ملخص
يرى النقاد والمؤرخون أن تلك الأعمال على رغم تقشفها وانتمائها المعلن إلى باخ، فلم تخل من إرهاصات شومانية تحفل، على رغم علميتها، بغرائبية لا يمكن إنكارها، ناهيك بانفتاحها على موسيقى تبدو آتية من بلاد أخرى من دون أن تبتعد كثيراً عن القوانين التي وضعها باخ ولا سيما بالنسبة إلى عالم "الفوغا" المحدود في أسلوبه والشديد الألمانية عادة، ومن هنا، وإلى حد القول إن شومان المقبل كله إنما انطلق من هنا، خطوات لم يتردد كثر من الباحثين في قطعها على أية حال.
إذا كان الموسيقي الألماني الكبير روبرت شومان قد تميز خلال حياته بأعماله الإبداعية الكبيرة والغنية، التي شكلت علامة فارقة في التأليف الأوركسترالي، بل حتى الأوبرالي في زمنه، فإنه تميز كذلك بميزة كانت ولا تزال نادرة في الحياة الموسيقية بصورة عامة وليس في ألمانيا أو أوروبا وحدهما، فهو ومن دون أن يكون ناقداً موسيقياً أو باحثاً في الشؤون الفنية، عرف كيف يتناسى في مرات كثيرة أنه مؤلف موسيقي ليكتب نوعاً من النصوص التقريظية في حق زملاء له من مبدعي هذا الفن، حتى من دون أن يكون شرط ذلك ارتباطه معهم بصداقة معينة، أو حتى بتعارف من كثب، ولا سيما من بالنسبة إلى من كانوا في ذلك الزمن من معاصريه أو من غلاة مواطنيه. وهذا، كما نعرف، أمر لا يمارسه الموسيقيون كثيراً في العادة ولا يزالون يستخفون عن ممارسته حتى في الأزمنة التي نعيشها والتي تتفاهم فيها كل ضروب الأنانية جاعلة من الفنان، أي فنان، لا يضع مواهب الكتابية، إن وجدت، إما في خدمة فنه، أو لرجم منافسيه مهما كان دنوه منهم أو ابتعاده عنهم.
غير أن الأهم من ذلك هو أن نصوصاً كثيرة لشومان أتت بقلمه مخصصة لبعض كبار سابقيه وأساتذته الأقربين في هذا المجال الفني، ومع ذلك نراه في معظم تلك النصوص يبدو وكأنه يبدي اثنين أو ثلاثة منهم معتبراً إياهم معلميه الحقيقيين.
في هذا المجال يمكن ذكر ثلاثة أسماء، فرانز شوبرت، ولودفيغ فون بيتهوفن، وبالطبع جان سيباستيان باخ، الذي كان شومان ينظر إليه على وجه الخصوص بوصفه معلمه الخاص كما معلم الجميع قاطبة. وهو كان يعتبره معلمه الأول، إلى درجة أنه لم يكتف بأن يسير على خطاه في عدد من أعماله الأساسية، بل تجاوز ذلك ليقدم في مرات ومناسبات كثيرة أعمالاً تبدو للوهلة الأولى وكأنها من تأليف باخ، بل تحمل اسم هذا الأخير أحياناً.
كاتب منذ الصبا، مهما يكن من أمر لا بد هنا من أن نذكر أن علاقة شومان بالكتابة بدأت قبل علاقته بالموسيقى. فهو، منذ بدايات ظهور مواهبه الفنية والإبداعية والعلمية بصورة عامة، كان في الـ14 من عمره حين شارك أباه في تأليف كتاب عنوانه "بورتريهات لرجال كبار"، قبل أن يتجه بعد أعوام للكتابة حول عدد من الموسيقيين من بينهم مندلسون، الذي سيصبح من أقرب أصدقائه، كما شوبرت وبيتهوفن، ولكن باخ بصورة خاصة، لكن الأهم من ذلك، بالنسبة إلى هذا الأخير، أن شومان إذ كان يعبر أزمة وجودية عام 1845 وجد عزاءه الوحيد لعبور تلك المرحلة في اشتغاله على ستة أعمال موسيقية تحمل اسم "باخ"، وتبدو مستقاة مباشرة من أسلوب هذا الأخير، في تلحين "الفوغا"، مقتربة من عبقرية باخ إلى حد ما، ناهيك بمقطوعات متنوعة أخرى من بينها ستة أعمال للبيانو على شكل "قانون"، ومقدمات تمهيدية للبيانو أيضاً، وأربع "فوغات" إضافية تنتمي إلى ما كان باخ قد سماه "فن الفوغا" في دراسته الشهيرة التي تحمل العنوان نفسه.
ومن المعروف أن غوص شومان في هذه المؤلفات شفاه من أزمته بشكل جعله يعلن أن شفاءه إنما أتى على يد "بابا باخ" الذي مكنه من أن يعود إلى برانيته والعالم الخارجي، وإلى الحياة الأوركسترالية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ومع ذلك يرى النقاد والمؤرخون أن تلك الأعمال على رغم تقشفها وعلى رغم انتمائها المعلن إلى باخ، لم تخل من إرهاصات شومانية تحفل، على رغم علميتها، بغرائبية لا يمكن إنكارها، ناهيك بانفتاحها على موسيقى تبدو آتية من بلاد أخرى من دون أن تبتعد كثيراً عن القوانين التي وضعها باخ ولا سيما بالنسبة إلى عالم "الفوغا" المحدود في أسلوبه والشديد الألمانية عادة، ومن هنا، وإلى حد القول إن شومان المقبل كله إنما انطلق من هنا، خطوات لم يتردد كثر من الباحثين في قطعها على أية حال.
مجلة للنقد الموسيقي مهما يكن من أمر، قد يكون من الضروري هنا أن نعود نحو دزينة من الأعوام إلى الوراء وتحديداً إلى عام 1833 حين كان شومان في بدايات اهتماماته الأولى بالفن الموسيقي ولا يزال بعد في الـ23 من عمره، ولم يتمكن بعد من اختيار دروبه الموسيقية الخاصة، فهو حينها جمع من حوله في مدينة لايبتزغ حيث يعيش، عدداً من شبان مهتمين مثله بالموسيقى، ليطلق مطبوعة صحافية موسيقية بدت فريدة من نوعها، بخاصة أن مشروعها المعلن لم يكن أقل من تشكيل جبهة إعلامية نقدية تتولى الدفاع عن سادة الموسيقى في ذلك الزمن، من بيتهوفن وباخ إلى فيبر وشوبرت مروراً بشوبان ومندلسون، "على الضد من الحملات المغرضة" التي كانوا يتعرضون لها من جانب كثير من أعداء الحداثة.
حملت المطبوعة عنوان "نيو تسايتشريفت فور ميوزيك" لتعرف اختصاراً بـ"ن ز ف م"، ولعل أطرف ما في تلك المطبوعة أن جميع الذين كانوا يكتبون فيها كانوا يوقعون مقالاتهم بأسماء مستعارة اختاروها لأنفسهم بأنفسهم، فشومان كان يوقع "أوزيبيوس" أو "فلورستان"، وكلارا شومان وقعت باسم "زيليا" أو "كيارا"، بينما وقع مندلسون باسم "فيليكس ميريتيز".
ولعل اللافت أكثر من أي أمر آخر في تلك المطبوعة أن شومان بدا من خلال مقالاته المبكرة فيها، واقعاً تماماً تحت تأثير باخ وبيتهوفن، ولكن ليس تحت تأثير موزارت كما زعم كثر لاحقاً. ومع ذلك بدا شومان وكأنه قد أراد لنفسه أن يربط ربطاً بين الكلاسيكية والرومانسية الألمانيتين، مبدياً خالص إعجابه بعدد من أبناء جيله والجيل السابق مباشرة عليه، ولا سيما مندلسون وفرانتز. أما من خارج ألمانيا فإن كتابات شومان في المطبوعة تمكنت من أن توفر لمحبي سيمفونية الفرنسي هكتور برليوز الغرائبية، أفضل تحليل كتب عنها، في تلك المرحلة المبكرة في الأقل، بينما تحدث شومان عن الفرنسي الآخر مييربير وكأنه "سائس في سيرك"، بينما اعتبر روسيني مجرد "رسام ديكورات" لا أكثر!
من المجلة إلى الكتاب وبقي أن نذكر في هذا السياق نفسه أخيراً أن شومان سيعود عام 1850 إلى تهذيب بعض مقالاته المنشورة في المطبوعة، بل حتى إلى التخفيف من غلواء بعض أحكامه القاطعة فيها، ليضمها يومها إلى كتاب أصدره في ذلك العام تحت عنوان رأى فيه البعض شيئاً من الغرور، "نصائح إلى الموسيقيين الشبان"، لكن "غروره" لم يمنعه من أن يحقق نجاحاً كبيراً ولا سيما في أوساط الموسيقيين الشبان الذي كان موجهاً إليهم. ويذكر في هذا الإطار أن متن الكتاب كان متأتياً من سبعة أعوام عمل فيها شومان مدرساً للموسيقى في الكونسرفاتوار الوطني في لايبتزع، فكان المتن مجموع دروسه هناك وقد أضيف إلى مقالاته السابقة الذكر، ما فتح مجالاً للموسيقي كي يعتبر أيضاً معلماً حقيقياً في عالم الموسيقى.