Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

رينيه ديمون "عملاق أخضر" فرنسي من أجل أفريقيا والبيئة

دافع عن القارة السمراء واخترع البيئوية السياسية وترشح للرئاسة في بلده ومات متفائلاً بحذر

رينيه دومون (1904 - 2001) خلال حملته الانتخابية عام 1974 (أ ف ب)

ملخص

مؤلفات المفكر البيئوي الفرنسي رينيه دومون كانت سلاح نضال في سبيل القضيتين اللتين انكب عليهما طوال حياته معلناً دائماً  تكاملهما: قضية أفريقيا السوداء ولا سيما تدهور أحوالها المريع وبخاصة بعد حصول بلدانها على الاستقلال، وقضية البيئة ولا سيما في بلده الفرنسي، بل حتى على الصعيد الأممي

ليسوا كثراً الذين يتذكرون اليوم المفكر والمناضل الفرنسي رينيه دومون حتى في وطنه الذي رشح نفسه للرئاسة فيه قبل نصف قرن من الآن، وحتى وإن كان في مقدورنا القول إنه كان في ذلك الحين ملء السمع والبصر، معترفاً له بأنه كان واحداً من أول المفكرين البيئويين، بالمعنى النضالي للكلمة، وعرف حينها على نطاق واسع، بخاصة من خلال كونه أول مناضل في مجال البيئة يرشح نفسه، في عام 1974 لرئاسة الجمهورية الفرنسية.

في ذلك الحين لم يكن دومون يتوقع لنفسه نجاحاً في تلك الانتخابات، لكنه صرح دائماً بأن غايته كانت مجرد إسماع صوته وأصوات البائسين ولا سيما الأفارقة منهم، للرأي العام المحلي والعالمي.

لقد تساءلنا أول هذا الكلام عما إذا كان ثمة من يتذكر هذا المبدع اليوم. والحقيقة إن علينا أن نذكر هنا أن نعم: تذكرته التلفزة الفرنسية عبر محطتها الأكثر ذكاء وإنسانية في العالم، "آرتي"، من خلال سهرة كرست له قبل أسابيع أعيد خلالها بث فيلم تلفزيوني كان قد حقق العام الماضي 2024 لمناسبة مرور نصف قرن على ذلك الترشح الرئاسي الذي كان حدثاً كبيراً عام 1974 كما أسلفنا. ولقد حمل الفيلم عنوان "رينيه دومون، العملاق الأخضر" انطلاقاً من اللقب الذي عرف به دومون منذ بات اسمه ونضالاته على كل شفة ولسان ولا سيما منذ اشتهر، في الأوساط النخبوية هذه المرة، بكونه واحداً من قلة محصورة من مؤلفين نشرت لهم سلسلة "أرض البشر" التي كان يديرها حتى الرمق الأخير مؤسسها عالم الإناسة الكبير جان مالوري، الذي رحل عن عالمنا العام الماضي وهو يبدي فخره بنشره ومنذ وقت مبكر كتباً ثلاثة لدومون هي تحفه "أفريقيا السوداء وانطلاقتها السيئة" (1962)، و"من أجل أفريقيا، إني أتهم" (1986)، و"معاركي" (1989).

صحيح أن هذه لم تكن كل مؤلفات دومون، لكنها كانت كتبه الرئيسة التي كان نشرها في سلسلة مالوري، ذا دلالة واضحة، كذلك كانت سلاح نضال في سبيل القضيتين اللتين انكب عليهما دومون طوال حياته معلناً دائماً  تكاملهما: قضية أفريقيا السوداء ولا سيما تدهور أحوالها المريع وبخاصة بعد حصول بلدانها على الاستقلال، وقضية البيئة ولا سيما في بلده الفرنسي، بل حتى على الصعيد الأممي، وذلك من خلال مساعدته للنضالات بدءاً من تحركات المزارعين الهنود وصولاً إلى فلاحي منطقة اللارزاك الفرنسية.

بين فيلمين صريحين

كل هذا وأمور عدة أخرى يذكرنا بها الفيلم التلفزيوني الذي أعادت المحطة التلفزيونية الفرنسية عرضه، تماماً كما يذكرنا الفيلم نفسه، بشريط آخر كان رينيه دومون قد أسهم في عام 1975 في تحقيقه من إنتاج فرنسي بعنوان كان في ذلك الحين شديد الدلالة والراهنية، وحرك ذلك العالم المناضل لخوض معاركه بعد "فشله" في الانتخابات الرئاسية الفرنسية: "أفريقيا، شعوب الساحل المنسية".

ولعل ما يمكن ملاحظته في الفيلم الجديد كونه يأتي متكاملاً مع الفيلم القديم، مع فارق في المزاج العام بين الفيلمين اللذين أتى كل منهما مغرقاً في الصراحة على طريقته.

ولعل الفارق يكمن في ملاحظة أبداها واحد من المشاركين في حوارات الفيلم الجديد ممن شاركوا دومون نضالاته وتفاعلاتها المبكرة المعبر عنها في الفيلم الأول، ليطرح في الفيلم الجديد سؤالاً حاسماً فحواه: "ترى ما الذي كان يمكن لدومون أن يقوله حول ما آلت إليه أوضاع البيئة وأوضاع أفريقيا لو كان لا يزال حياً بيننا اليوم؟".

والحال أن الجواب سيبدو أمام صورة الواقع الراهن، بسيطاً وبديهياً: "كان من شأنه أن يقول لنا: ألم أقل لكم؟". فالحقيقة أن الكتب الثلاثة التي أصدرتها سلسلة "أرض البشر" وتبقى من أشهر وأهم كتب دومون على أية حال، تطرح أمامنا كتاباً بعد الآخر، نوعاً من مخطط تنازلي لتفاؤلية بدت في خلفية الصورة في الكتاب الأول "أفريقيا السوداء وانطلاقتها السيئة" إذ من خلال تشخيص علمي يتعامل مع المساوئ التي تعيشها القارة البائسة، بدا الكاتب وكأنه لا يزال يؤمن بأن ثمة حلولاً يمكنها أن تكون شافية وهي بالنسبة إليه "حلول سياسية وتنموية، يمكنها أن تكون ناجعة إن أسهمت فيها الدول الأوروبية وغير الأوروبية في انسجام تام مع اندفاعات محلية في أفريقيا".

غير أن هذا التفاؤل، ولو الحذر والمشروع الذي اختتم به دومون هذا الكتاب، كما كان قد عبر عنه كذلك في دراساته العلمية والتقنية كما في فيلم "الساحل"، سرعان ما تقلص لتتحول لغة المؤلف في الكتاب التالي "من أجل أفريقيا، إني أتهم" إلى لغة اتهامية تنطلق من رصد الإخفاق الذي نتج عن ممارسات الأعوام الفاصلة بين الكتابين.

التفاؤل أو الموت

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وهو رصد سيعود دومون في الكتاب الثالث، في هذه السلسلة نفسها، إلى استعراض مسيرته ومآلاته تحت عنوان شديد الذاتية وينضح على رغم إيجازه اللافت، بقدر كبير من التساؤل اليائس "معاركي" حتى وإن كان للعنوان نفسه تتمة لافتة بدورها "النرد إذ رمي خلال 15 عاماً"، وهذه الأعوام الـ15 هي على أية حال تلك التي يفترض دومون أن حجارة اللعبة قد رميت فيها طوال الأعوام الفاصلة بين الكتاب الأول وهذا الثالث في هذه السلسلة.

ومن هنا ما يتبدى للمشاركين في فيلم "رينيه دومون، العملاق الأخضر" من أن المناضل الراحل في العام الأول من القرن الجديد كان لا يزال على شيء من العناد المتفائل حتى وهو يتحدث بحسرة عن إخفاق المعارك الرئيسة التي خاضها من أجل أفريقيا كما من أجل البيئة بل من أجل القضيتين مترابطتين في معظم الأحيان.

ومهما يكن في هذا السياق، ها هو الفيلم الجديد يذكرنا على أية حال بكم أن دومون يبدو بالنسبة إليهم محقاً في تفاؤله على رغم كل شيء، وهو الذي لم يكن من قبيل الصدفة أن يعنون واحداً من أول كتبه التي عرفت عالم النضالات المحقة عليه منذ عام 1973، بخيار محدد، "اليوتوبيا أو الموت"، مما يعني أن ليس ثمة خيار آخر هنا سوى متابعة الطريق على رغم كل شيء.

والحقيقة أن صناع الفيلم التلفزيوني الجديد الذي يهيمن عليه ظل دومون بعد ربع قرن من رحيله كما يحضر فيه عدد من الباقين أحياء من بين العلماء والسياسيين، وحتى المهندسين الزراعيين - علماً بأن المهنة الأساسية لدومون هي الهندسة الزراعية التي أوصلته إلى اختراع الممارسة البيئية التي أطلق عليها هو اسم "بيئية - زراعية" - الذين كانوا يحيطون به طوال ما لا يقل عن أربعة عقود كان هو فيها الصوت الصارخ في سبيل الطبيعة والإنسان والرد العلمي على كل ضروب التخلف ولا سيما في المستعمرات السابقة في أفريقيا وغيرها.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة