ملخص
على رغم النمو الذي تشهده دراسات الترجمة وسياسات الأدب فإن القواعد التي ترسم حدود السوق الأدبية في العالم لا تزال غير واضحة، وتخضع لـ"ضربات" الحظ التي تحدد حجم الفرص التي يحصل عليها الكتاب الذين يمكن وصفهم بـ"العالميين"، سواء ارتبط ذلك بالجوائز المرموقة أو بالترجمات إلى لغات متعددة.
تدرس الباحثة الفرنسية باسكال كازانوفا (1959-2018) في كتابها "اللغة العالمية: الترجمة والهيمنة"، المعايير التي أوجدت سياق المنافسة داخل أسواق الأدب، مؤكدة أنه، خلافاً للرأي السائد، لا توجد ترجمة من دون لغة مهيمنة، ولا توجد لغة مهيمنة لا توصف بأنها لغة الترجمة بامتياز. صدر الكتاب ضمن مشروع "كلمة" للترجمة عن مركز أبوظبي للغة العربية التابع لدائرة الثقافة والسياحة – أبوظبي، وترجمه الشاعر المغربي محمد الخضيري، وراجعه الشاعر والباحث كاظم جهاد.
وقبل هذا الكتاب، عرف قراء العربية من أعمال باسكال كازانوفا كتابها "الجمهورية العالمية للآداب" الذي ترجمته الدكتورة أمل الصبان وصدر عن المشروع القومي للترجمة في مصر عام 2000. تركت كتابات كازانوفا أثراً مهماً في الدراسات التي أولت عناية بمفهوم "الحيز الأدبي"، الذي ارتبط بظهور سوق عالمية للأدب تستند إلى نفوذ أدبي غربي ضارب بجذوره في وسط مهني تشكل على أسس رأسمالية واضحة، وثيقة الصلة بالمركزية الغربية.
وبفضل تلك القواعد تحولت الثقافة والإبداع إلى رأسمال أدبي يقيس الممارسة الأدبية وفق معايير يعترف الجميع بشرعيتها. وعلى رغم طابعه غير المادي، فإن من أبرز مزاياه إضفاء القيمة على الترجمة، التي تكسب صاحبها قدراً من النفوذ المادي أو المعنوي، وتعزز من حضوره الأدبي، ليغدو رمزاً للامتياز الأدبي.
الهيمنة الأدبية
تستعيد كازانوفا مصطلح بيير بورديو حول "السوق اللغوية"، الذي يرى أن كل اللغات تخوض منافسة لممارسة سلطة على هذه السوق، فاللغة، عند بورديو، ليست أداة للتواصل أو للمعرفة فحسب، بل هي أيضاً أداة للسلطة.
تؤكد كازانوفا أن هناك اعتماداً متبادلاً بين قوانين الهيمنة وقوانين تحديد "الأسعار" أو "القيم النسبية" اللغوية، وتشير إلى أن من يظهرون تحكماً في اللغة العالمية من خلال هذه السوق، يمارسون بدورهم سلطة، بحكم أن "اللغة المعترف بها هي وحدها التي تفرض قانونها على الأسواق المتحكم بها من قبل الطبقات المهيمنة".
تعود كازانوفا إلى الماضي حين كانت الإغريقية تعد لغة شمولية، في حين كان استعمال اللاتينية وفهمها محصورين في قلة من الناس، على رغم أن الإمبراطورية الرومانية كانت من أوسع الإمبراطوريات في التاريخ. وترى أن عدم التكافؤ بين اللغات له آثار قوية إلى درجة أن اللغة المهيمن عليها يمكن أن تمنع الاعتراف بالكتاب الذين يكتبون بها أو تصعب تكريسهم.
القيمة المكتسبة
تقول كازانوفا: "لا توجد لغة مهيمنة إلا إذا كان الناطقون بها، بمن فيهم من تعد لغتهم الأم، يؤمنون بتراتبية بين اللغات، لأن الهيمنة هنا رمزية، وليست نابعة من معطيات واقعية كعدد الناطقين بها مثلاً، بل من اعتقاد مشترك يتعزز بكونه جماعياً". وبقدر ما تعمل التعددية اللغوية أو الثنائية اللغوية على التقريب بين اللغات المتجاورة، تزداد الهيمنة. وبعبارة أخرى، كلما تباعدت اللغات والعادات اللغوية، ضعفت الهيمنة. ومن ثم، قل حضور الترجمة، كبرت الهيمنة.
تنظر الباحثة إلى الترجمة كأحد الأسلحة الأساسية في النضال من أجل الشرعية الأدبية، إذا تمكن الكاتب من بلوغ المراكز العالمية ليقرأه من يقررون قيمة ما يقرؤونه. وتمثل الترجمة الحل اللغوي الوحيد للدخول إلى مجال الرؤية والوجود في المناطق المهيمن عليها في هذا العالم، وتغدو صورة من صور الحق في الحضور العالمي.
صور الصراع اللغوي
تعاين كازانوفا التحولات التي طاولت اللغة الفرنسية وأثرها في أسواق الأدب وسياساته. وانطلاقاً من إيمانها بالدور الذي لعبته الفرنسية حين كانت لغة مهيمنة، تسعى إلى فهم الدور الذي تؤديه الإنجليزية اليوم بوصفها اللغة العالمية المهيمنة. وتدرس السياقات التاريخية التي أدت إلى نمو عدد من اللغات المنتمية إلى العائلة اللاتينية، منذ قرار المجمع الكنسي عام 813م بالسماح باستعمال اللغات العامية بدل اللاتينية في العظات الدينية، وهو القرار الذي مهد للاعتراف بولادة الفرنسية في القرن التاسع.
تعود كازانوفا إلى أعمال عالم الاجتماع اللغوي الأميركي تشارلز فيرغسون الذي أحدث ثورة في مجاله باستعمال مفهوم "ازدواجية اللغة" لدراسة التنويعات داخل اللغة الواحدة. تاريخياً، ظلت اللاتينية لغة الكنيسة والإدارة الكهنوتية والقانون الكنسي والقداس، فضلاً عن كونها لغة المعرفة، لكن منذ القرن الـ13 أصبحت الفرنسية لغة المحادثات، وخلال القرن الـ16 صارت لغة العدالة، وشقت طريقها نحو التحرر من اللاتينية بل والصراع معها.
تعريف الكلاسيكي
يتناول الكتاب كذلك الترجمة بوصفها شكلاً من الغزو الثقافي، ويبحث في طرائق ممارستها في إنجلترا خلال الحقبة الإليزابيثية، وفي فرنسا خلال الفترة نفسها، وكيف تحولت إلى جنس أدبي جديد.
كان الهدف آنذاك هو تملك نصوص لغة ينظر إليها على أنها تخص الجميع، ونالت الاعتراف بها نصوصاً "كلاسيكية" ذات قيمة عالية. ولم ينفصل عمل المترجمين عن السلطة السياسية التي كانت تطمح إلى مراكمة رأس مال رمزي أولي. ولتفسير هذه العملية، تقدم كازانوفا تعريفاً للنص "الكلاسيكي"، موضحة أن الكلمة اشتقت من اللاتينية classicus التي تحيل إلى الطبقات الاجتماعية في روما القديمة، وكان أول من استعملها النحوي أوليوس جليوس في القرن الثاني الميلادي لوصف "كتاب الطبقة الأولى".
وفي عام 1850 حاول سانت بوف (1804-1869) أن يقدم تعريفاً له فقال "الكاتب الكلاسيكي، حسب التعريف المعتاد، هو كاتب قديم كرس الإعجاب به وله سيادة مرجعية في مجاله، هو من أغنى الفكر البشري وضاعف كنوزه، وجعل الإنسانية تخطو خطوة إلى الأمام، وتحدث إلى الجميع بأسلوب خاص به يجعله معاصراً لكل الأزمنة". ومن ثم فإن الكلاسيكي، بحكم تعريفه، متنزه عن أنواع التردد والتعسف التي تشهدها "بورصة" القيم الأدبية.
رأسمال رمزي
في زمن الإمبريالية والاستعمار، كان تعزيز قوة "الأمة الاستعمارية" يفترض ألا يقاس نجاح الترجمة بالأمانة للنص الأصلي، بل بمدى الإنجاز الذي يحققه "الغازي" بإعادة تدوين النص ونقله وغرسه من لغة ذات حظوة كبيرة إلى لغة أدنى مكانة. وبذلك صارت الترجمة نقلاً للقيمة ومساهمة في الرأسمال القومي، أي في الحظوة والسلطة والقوة. تدريجاً، لعب المترجمون دوراً معاكساً لدور الكتاب العالميين في كبريات العواصم، فهم لا يدرجون الهامش في المركز لتكريسه، بل يستوردون الحداثة من "خط غرينتش الكتبي" ويعرفون بها داخل حقلهم القومي، ما يجعلهم فاعلين أساسين في توحيد الحقل الأدبي العالمي.
تدرس كازانوفا استقبال الجمهور لهذه الترجمات، موضحة أن فكرة "الجمهور" حديثة العهد ظهرت في القرن الـ17، حين أصبح جمهور الصالونات الأدبية يمنح شهرة تعادل اعتراف السلطات السياسية والدينية. ومع منتصف القرن نفسه، صار الجمهور المحكمة الدولية للكتب.
غير أن هذا الجمهور الباريسي لم تكن له علاقة مباشرة بالمصادر اللاتينية والإغريقية، فتمت تغييرات في النصوص القديمة باسم "الوضوح"، لتكون الترجمة في خدمة القارئ الذي لا يتقن اللاتينية. وفي تلك الحقبة أيضاً "اخترعت" في فرنسا وإنجلترا الترجمة الحرة أو التصرفية، التي كانت أقرب إلى المحاكاة أو الاقتباس منها إلى الترجمة الدقيقة. في وجه عام، أصبح المترجم في القرن الـ18 أسير أذواق جمهوره، ونتيجة لذلك فقدت الترجمة كثيراً من مكانتها، حتى قال مونتيسكيو: "إن الترجمات مثل قطع النقد النحاسية، لها قيمة القطع الذهبية وتستعمل أكثر من قبل العامة، لكنها ضعيفة الجودة دوماً".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تتحدث كازانوفا عن المركزية الإثنية عند الإشارة إلى الهيمنة التي اكتسبتها اللغة الفرنسية، بحيث أصبحت حتى منتصف القرن الـ20 "لاتينية المحدثين"، أي اللغة العالمية، وصارت الترجمة إليها، في الوقت ذاته، "خائنة" وصادرة عن مركزية إثنية. وبفعل هذه الهيمنة، كانت معظم الترجمات مرتجلة وإلحاقية، تنزع إلى تحويل النصوص لتصبح "فرنسية" مكتوبة وفق المعايير الفرنسية.
تشير كازانوفا إلى ما كتبه الشاعر الإيطالي جاكومو ليوباردي (1798–1837) عن عدم التكافؤ اللغوي، إذ عبر في يومياته عن الهيمنة التي تمارسها الفرنسية: "صوت فرنسا صاخب جداً حتى إنه يشكل الأحكام الأوروبية".
أراد ليوباردي الكشف عن الظلم الكامن في تفوق اللغة والأدب الفرنسيين، وعن الطابع المفارق لشموليتهما، وعن "فقر" الفرنسية من وجهة نظره وابتعادها عن محاسن اللاتينية. فبحسبه، اللغة المهيمن عليها مهددة بأن تصبح لغة من الماضي، لأنها "تفتقر إلى الحاضر" وتخلو من مصطلحات الحداثة، فتصبح لغة نبيلة ولكن ميتة، مثل اللاتينية، أي لغة "الأقاليم" البعيدة من المركز. أما الفرنسية فهي، مثل آدابها، حديثة تماماً.
تؤمن كازانوفا بأن حاضر الكتب اليوم يسمى "الحداثة"، وأن تكون في "الحاضر" يعني أن تعد "حديثاً" في لحظة معينة. ومن ثم، فإن تقرير "حداثة" عمل أو كاتب هو أحد مظاهر التكريس الأكثر شيوعاً، لكنه أيضاً الأكثر إثارة للجدل والحسد بين الكتاب القادمين من خارج المركز الثقافي. فالحداثة، كما نعلم، شكل غير مستقر ورهان للتنافس، والطريقة الوحيدة لتكون "حديثاً" في عالم الكتب هي أن تخضع الحديث القائم أو الثورة الجمالية الأخيرة للمساءلة، لتجعل عملك ضمن الطليعة، وهي لا تزعم فقط أنها تقطع مع الماضي، بل تدعي كذلك أنها تسبق الحاضر نفسه.