Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

في أروقة العدالة الغائبة... وثائق "ييل" على محك مجزرة الفاشر

كشفت صور الأقمار الاصطناعية للمختبر الجامعي الأميركي عن موقعين لعمليات قتل جماعي

كشفت الصور عن موقعين لعمليات قتل جماعي حول المستشفى السعودي ومركز احتجاز في مستشفى الأطفال السابق شرق المدينة (أ ف ب)

ملخص

يخلص تقرير جامعة ييل إلى أن ما يجري في الفاشر لا يمكن وصفه إلا بأنه تطهير جماعي ممنهج يستهدف محو المدينة من الوجود، وأن الأدلة الرقمية والبصرية أصبحت اليوم "شاهداً صامتاً" على جريمة لا تحتاج إلى تفسير، بل إلى محكمة وضمير دولي مستيقظ.

منذ اندلاع الحرب في السودان عام 2023، أخذت البلاد تنحدر نحو مآس دموية متكررة، انطلقت شرارة القتال من الخرطوم، لكنها ما لبثت أن امتدت إلى أطراف البلاد، تلتهم المدن والقرى في دوامة من العنف المنفلت، بلغ عدد القتلى "من جميع الأسباب المرتبطة بالنزاع" في السودان منذ اندلاع الحرب أكثر من 40 ألف شخص، بينما بلغ عدد النازحين داخلياً أكثر من 11 مليون شخص، إضافة إلى نحو 4 ملايين شخص فروا إلى الدول المجاورة، بحسب بيانات الأمم المتحدة، مع الإشارة إلى أن الرقم الحقيقي قد يكون "عدة مرات أعلى".

وفي خضم هذا الانهيار، بدأت قوات "الدعم السريع" إعادة رسم خريطة السيطرة على الأرض، متنقلة من ولاية إلى أخرى في مسار دموي، وبعد أشهر من المعارك والمواجهات المتواصلة في الخرطوم، انسحبت في مارس (آذار) لتتجه غرباً نحو دارفور، حيث باتت مدينة الفاشر، آخر معاقل الجيش في الإقليم، هدفها الأبرز ورمزاً للمواجهة الحاسمة.

أحكمت قوات "الدعم السريع" قبضتها تدريجاً على المدينة، فأقامت أسواراً ترابية حول السكان المتبقين، الذين قُدر عددهم بنحو 260 ألف نسمة، ومنعت دخول الغذاء والمساعدات، ثم توالت القذائف على الأسواق والمستشفيات ومخيمات النازحين، لتتحول الفاشر إلى سجن جماعي محاصر بالجوع والخوف والموت. وفي تقرير مروع أصدره "مختبر الأبحاث الإنسانية" في كلية الصحة العامة بجامعة ييل بالولايات المتحدة، أُرفقت صور أقمار اصطناعية تظهر "أكواماً من الجثث أُعدمت جماعياً"، ومناطق تُرك فيها المدنيون يلفظون أنفاسهم قرب المستشفيات أو على أطراف الأسوار، مؤكداً أن المدينة تشهد واحدة من أوسع عمليات القتل الجماعي الموثقة منذ بدء الحرب.

خلال الأسبوع الأخير من الحصار، أكدت مساعدة الأمين العام للأمم المتحدة لشؤون أفريقيا، مارثا أما أكيا بوبي، أن "المدينة تواجه إبادة بطيئة" في ظل انعدام أي ممرات آمنة للمدنيين، وتحدثت تقارير الأمم المتحدة عن عمليات قتل جماعي، وإعدامات ميدانية من منزل إلى منزل، واغتصاب واستعباد للنساء والفتيات. وفي شهادة مفجعة، أوضح كريستيان ليندماير، المتحدث باسم منظمة الصحة العالمية، أن مسلحين من "الدعم السريع" اقتحموا المستشفى السعودي، وقتلوا أكثر من 460 شخصاً بين مرضى وأطباء.

وفي ذروة هذا الانحدار، لم يعد الصراع يدور حول السيطرة العسكرية فقط، بل بحسب صور الأقمار الاصطناعية التي وثقها مختبر جامعة ييل، يحاول طمس المدن وتفريغها من أهلها، ومع تواتر الشهادات باتت الفاشر مرآة دامية لواقع السودان المنكسر، إذ يتحول الصمت الدولي إلى شريك غير مرئي في هذه المجزرة.

أدلة صامتة

أكد تقرير "ييل" أن قوات "الدعم السريع" لا تزال ترتكب مجازر جماعية بحق المدنيين في مدينة الفاشر، وبجمعه بين تحليل صور الأقمار الاصطناعية وشهادات الناجين، أعاد التقرير إلى الواجهة سؤال العدالة الغائب وسط صمت المجتمع الدولي.

أظهر التقرير وجود 31 موقعاً يُشتبه في احتوائها على جثث، موزعة بين أحياء سكنية ومبان عامة مثل مختبر جامعة الفاشر، واللواء 271 للدفاع الجوي، والمستشفى السعودي للولادة، حيث تظهر الصور بوضوح تغيرات حرارية واحتراقات متعمدة، تشير إلى عمليات إعدام ميداني وحرق للجثث في محاولة لمحو الأدلة. ويقدر الباحثون أن المدينة، التي كان يقطنها قرابة 250 ألف نسمة قبل الاجتياح، تحولت إلى مساحة خالية من الحياة، إذ قُتل الآلاف وأُسر آخرون، فيما تمكن نحو 36 ألف شخص فقط من الفرار نحو مناطق أكثر أمناً.

وتظهر بيانات الأقمار الاصطناعية، وفق التقرير، أنماطاً متكررة لحرائق موضعية في محيط المقابر والمباني العامة، متزامنة مع توثيق شهادات ناجين تحدثوا عن إطلاق نار على الأطفال أمام ذويهم، وعمليات نهب وضرب وإعدام عشوائي للمدنيين الفارين، كذلك أشار التقرير إلى اختفاء منهجي للرجال والفتيان، وعنف جنسي ممنهج ضد النساء، إضافة إلى إجبار النازحين على التبرع بالدم قسراً في مواقع مثل منطقة قرني، التي تستخدمها قوات "الدعم السريع" كمراكز فرز للمحتجزين.

 

 

وأكد المختبر أن صور الأقمار الاصطناعية المأخوذة في الـ27 والـ28 من أكتوبر (تشرين الأول) كشفت عن موقعين لعمليات قتل جماعي حول المستشفى السعودي ومركز احتجاز في مستشفى الأطفال السابق شرق المدينة، قائلاً إن "مؤشرات استمرار القتل الجماعي واضحة للعيان".

ويخلص تقرير جامعة ييل إلى أن ما يجري في الفاشر لا يمكن وصفه إلا بأنه تطهير جماعي ممنهج يستهدف محو المدينة من الوجود، وأن الأدلة الرقمية والبصرية أصبحت اليوم "شاهداً صامتاً" على جريمة لا تحتاج إلى تفسير، بل إلى محكمة وضمير دولي مستيقظ.

منهج إثبات

قالت الصحافية زلفى حسين "يقدم تقرير ييل نموذجاً استثنائياً في توظيف العلوم التقنية لخدمة التحقيقات الإنسانية، إذ يعتمد منهجية دقيقة تقوم على تحليل متقاطع بين الصورة والمكان والزمن والشهادة البشرية، ولا يكتفي التقرير بسرد وصفي أو بتجميع مشاهد من الأقمار الاصطناعية، بل يحول الصورة إلى نص بصري متماسك، يعيد سرد المأساة بلغة الدليل، لا بلغة الانفعال". وأضافت "عندما يربط التقرير وجود بقع حمراء متكررة قرب أجسام بأحجام بشرية، ويصوب الأنماط على مستشفيات ومقار احتجاز ومحيط الساتر الترابي، فإنه لا يقدم مجرد فرضية عاطفية بل يقدم مؤشر مراقبة عن بعد مصحوباً بتقاطع مع روايات ناجين وشهادات فورية نقلتها وكالات موثوقة".

وفي رأي حسين، فإن صور التقرير المنشورة تثبت أنه يقوم على بناء علمي متدرج، يبدأ من المعطيات الخام، وصور الأقمار الاصطناعية عالية الدقة، ومؤشرات الحرارة، وأنماط الاحتراق، ثم يخضعها لعمليات مقارنة زمنية متعددة، تربط بين التغيرات الدقيقة في الموقع وبين توقيت الأحداث الميدانية، وعبر مطابقة الأجسام الظاهرة في الصور مع المقاييس المعروفة، يصل التقرير إلى فرضية وقوع إعدامات ميدانية ممنهجة، لا يمكن تفسيرها بأي نشاط مدني أو طبيعي آخر.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وأوضحت المتحدثة أن "تميز التقرير ينبع من أنه لا يقدم صورة جامدة، بل منظومة تجمع بين الأدلة الرقمية وشهادات الناجين والمصادر الطبية المحلية، ولذلك جاءت نتائجه متحدثة عن إطلاق نار قرب مستشفى أو معسكر، مما يرفع من مصداقيته، وبذلك يصبح التقرير أداة تحقق مزدوج لا تكتفي بالمراقبة عن بعد، بل تعيد بناء تسلسل الأحداث".

وأردفت أن التقرير "يكشف عن تحول نوعي في أدوات التوثيق الإنساني، حيث تنتقل الملاحظة من حدود الرواية إلى فضاء التحليل العلمي القابل للتحقق، وهذا التحول يمنح المجتمع الدولي أرضية معرفية متينة لفتح تحقيقات قضائية أو لمساءلة الأطراف المتورطة في جرائم الحرب. غير أن قيمة التقرير لا تقف عند حدود التوثيق، فهي تمتد إلى رسم خريطة رقمية لمثل هذه المجازر". وتابعت "وأيضاً يمكن أن يُعد نقطة انعطاف في منهج إثبات الانتهاكات الجماعية، إذ يترجم العلم المأساة إلى بنية دليل يصعب إنكاره، ويضع العالم أمام مسؤوليته في تحويل الدليل إلى عدالة، لا إلى أرشيف جديد من اللامبالاة".

منظومة المساءلة

أشار التقرير إلى أن قوات "الدعم السريع" تنتهج رواية مضللة تزعم أن بعض المدنيين هم مقاتلون، لتبرير عمليات الإعدام الجماعي، مؤكداً أن ذلك لا يغير من صفتهم المدنية ولا يسقط الحماية القانونية عنهم.

وفي ضوء تقرير "ييل"، فإن الأرقام التي ذكرتها منظمات الأمم المتحدة من قبل ليست مجرد بيانات، بل هي شهادات قانونية ضمنية على حجم الانتهاكات التي قد ترقى إلى جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية بموجب القانون الدولي الإنساني.

ويحذر تقرير "ييل" من أن السودان يقف على حافة كارثة إنسانية كبرى، إذ تتآكل مقومات الحياة الأساسية في دارفور وكردفان والخرطوم، مع تصاعد مؤشرات المجاعة وتدهور النظام الصحي.

وعما يُطرح حول هل ما زال هناك ثمة أمل في العدالة؟ يقول العضو السابق في لجنة محاميي "قوى إعلان الحرية والتغيير"، علي سيد أحمد "من منظور قانوني وإنساني، يظل الأمل ممكناً متى ما تحركت إرادة العدالة جنباً إلى جنب مع الإرادة السياسية، فوقف الحرب أو عقد هدنة لا يقتصر على إسكات البنادق، بل يتطلب إعادة بناء منظومة المساءلة، وضمان عدم الإفلات من العقاب، وإعادة الاعتبار لمبدأ حماية المدنيين الذي يشكل جوهر القانون الدولي الإنساني".

وأضاف سيد أحمد "مسؤولية المجتمع الدولي، وفق ميثاق الأمم المتحدة واتفاقيات جنيف، لا تنحصر في الإغاثة فقط، بل تمتد إلى التحرك لحماية المدنيين ومنع تكرار الانتهاكات الممنهجة، فربما تكمن بذرة الأمل بتحقق العدالة في أن الفظائع التي وثقها تقرير ييل باتت تشكل أرضية قانونية وأخلاقية للتحرك، لا مجرد وثيقة للتاريخ، فحين يتحول الألم إلى وعي قانوني، يمكن أن يصبح خطوة أولى نحو العدالة، ثم السلام".

 

 

 وأكد عضو محاميي "الحرية والتغيير" السابق أن "المحكمة الجنائية الدولية، على رغم بطء إجراءاتها وتعقيدها، تبقى أداة رمزية ومحورية في معركة الضحايا ضد النسيان، كذلك يمكن مجلس حقوق الإنسان والآليات الأممية الخاصة أن يشكلا جسوراً لتثبيت مبدأ المساءلة وتعزيز العدالة الانتقالية داخل السودان".

وأردف قائلاً "قد لا يكفي تقرير ييل وحده لإدانة المتورطين، لكنه بلا شك يضع اللبنة الأولى في سجل العدالة المقبلة، التي تتأسس على التوثيق، وتستمد قوتها من الإصرار على الأمل في وجه الانهيار".

شلل هيكلي

يبدو أن المشهد السوداني، كما تعكسه تقارير مجلس الأمن والكونغرس الأميركي والحكومة البريطانية، يقترب من لحظة اختبار أخلاقي وسياسي حاسم، فبيان مجلس الأمن بشأن سيطرة قوات "الدعم السريع" على الفاشر، وإن حمل في ظاهره لهجة حازمة وقلقاً بالغاً إزاء الانتهاكات الواسعة، فإنه ظل محكوماً بحدود الإدانة الرمزية، من دون آليات تنفيذية توازي حجم الكارثة، فالمجلس، المقسم بين مصالح القوى الكبرى، اكتفى بصياغة تحفظ التوازن الدبلوماسي أكثر مما تفتح طريقاً لردع فعلي أو تدخل وقائي، أما الاتهامات الصريحة التي أطلقها مشرعون أميركيون ضد قوات "الدعم السريع" بوصفها مسؤولة عن "إبادة جماعية"، فهي وإن مثلت تصعيداً سياسياً لافتاً داخل واشنطن، إلا أنها تصطدم بالعوائق ذاتها، غياب الإرادة التنفيذية، وتردد الإدارة الأميركية في تحويل الخطاب إلى سياسة عقابية شاملة خشية تداعياتها على التوازنات الدولية.

وفي موازاة ذلك، قدمت بريطانيا تقارير موثقة إلى بعثاتها وشركائها الدوليين توضح أنماطاً منهجية من القتل الجماعي والعنف الجنسي في الفاشر، مستندة إلى شهادات ميدانية وصور أقمار اصطناعية تتقاطع مع ما ورد في تقرير مختبر جامعة ييل، هذا التلاقي بين الدليل العلمي الميداني والتقارير الدبلوماسية الرسمية يمنح الصورة الكلية مصداقية يصعب إنكارها، ويضع أمام المجتمع الدولي قاعدة بيانات يمكن أن تشكل أساساً لفتح تحقيقات جنائية مستقلة.

لكن السؤال الجوهري يبقى، هل يكفي هذا التراكم في الأدلة والإدانات لإحداث تحول حقيقي في ميزان العدالة؟ من الناحية الواقعية، لا تزال أدوات الضغط محدودة، والنظام الدولي يعاني شللاً هيكلياً يمنع تحريك آلية عقابية فاعلة من دون توافق واسع بين القوى الكبرى، غير أن القيمة الفعلية لهذه التقارير تكمن في توثيقها الدقيق الذي يحول الجريمة إلى سجل لا يمكن محوه، وفي كونها تشكل نواة محتملة لأي محكمة دولية مستقبلية أو آلية مساءلة مشتركة.

بين الرمزية الأممية، والاتهامات الأميركية، والتوثيق البريطاني والأكاديمي، يتشكل مشهد مزدوج، واقع دموي على الأرض، وإدراك دولي متنام لعظم الجريمة. يبقى الأمل قائماً، وإن هشاً، في أن يتحول هذا الإدراك إلى إرادة سياسية صلبة، تفرض عقوبات، وتطلق مساراً قضائياً يليق بحجم المأساة. فربما، من بين ركام الحرب وخرائط الأقمار الاصطناعية التي وثقها تقرير "ييل"، تنبعث أولى ملامح العدالة المؤجلة.

اقرأ المزيد

المزيد من تقارير