Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

استعادة سيرة الشاعر الإشكالي نجيب سرور روائيا

صورة شخصية شاملة بين واقع وتخييل في"عابر على جسر"

الشاعر المصري نجيب سرور (علاء رستم - اندبندنت عربية)

ملخص

على رغم مرور ما يقارب 50 عاماً على رحيله، لا يزال الشاعر والمسرحي المصري نجيب سرور لغزاً محيراً. اجتمعت فيه العبقرية والجنون، ولا تزال حياته الصاخبة التي قضاها بين الوطن، والمنفى، والسجن، والمستشفيات، مادة ثرية، كثيراً ما كانت مثاراً للجدل

بينما يرى البعض في نجيب سرور (1932 – 1978) ضحية للسلطة، يراه آخرون ضحية ذاته، في سياق تمردها على الزيف والنفاق الاجتماعي. وربما كان هذا التباين، فضلاً عن حياته الدرامية، محفزات دفعت بكثير من الكتاب لإعادة أحيائه في نصوصهم. وفي روايتها الأحدث "عابر على جسر" (دار روافد - القاهرة)، قررت الكاتبة المصرية عبير درويش إعادة إنتاج سيرة سرور روائياً، مستعيرة صوته، فانطلق سردها بضمير المتكلم في بناء دائري، يبدأ بالنقطة التي ينتهي لديها. وكانت اللحظات التي سبقت رحيله محطة أولى في رحلتها السردية، انتقلت منها باستخدام التذكر والاسترجاع، إلى حياته القصيرة، التي لم تتجاوز أكثر من 46 سنة.

منطقة رمادية

أعلنت الكاتبة عبر تصنيفها النص بالرواية، أنها لن تبرح منطقة رمادية يشتبك فيها الواقع والتخييل، مطالبة قارئها ضمناً بالتلقي الحذر. وربما وافق قرارها رغبة لديها بدفع جرعات من التشويق المعرفي والجمالي عبر النص، وربما اتسق مع غموض وضبابية حياة سرور، وتباين المعلومات والآراء المتداولة في شأنه. فبينما حرصت على استدعاء تاريخه الشخصي، ووثقت عبره فواجعه ومعاناته، عمدت في الوقت عينه إلى إعادة تشكيل هذا التاريخ تحت مظلة التخييل، وتفكيكه من الداخل، على نحو يسمح بترميمه. وهكذا رصدت مولده في قرية "إخطاب"، القريبة من مدينة المنصورة (شمال القاهرة) وحياة الفقر التي عاشها في طفولته في حقبة هيمن عليها الإقطاع.

وتطرقت كذلك إلى موت أمه، وتكرار زواج أبيه بعد رحيلها، وتركه دراسة القانون في السنة النهائية بكلية الحقوق، والتحاقه بمعهد الفنون المسرحية، ومناخ القمع والمنع والمكايد والاعتقالات، الذي عاصره خلال حكم عبدالناصر، ومعاناته في روسيا بعد فصله من بعثته، وتخبطه في المجر وعودته مهزوماً إلى مصر. وعرجت على ما تجرعه بعد عودته من هزائم جديدة، تمثلت في ملاحقته بالفصل والتضييق، وما لاقاه من خيانة الأقرباء وخذلان الأصدقاء، وتلقيه بصدر عارٍ سياط الألسنة وجحيم الغمز واللمز، وحياة الفقر والعوز والوحدة والمرض، التي قادته في النهاية إلى الانهيار والجنون، "اللعنة عليَّ وعلى أمثالي - إن كان هناك مزيد مني - لقد فشلت أن آتي بحليب طفلي الصغير، التفت الصغير فريد نحوي ورأيت عينه الغائمة بالدموع، ثم سحب شهقة ضعيفة وألقى برأسه على كتف أمه، وأجهش بالبكاء. احترقت بتلك النظرة فانتزعته من بين ذراعيها. مضيت به في اتجاه ميدان التحرير وهناك تنقلت من مقهى إلى آخر أطعمه من كل طاولة وهو يطلق حنجرته بالصراخ. آخر ما أتذكره يد الست تحية كاريوكا وهي تنزعه مني غاضبة وتمضي" .

وتزامناً مع انتهاجها أسلوب السرد الذاتي، حرصت على مخاطبة القارئ، لتعزيز الإيهام وحميمية السرد، وكذلك لدعم غايتها الرئيسة في نقل النص، الذي يتكئ على سيرة المبدع الراحل، من برودة التوثيق إلى حرارة الاعتراف، "في تلك اللحظة الباهتة، لحظة وجودي على المسرح، انعقد لساني عندما وقعت عيناي على جمهور القاعة. اختنقت صدقوني. كنت أحاول الثبات، لكني رأيت روحي تتناثر كبرادة صدئة تطؤها أقدام الممثلين، وتندثر أسفل مقاعد المشاهدين، وتذري مع عجلات العربات المارقة على أسفلت الشوارع" .

بين الإبداع والمعاناة

أضاءت الكاتبة في سياقها التوثيقي، السيرة الإبداعية والنتاج الفني لنجيب سرور، الشاعر، والكاتب، والمخرج، والممثل، فتطرقت إلى رسائله، ومقالاته، ورباعياته، وغيرها من النصوص الشعرية، وكذلك المسرحية مثل "بستان الكرز"، "ياسين وبهية"، "ألو يا مصر"، "ملك الشحاتين"، "قولوا لعين الشمس"، وغيرها من مسرحيات أصاب بعضها النجاح، وسقط بعضها سقوطاً مدوياً، وواجه بعضها الآخر قيود المنع والمصادرة والإيقاف والإلغاء. ورصدت عبر تتبعها لتاريخه المهني، والظروف التي أحاطت بأعماله، منحنى من الصعود والهبوط، تراوح ما بين قطبيه. وأسهم ما رصدته من تأرجحه بين ارتفاع وسقوط، في تعزيز صدقية السرد، وزيادة التوتر الدرامي، إضافة إلى الكشف عن علاقته بالسلطة، وتناقضاته الداخلية وأزماته النفسية، التي تجلت جميعها في منجزه الإبداعي.

واستثمرت انتماءه للطبقة الفقيرة، وما تعرض له من ملاحقة وتضييق من قبل المؤسسة الرسمية، وتنقله بين فضاءات مكانية مختلفة رفقة هزائمه وإحباطاته، في طرح قضايا شائكة وسمت تلك الحقبة المفصلية في تاريخ مصر، مثل الإقطاع، السخرة، والنضال ضد الاحتلال الإنجليزي، ومؤامرات الصهيونية، وتدوير القمع وإعادة إنتاج سياسات قامت الثورة ضدها، وترسيخ المبدأ الأبوي في الحكم، تكميم الأفواه، والاختفاء القسري، وتسطيح الوعي وصناعة الزيف عبر إعلام موجه. وربطت بين تلك القضايا وبين تحول موقف سرور السياسي كأثر لها، إذ تراجع عن تأييد عبدالناصر وتحول إلى معارضته، مما أدى به إلى دفع أثمان فادحة جراء هذا التحول، الذي لم يكن سوى مقدمة استدعت مزيداً من التحولات. فعلى إثره تحول الطالب المبعوث إلى روسيا إلى لاجئ، وتحول من سعة العيش إلى شظفه، ومن التحقق والانتشار إلى الانزواء والانطفاء، ومن العقل والاتزان إلى الاضطراب والجنون. كما منحت درويش السرد أبعاداً ملحمية، وعززت واقعيته عبر ما استدعته من وقائع تاريخية ثابتة، مثل تأميم قناة السويس، العدوان الثلاثي على مصر، غلق خليج العقبة ونكسة يونيو 1967. وكشفت عبر هذه الأحداث عن حال التناقض التي عاشها جيل تلك الحقبة، بين الحلم والانكسار، وأثرها على وعيه، وما أثمرته من نفوس معطوبة، وإن تباينت تجليات ذلك العطب، فبلغت أقصى مداها لدى نجيب سرور.

التقمص الصادق

اتساقاً مع اختيارها ضمير المتكلم، واستعارتها لسان بطلها وصوته، عمدت الكاتبة إلى تقمص شخصية نجيب سرور وجدانياً ولغوياً. وغاصت في دواخله حد الانصهار، فجاء السرد محملاً بحرارة تجربته. وبدت فيه فورة الغضب، وتوحش الحنين، ومرارة الخيانة، وقسوة الخذلان، وكذلك تناقضاته الصارخة بين الحكمة والجنون، "منذ تلك اللحظة وأنا ألعن كل الأشياء، الرموز الغبية، وصنبور الكلمات التافهة عن الحياة، عن الوهم السخيف المنتشر بيننا المسمى بالحب" (ص150). كما استدعت النفس اللغوي المشاكس، الذي اتسم به صاحب رباعيات "الأميات"، فلجأت لاستخدام المفارقة، والمفردات التي تفيض بالتمرد والاحتجاج، "بتر الفتى كلماته. اقتربت من وجهه قائلاً: طيب أنا بافتخر بسفالتي، لكن هم بيفتخروا بإيه؟" (ص288).

كذلك استدعت سخريته، ونثرتها في مواضع متفرقة من النسيج، "تحركت المياه الراكدة، والتقيت كرم والشرقاوي، وشوقي عبدالحكيم، الذي أفرج عنه مع آخرين في مولد سيدي خروشوف، ونال كثير منهم مكافأة نهاية الاعتقال وأنت وبختك يا أبا بخيت، فإما يستقر بخيت فوق مقعد في صحيفة، أو ينال شرف تنصيبه على قمة هرم مؤسسة ثقافية" (ص121). وفضلاً عن السخرية والمفارقات، مزجت بين الفصحى والعامية التي تسللت عبر مساحات الحوار. وحرصت على تجنب الوقوع في فخ الإعجاب ببطل سيرتها الروائية، فلم تحاول تأليهه، أو تجريده من أعطابه الإنسانية، وإنما واصلت نقل تصدعاته النفسية، هشاشته، وسرعة انفعاله. وعززت هيمنة روحه العائدة من الماضي على السرد، عبر انفتاح بنائها الروائي على أجناس أدبية أخرى، إذ استدعت بعضاً من أقواله وأشعاره ورسائله، واستثمرت هذا التناص في خدمة الحبكة، لكنها أضرت بتماسكها، حين استدعت شخصيات مؤثرة في حياته، مثل زكريا الحجاوي، وعبدالرحيم الزرقاني، ونجيب محفوظ، وجيلي عبدالرحمن، من دون أن تبرر هذه الاستدعاءات درامياً وفق تطور الأحداث، بل إنها قطعت التدفق الدرامي، فبدت منفصلة عن النسيج.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

حضور الميثولوجيا

استدعت درويش أسطورة "بينيلوبي" الإغريقية، التي انتظرت زوجها أعواماً طويلة، واحتالت على خاطبيها بنسيج تحيكه نهاراً وتفكه ليلاً، كي تواصل الانتظار. وأبرزت تماثلاً بين بطلة الأسطورة وساشا الزوجة الروسية لنجيب سرور، التي تحلت بالصبر والحب والوفاء. وفي المقابل أبرزت تقابلات بين الزوجة المصرية والزوجة الروسية، بين نجيب وأخيه ثروت، بين المنتفعين والمخلصين، الإقطاعيين والفلاحين. ورصدت وجوهاً أخرى للتقابل بين قرية أخطاب المصرية، وموسكو، بين الأنا والآخر، المتن والهامش.

ومن هذا التقابل انبثق الصراع داخل النص، ولا سيما صراعات المقاعد، والصراعات الحزبية، والأدبية، وكذلك الأسرية، إذ كان نجيب سرور طوال حياته القصيرة طرفاً في كثير منها، سواء تلك التي نشبت بينه وأخيه ثروت، بينه وزوجته، بينه والسوريين في المجر، أو التي نشبت بينه وبين بعض رموز السلطة آنذاك، وبينه وبعض الرموز الثقافية مثل أمل دنقل، وثروت عكاشة ونجيب محفوظ، "قفزت فوق منضدته، وتعلقت بعمود المظلة الخارجية، وتأرجحت متعمداً أن تواجه قدماي المتسختان وجهه، وأفلت الحذاء ليقع جوار فنجان القهوة" (ص275).

وعلى رغم قسوة الصراعات التي اعتاد نجيب سرور أن يكون الطرف المهزوم فيها، أبرزت الكاتبة صراعاً أشد قسوة، عاشه الشاعر في أغوار نفسه، منقسماً بين حبه لأبيه وكراهية لمهنته الصرافة، بين صوت عقله وصوت رغباته، بين التزامه بمواقفه وتزحزحه عنها. فبينما رفض انتقاد عبدالناصر ميتاً، ورفض عملاً لا يتسق مع مبادئه على رغم من فقره، تراجع عن بعض مواقفه السياسية، ولم يقاوم حنيناً لوطن عزم على ألا يعود إليه، لينال على أرضه في النهاية مصيراً مأسوياً لبطل تراجيدي أراد ما لم ترده الحياة!

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة