأخرى في يدها. عندما اندلعت الحرب، تطوعت هذه السيدة السبعينية لإعداد "الكسرة" للنازحين، ولكن سرعان ما نفدت إمدادات الطعام تماماً.
قالت مريم "كل الرجال اختفوا، فبقينا نحن نطعم ونحرس وندفن. لم يكن أحد يقول لنا ماذا نفعل". كانت تقول لمجموعة تلتف حولها لتبادل الطعام والأخبار "لن نترك المكان، فالأرض تعرفنا". شيئاً فشيئاً تحولت الجدة إلى رمز حي في مدينة لم يبق فيها من الرموز سوى الذاكرة، وصار حضورها أشبه ببديل رمزي عن "الدولة الحامية" التي غابت. حين قالت "كنت أطبخ لهم، ثم دفنتهم، ثم حملت بندقيتهم"، لم تكن تصف مراحل الحزن بل مراحل التحول الاجتماعي ذاته. وهكذا تحولت مريم من طاهية متطوعة إلى جدار رمزي يحمي المدينة الممزقة، لتصبح تجسيداً لمعنى أن تكون المرأة آخر شكل متبق من الدولة.
بطولة يومية
في شوارع الفاشر التي غطاها الرماد، تكررت حكاية مريم بأصوات أخرى، كأن النساء أعدن توزيع أدوار الحماية على إيقاع الخراب. سارة بخيت، وهي أم فقدت زوجها، تدير مطبخاً ميدانياً وسط انقطاع الوقود والكهرباء، تقول "كل وجبة أنقذت من الجوع كانت معركة صغيرة انتصرت فيها"، لتصبح البطولة اليومية غير المرئية امتداداً لشجاعة مريم المعلنة. كانت بخيت تقاتل نهاراً وتوزع الطعام ليلاً، تمثل الجسر بين الجدة والأخريات. فقد حملت سلاحها من قبل خلال حرب دارفور عام 2003 ضد "الجنجويد" لحماية أسرتها، ولكن خلال وقت لاحق، قتلوا زوجها. وذكرت أن أحد مقاتلي "الجنجويد" طعنها ببندقيته في فمها، مما ترك علامة مميزة على وجهها.
أما نوال خليل الممرضة التي أصيبت أثناء اقتحام مستشفى الفاشر فقد حولت المداواة إلى مقاومة هادئة. كانت تجري الإسعافات في ظل انعدام الوقود والدواء، قالت "حين أضمد جرحاً، أرى طفلاً آخر يولد في هذه الأرض"، لتجسد معنى أن تكون الممرضة آخر مؤسسات الدولة بعد سقوطها. ثم تأتي مديحة بشير، التي جردت من ملابسها أثناء الفرار وقتل ابنها أمامها، لتعيد تعريف "الحماية" بصوتها العلني حين روت ما جرى. في شهادتها، أوضحت أن الجسد يصبح نفسه ساحة مقاومة، ويتحول العار إلى شهادة والصمت إلى عدالة. بين مريم وسارة ونوال ومديحة تمتد سلسلة واحدة من النساء اللاتي استعدن عرفاً قديماً من ثقافة دارفور، حماية الجماعة بالواجب الأخلاقي.
وسط هؤلاء، أصبحت حكاية الجدة مريم "المقاتلة" ورفيقاتها رمزاً غير معلن للمقاومة الشعبية النسائية، فلأكثر من 500 يوم حاصرت قوات "الدعم السريع" نحو 260 ألف شخص داخل المدينة. وبينما تعثر التقدم السياسي، كان يقتل من يحاول الفرار ويتضور من تبقى جوعاً، قبل أن تسقط المدينة فعلياً خلال الـ26 من أكتوبر الماضي، في يد "الدعم السريع" وينسحب الجيش.
النظرة الحامية
قالت الباحثة الاجتماعية عفاف الطاهر "إن حضور النساء في ساحة القتال ليس مجرد مشاركة، بل هو جزء من ذاكرة الحرب وامتداد لوظيفتهن التقليدية في الحماية المجتمعية. فحين ثبت أن إرسال الطعام والدواء أصبح عبئاً ثقيلاً، برزت مثل هذه الجدة ورفيقاتها، مع صمتهن وصمودهن، كشبكة أمان بديلة حين انهار كل شيء رسمياً". وأضافت "تشكل النساء في الفاشر خط المواجهة الأخير، ليس لأنهن قاتلات ماهرات، بل لأنهن باقيات في الدائرة نفسها التي تحمي المنزل والحي والأطفال، وتعيد بناء الحياة على رغم المدافع والطائرات المسيرة والجوع، وفي اللحظة التي تنادي فيها العدالة إلى الوقوف يرفعن راية الوجود".
ذكرت الطاهر أن هذا الموقف يختصر فكرة "الحماية عبر البقاء". فمريم ليست محاربة، بل جدار رمزي أمام الفراغ الذي خلقه انسحاب الجيش وانهيار المؤسسات، مما جعل الحماية وظيفة اجتماعية تمارس من القاع.
وأوضحت "في ثقافة وتراث دارفور، لم تكن الحماية يوماً فعلاً عسكرياً خالصاً، بل منظومة أخلاقية تشكلت في نسيج الحياة اليومية، إذ ارتبطت المرأة بالقدرة على صون الجماعة. كانت النساء يُستدعين لوقف القتال القبلي عبر طقس رمزي. عندما تخرج امرأة مسنة وسط الميدان وترفع ثوبها الأبيض في إشارة إلى حرمة الدم، وهو طقس يسمى النظرة الحامية، أو تلوح بعصا خشبية، يتوقف المقاتلون فوراً احتراماً لرمزية الأم الكبرى. هذا الفعل لم يكن دينياً بل عرفياً أخلاقياً، المرأة هنا تمثل حد الحرمة، أي النقطة التي يصبح عندها العنف عيباً جماعياً".
وأوردت الباحثة الاجتماعية "مريم تمثل إعادة تعريف عميقة لوظيفة المرأة في دارفور، من دائرة الرعاية إلى دائرة الدفاع، من صوت الدعاء إلى صوت المواجهة، من الحضور الخافت إلى الوقفة العلنية في وجه العدم. لم تكن بطلة أسطورية بقدر ما كانت استمراراً لعرف قديم يتجلى في جسد متعب قرر أن يقف مكان الجدار المنهار. في غياب السلطة الذكورية وهيمنة السلاح، استعادت المرأة موقعها الأصلي، حارسة للجماعة، بالواجب الأخلاقي". وأضافت "في المجتمعات الدارفورية، هذا المفهوم أقرب إلى عرف روحي تتوارثه النساء كجزء من هوية المكان، حيث تتجسد القوة في القدرة على الحماية ومنع الإيذاء".
ساحة خاوية
قال الصحافي أحمد النور "جذور المقاومة النسوية الحديثة في دارفور تمتد إلى تاريخ طويل من البطولة الأنثوية، إذ لم تكن المرأة غائبة عن ساحة القتال. فخلال الثورة المهدية في القرن الـ19، مثلت رابحة الكنانية نموذجاً مبكراً للمرأة التي تزاوج بين الإيمان والفعل الميداني". وأورد "تنتمي رابحة إلى قبيلة كنانة الموزعة بين كردفان ودارفور، واشتهرت حين قطعت مسافة تفوق الماراثون سيراً على قدميها من دارفور إلى مدينة الأبيض لتحذير الإمام المهدي من مكمن وشيك للقوات التركية - المصرية، فأنقذت آلاف الأرواح. وبعدها، شاركت في معركة شيكان وقدمت دعماً لوجيستياً واستخبارياً، وأسهمت مع أخريات في كشف خطط عن الخرطوم قبيل سقوطها عام 1885". وأضاف "كانت أولئك النساء يستخدمن الحيلة والملاحظة والجرأة في جمع معلومات المهاجمين. هذا الإرث المقاوم لم ينقطع، فقد عاد اليوم في نساء الفاشر اللاتي يحملن مشعل الحماية القديمة بمعناها الجديد. إنهن الوريثات المعاصرات لرابحة الكنانية، يحمين بالرعاية والصمود، وبما تبقى من الإحساس العميق بأن الدفاع عن الحياة ليس امتيازاً للرجال، بل يعد واجباً وجودياً تتكفل به النساء حين ينهار كل ما سواهن".
وتابع الصحافي "مع انهيار أركان الدولة الحديثة في دارفور وسقوط مؤسسات الحماية الذكورية، من جيش وشرطة وإدارة، استعادت النساء هذا الدور القديم لكن بأدوات جديدة، البندقية بدلاً من الثوب والمطبخ الميداني بدلاً من البيت والمعلومة الاستخباراتية بدلاً من التوسل. هذا التراث الأنثوي للحماية لم يكن صورة من صور الضعف، بل صيغة بديلة للسلطة، تستمد مشروعيتها من الواجب الأخلاقي لا من السلاح. فعاد مفهوم الحماية الأنثوي إلى الواجهة، لا كحنين للماضي، بل كاستجابة أخلاقية لفراغ سياسي وأمني ترك فيه الرجال الساحة خاوية".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أمهات المعسكر
خلال ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، ومع انهيار البنى التقليدية وتصاعد الحروب الأهلية، انتقلت المرأة من طقس الحماية إلى فاعلية الوساطة، ومن الأم التي ترفع الثوب إلى الأم التي ترفع الصوت. ظهرت "مجالس الأمهات" في قرى الفور والزغاوة والمساليت كمساحات أخلاقية بديلة عن السلطة، وحاول المجتمع بعث "الحكامة" (الشاعرة الشعبية في دارفور)، التي كانت تلهب الحرب وكانت أيضاً قادرة على أن تطفئها، وذلك لما للشعر الشعبي من مكانة كبيرة في دارفور.
وعن ارتباط ذلك بالخلفية الثقافية، قال الكاتب الفاضل آدم خاطر "كان للأغاني الشعبية التي تصوغها النساء دور في تحقيق التفاهم والترابط المجتمعي في دارفور، والاستجابة لحاجاته من الموروث الثقافي التي لها الأثر في تحقيق التعايش السلمي بين سكان الإقليم". وأضاف "مثلاً ’الهجوري‘ أحد قوالب الغناء المنتشرة في كل ربوع دارفور، مع رقصة مصاحبة. وله أهمية كبرى في المجتمع من خلال تناوله للأحداث ومعالجته لها، وتختلف تسمياته من منطقة إلى أخرى، بين ’البادوه‘ و’المندؤس‘ و’الكشوك‘، وتختلف في السرعة الأدائية. ويؤدى غناء الهجوري من الجنسين فردياً أو جماعياً، مع مصاحبة التصفيق بإيقاع منتظم".
وفي مطلع الألفية، حين اندلعت حرب دارفور الكبرى، أعادت "أمهات المعسكر" تشكيل الدور نفسه بوسائل جديدة، إدارة النزوح وحفظ النظام الاجتماعي وربط مفهوم الأمومة بالعدالة الدولية. لم تكن تلك التحولات تجميلية، بل إعادة إنتاج للسلطة الأخلاقية في مجتمع فقد دولته ولم يفقد ضميره.
وحين اندلعت مجزرة الفاشر، كان ذلك الاختبار الأكبر لهذا التراث الحي. ففي المدينة التي انطفأت فيها الحياة وامتلأت الشوارع بالرماد، لم تختف رمزية المرأة الحامية، بل عادت بقوة فطرية. على رغم أن النساء كُن في صلب الاستهداف، اغتصاباً ونزوحاً وكسراً متعمداً لاستباحة أجسادهن، فإنهن واصلن أداء الدور نفسه الذي ورثنه من ثقافة دارفور، بالدفاع عن الحياة نفسها.
في الفاشر اليوم، يتكرر مشهد دارفور القديمة ولكن بطريقة أكثر مأسوية ووعياً معاً، حين يستلب من النساء معنى الحماية، يخلقنها من جديد. هذه ليست مقاومة عابرة، بل عودة اللاوعي الثقافي في لحظة الانهيار. حين يغيب القانون، تستيقظ الأم الكبرى من رمادها، حاملة الثوب الأبيض والبندقية معاً، لتعلن الحماية.