ملخص
نمو شعر الوجه الحديث يعكس تحولات ثقافية واجتماعية وسياسية، إذ أصبح رمزاً للهوية الفردية والرجولة، لكن انتشار اللحى بصورة واسعة قد يقلل من تفردها وتميزها الذكوري
إلى عهد قريب كانت "اللحية" وحلقها وإعفاؤها موضوعاً جدلياً في المنطقة العربية، خصوصاً بعد موجة "الصحوة" التي ازدهرت بعد ثمانينيات القرن الماضي، إلا أن السجال الذي كان فقهياً وحركياً وفكرياً في منطقتنا انطلق بخلفيات مشابهة ومتضادة هذه المرة في أميركا، إذ صار تمدد اللحى على وجوه الرجال ظاهرة جديدة مثيرة للنقاش وعديد من الأسئلة.
وذلك بعدما كانت سنوات مضت تحاصر نظراتها البغيضة فقط العرب والمسلمين بعد الـ11 من سبتمبر (أيلول) 2001، قبل أن تصبح لحية نائب الرئيس الأميركي جي دي فانس وآخرين محل الجدل والغمز والأحكام المسبقة، قبل أن يطل نجم زهران ممداني في نيويورك لينافسه على ذلك البريق اليساري النقيض.
يعود ذلك في الأصل إلى أن اللحية في الذاكرة الإنسانية ليست مجرد مسألة أسلوب شخصي أو موضة عابرة، بل تحمل في طياتها دلالات ثقافية وفلسفية واجتماعية عميقة. فمنذ العصور القديمة، وحتى اليوم، ارتبطت اللحى بالرجولة والقوة، والاستقلالية، والحمق والسذاجة، وفي كثير من الأحيان، بالموقف الفكري والسياسي للفرد.
التحول الجديد في ثقافة اللحى أثار اهتمام "نيويورك تايمز" في تقريرها حول زهران ممداني، المرشح الأبرز لعمدة نيويورك، قائلة "نحن نعلم أننا في عصر اللحى عندما نرى ممداني، لديه لحية وشارب"، إلا أنها وضعت ذلك في سياق تاريخي متسق بالنسبة إلى المجتمع الأميركي والغربي، فقد "شهد التاريخ أربع حركات رئيسة في مجال اللحى: القرن الثاني، والعصور الوسطى، وعصر النهضة، وأواخر القرن الـ19 (لحية جيفارا)، ونحن الآن في الحركة الخامسة".
وتشير الصحيفة إلى أن صعود شعر الوجه الحديث يعكس تحولات ثقافية واجتماعية وسياسية، إذ أصبح رمزاً للهوية الفردية والرجولة، لكن انتشار اللحى بصورة واسعة قد يقلل من تفردها وتميزها الذكوري. ويضيف التقرير أن هذا الاتجاه يلمس أيضاً الخطاب السائد حول السلطة والتمرد، بوصفهم يعتبرون الشعر علامة على الشخصية والموقف، كما يظهر في عدد من الشخصيات السياسية الأميركية الحديثة.
تغير في ميزان القوى الثقافية؟
توضح الصحيفة أن موضة اللحى اليوم ليست مجرد صيحة تجميلية، بل انعكاس لتغير ميزان القوى الثقافي والاجتماعي، فبينما كانت اللحى في الستينيات والسبعينيات رمزاً للتمرد، ارتبطت لاحقاً في بيئات العمل بالريبة، ثم ظهرت مجدداً كأداة للتعبير عن الهوية والقوة، سواء في السياسة أو في الحياة المهنية، كما يظهر في حركات الشركات مثل "ديزني" و"نيويورك يانكيز" التي عدلت سياساتها لتسمح بشعر الوجه المهندم، مؤكداً العلاقة بين المظهر والمكانة الاجتماعية.
لكن المقالة التي يفترض أن تكون قراءة عادية لظاهرة عابرة أثارت جدلاً كبيراً، بالنظر إلى الانقسام الذي يطبع المشهد الأميركي حالياً بين اليسار واليمين، وحضور اللحية فيه، إذ يحاول كل طرف من الفريقين توظيف "اللحية" إلى ميدانه، فشهدت المقالة تفاعل نحو 900 تعليق مختلف حول الظاهرة التي يفسرها كل شخص من زاويته.
رآها البعض البيان الأسمى للحركة المناهضة للنسوية، بل رمزاً للسلطة والاختلاف عن النساء، "فالرموز الدينية في التقاليد اليهودية المسيحية ابتداءً بالرب كما صوره مايكل أنجلو، إلى يسوع المسيح نفسه كانت دائماً لرجال ملتحين، مما جعل اللحية علامة قوة وهيبة". ومع ذلك يذكر العلم كما تقول أن اللحى مجرد بقايا من عصور كان الشعر يغطي الجسم البشري كله. في المقابل، أوضح بعض المتفاعلين أن للحية أيضاً استخدامات شخصية معاصرة، مثل إخفاء عيوب الوجه أو محاولة الظهور بسن أصغر، وهو ما اعتبرته الكاتبة أمراً عادلاً، لا سيما أن النساء يتمتعن بخيارات أوسع في توظيف شعرهن لتحسين ملامحهن.
من 11 سبتمبر إلى عصر النهضة
في موازاة ذلك، لفت بعض المعلقين إلى البعد الثقافي والسياسي للمسألة، معتبرين أن المقالة تجاهلت تاريخاً طويلاً من الشكوك العنصرية تجاه اللحى، خصوصاً لحى المسلمين و"الشرق أوسطيين"، وما رسخته أحداث 11 سبتمبر من ارتباطات سلبية في المخيال الغربي. وقد اعتبروا أن عنوان المقالة المصحوب بصورة وجه ذي لحية ممداني، بدا وكأنه يعيد إنتاج تلك الأحكام المسبقة. الكاتبة بدورها أقرت بأن أحكامنا الضمنية على اللحى كثيراً ما تحمل جذوراً ثقافية وتاريخية مخزية، وأشارت إلى أهمية التنبه لذلك.
لم يخلُ النقاش من لمسة طريفة، إذ أشار أحد المشاركين إلى أن المسألة ليست في تهذيب اللحية أو مظهرها، بل في سلوك أصحابها أمام الكاميرات في الاجتماعات، حيث لا يتوقفون عن العبث بشعيرات الذقن بطرق لافتة وغريبة. وعلى رغم ذلك، رأت الكاتبة أن هذه الملاحظة لا تقتصر على الرجال، فالنساء أيضاً كثيراً ما ينشغلن بشعورهن أثناء الحديث أو الظهور الإعلامي.
وفي هذا السياق يظهر موقع ومدونة Beard Sorcery كمثال طريف على كيف تحولت اللحية إلى ثقافة كاملة، لا مجرد موضة. فالمدونة تنشر مقالات لافتة مثل: "القصة الغريبة لهوس اللحى في عصر النهضة"، التي تروي كيف كانت اللحية علامة رجولة ونفوذ في أوروبا القديمة. والمثير أن الموقع يبيع منتجات العناية باللحية، لكنه يقدمها في قالب حكائي ساخر يجعلها جزءاً من هوية وثقافة أكثر من كونها مجرد زيوت وشامبوهات. ويكتسب هذا البعد الفكاهي جدية أكبر إذا علمنا أن ما يقارب 40 في المئة يطلقون لحاهم اليوم، بحسب إحصاءات مراكز أبحاث السوق.
المعنى الفلسفي
من الناحية الفلسفية توثق مجلة "فيلسوفي ناو" في إحدى مقالاتها التي عادت إليها "اندبندنت عربية" أن الفلاسفة القدماء مثل سقراط، وأفلاطون، وأرسطو، اهتموا بقصات شعرهم ولحاهم بما يعكس فلسفتهم وأفكارهم، فسقراط لم ينم له شعر الوجه كما تشير بعض المصادر، بينما اعتبر أفلاطون أن الشعر القصير واللحية يعكس صورة الملوك الفلاسفة والجمال المثالي المجرد، فيما ربط أرسطو بين الشعر والواقع العملي. وقد استخدم القديس أوغسطينوس شعره كوسيلة للتعبير عن تحوله الديني، فقص شعره وفقاً لتعاليم الكنيسة، معتبراً أن هذا الأسلوب أنقى وأكثر تديناً.
ولاحظت في العصر الحديث المبكر كذلك أن الشعر واللحية أصبحا وسيلة للفلاسفة للتعبير عن توجهاتهم الفكرية، مثل ديكارت وسبينوزا ولايبنيز، الذين اعتنوا بتصفيف لحاهم بطريقة هندسية تعكس العقلانية واليقين، بينما اختار التجريبيون مثل جون لوك أسلوباً طبيعياً متجذراً في الواقع، تعبيراً عن مبدأ "تابولا راسا" أو اللوحة البيضاء للعقل البشري. حتى هيوم ونيتشه، كل بأسلوبه، استخدموا شعر الوجه لتأكيد مواقفهم الفلسفية أو الجمالية، في حين احتفظ ماركس بلحيته الطويلة تضامناً مع البروليتاريا، لتصبح لاحقاً رمزاً مادياً للهوية الطبقية والثورية.
وفقاً لتوماس جوينج في كتابه "فلسفة اللحى" (1854)، فإن اللحية ليست مجرد حماية للذقن أو للوجه من الغبار، بل هي علامة على الكرامة والمهابة والاستقلالية. يذهب جوينج إلى أبعد من ذلك، معتبراً أن الرجال الملتحين "أفضل في المظهر والسلوك الأخلاقي والتاريخ الشخصي" مقارنة بالرجال الحليقين، وأن حلق اللحية يمثل نوعاً من العري المبتذل الزائف. ويضيف أن "عملية تمشيط اللحية وفركها تمنح إحساساً بالبهجة مماثل لما يشعر به المرء عند مسح شعر القطط"، بل جعلها أحد أسرار انجذاب النساء إلى الرجال.
وتنقل المجلة المشار إليها عن جو نايتنجيل في مقاله عن عصر النهضة إلى أن اللحى كانت سائدة في القرنين الـ16 والـ17، لدرجة أن 90 في المئة من الرجال يطلقون لحاهم، واعتبرها شكسبير والمصلحون البروتستانت علامة على الرجولة والقوة.
أما لماذا تنتشر اللحى في أوقات بعينها، فإن باحثين غربيين يعيدون ذلك إلى "الاضطرابات الشديدة، حين تشهد الأنظمة الدينية والاقتصادية والثقافية تحولات جذرية. في مثل هذه العصور، تثار التساؤلات حول المعايير، بما في ذلك المعايير المتعلقة بالجنس والشكل".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
سجال الخفة والحمق والوقار
في السياق العربي ترتبط اللحى بالثقافة والدين والمجتمع، حيث تمثل رمزاً للوقار والالتزام الديني والاجتماعي، وغالباً ما ينظر إليها كدلالة على الرجولة والشرف، كما كان الحال في المجتمعات الإسلامية التقليدية، التي اعتبرت نمو اللحية جزءاً من الهوية الدينية والأخلاقية. إلا أن تمدد موجة الإرهاب في العقود الأربعة الماضية، غيرت تلك النظرة أحياناً إلى النقيض.
وينقل ابن الجوزي في كتابه الشهير "أخبار الحمقى والمغفلين" سلسلة من الطرائف والنوادر التي ارتبطت بطول اللحى في التراث العربي والإسلامي، حيث عدت علامة من علامات الحمق عند بعض الحكماء وأصحاب الفراسة. فقد رُوي أنه مكتوب في التوراة: "إن اللحية مخرجها من الدماغ، فمن أفرط عليه طولها قل دماغه، ومن قل دماغه قل عقله، ومن قل عقله كان أحمق". وقال بعضهم: "الحمق سماد اللحية فمن طالت لحيته كثر حمقه"، حتى إن رجلاً رأى آخر ذا لحية طويلة فقال ساخراً: "والله لو خرجت هذه من نهر ليبس". وعلى المنوال نفسه، قال الأحنف بن قيس: "إذا رأيت الرجل عظيم الهامة طويل اللحية فاحكم عليه بالرقاعة ولو كان أمية بن عبد شمس"، بل إن معاوية خاطب رجلاً عتب عليه قائلاً: "كفانا في الشهادة عليك في حماقتك وسخافة عقلك ما نراه من طول لحيتك"، بينما رأى عبدالملك بن مروان أن طول اللحية يوازي نقصان العقل.
ونقل ابن الجوزي عن أصحاب الفراسة أنهم كانوا يحكمون بالحمق على من جمع بين طول القامة واللحية، خصوصاً إذا صغرت هامته. وجاء في النوادر أن سعد بن منصور سأل ابن إدريس عن سلام بن أبي حفصة فقال: "رأيته طويل اللحية وكان أحمق". وعن ابن سيرين أنه قال: "إذا رأيت الرجل طويل اللحية فاعلم ذلك في عقله". أما زياد بن أبيه فقد لخص الأمر بقاعدة شائعة في عصره بقوله: "ما زادت لحية رجل على قبضته إلا كان ما زاد فيها نقصاً من عقله".