Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

فنزويلا إشكالية إقليمية في أميركا اللاتينية أم مواجهة قطبية عالمية؟

حملة ترمب بين محاربة كارتيلات المخدرات وتغيير نظام مادورو

مواطن فنزويلي يلبس قميصاً مناهضاً لترمب خلال تظاهرة نظمتها الحكومة الفنزويلية ضد التدخل الأجنبي، في العاصمة كاراكاس، في 30 أكتوبر الماضي (أ ب)

ملخص

كيف يمكن لمخططات ترمب في شأن فنزويلا أن تثير صراعاً أميركياً داخلياً لا سيما مع البنتاغون؟

ما الذي تجري به المقادير داخل القارة الأميركية الجنوبية، أو القارة اللاتينية كما يحلو لبعض تسميتها؟
من الواضح أن هناك تطورات مثيرة وغالباً خطرة تحدث في البحر، وقد يشهدها العالم في البر الفنزويلي عما قريب أيضاً، بحسب تصريحات عدد وافر من كبار المسؤولين الأميركيين.
غني عن البيان أن أميركا اللاتينية مثلت طوال عقود الخلفية الجغرافية للولايات المتحدة، مع ما يمثله ذلك الأمر من أهمية كبرى، غير أن صراعات بعينها شهدتها القارة على الصعيد الأيديولوجي مع واشنطن، ميزت حقباً زمنية بعينها، فقد مال كثير من الأنظمة هناك إلى النهج الاشتراكي، ويبدو أنها عادت مرة جديدة خلال العقدين الأخيرين إلى ذات المسار.

على رأس الدول التي تسبب إزعاجاً كبيراً للولايات المتحدة تأتي فنزويلا، والتي خيل لكثر أنها مع نهاية حقبة الرئيس الراحل هوغو تشافيز، ستشهد سكوناً في الأمواج المتلاطمة مع واشنطن. غير أن أعوام خلفه نيكولاس مادورو، لم تكن برداً وسلاماً، بل ثورة متقدة تكاد تعصف بهدوء المنطقة الكاريبية برمتها، ويمكن أن تمتد النيران إلى ما هو أبعد منها، لتمسك بتلابيب دول أخرى في مقدمها كولومبيا التي ألغت وزارة الخارجية الأميركية تأشيرة رئيسها غوستاف بيترو خلال أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة.
هل هو الماضي يعيد نفسه مرة جديدة؟ أم أن الأمر نوع من أنواع انتقام الجغرافيا؟

ربما يكون المشهد مزيجاً من صراعات التاريخ، ظل الإنسان على الأرض، في تشابكها وتداخلها مع طبيعة الجغرافيا، والتي هي بصمة الخالق في الكون، ومن خلالهما تجري الأحداث عبر ما نسميه بلغة اليوم، "الجيوسياسة".
والشاهد باختصار غير مخل، هو أن القارة اللاتينية، يمكن أن تضحى ميداناً جديداً في مقبل الأيام لنوع من أنواع المخاض العالمي في الطريق إلى ولادة نظام عالمي جديد متغير وديناميكي غير "إستاتيكي"... من أين لنا البداية؟

مواجهات مسلحة في الكاريبي

خلال شهر سبتمبر (أيلول) الماضي، وطوال شهر أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، انطلقت موجة من المواجهات الأميركية المسلحة مع من تصفهم بمهربي المخدرات القادمين من فنزويلا، مما أسفر عن مقتل 27 شخصاً، وبعض يقول إن الرقم أعلى من ذلك بكثير.

الرئيس الأميركي دونالد ترمب يؤكد أن هذه القوارب كانت تحمل مخدرات وأن عصابات فنزويلية تديرها، مثل عصابة "ترن دي أراغو"، التي صنفتها الولايات المتحدة "منظمة إرهابية أجنبية" خلال وقت سابق من هذا العام.
وعلى رغم أن البيت الأبيض وصف هذه العمليات بأنها أعمال دفاع وطني عن النفس ضد "إرهاب المخدرات" في البحر الكاريبي، إلا أن كثيراً من الأصوات في الداخل الأميركي، ذهبت إلى القول إن الأمر يشوبه غموض مقلق، ذلك أنه لا يوجد لدى واشنطن أسماء لمن تقوم بقصفهم، كما أنها لا تحوز أدلة حتمية توضح حيازتهم لتلك المخدرات.

لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فخلال الـ30 من سبتمبر الماضي اقترح الرئيس ترمب مزيداً من التصعيد، وأشار منذ ذلك الحين إلى أن إدارته تعد خيارات عسكرية لاستهداف تجار المخدرات داخل الأراضي الفنزويلية، وورد إشعار من البيت الأبيض أرسل إلى الكونغرس في أوائل أكتوبر 2023، اعتبر أن المهربين "مقاتلين غير شرعيين".

ولعل من أهم تداعيات هذا الإعلان أنه يبرر استخدام القوة المميتة ضد فئات غير محددة من أعضاء الكارتيلات، معتبراً إياهم جنوداً أعداء. لكن نظراً إلى قلة المعلومات التي قدمتها إدارة ترمب حول الضربات ومبرراتها القانونية، فمن غير الواضح إلى أي مدى يتجاوز البيت الأبيض هذه النظرية.

يمكن تشبيه الصراع المسلح الدائر الآن قرب فنزويلا، بالصراع الذي حدث مع تنظيم "القاعدة" وفروعه، وهو وفق مصطلح قانوني أدق "الحرب العالمية على الإرهاب". وشكل ذلك على مدى خمس إدارات رئاسية حتى الآن، الأساس القانوني، لاستخدام القوة المميتة، واعتقال عناصر "القاعدة". ويبدو أن إدارة ترمب تطبق النموذج نفسه، ولكن هذه المرة ضد عصابات المخدرات بدلاً من جماعة إرهابية عابرة للحدود.

غير أن التحركات العسكرية الأميركية الأخيرة في الكاريبي، وقرب فنزويلا، تأخذنا إلى منطقة أخرى من الصراع، ذلك أنه يمكن القطع بأن محاربة مهربي المخدرات، لا تحتاج إلى مثل ذلك الحشد العسكري الكبير، إذ توجد أمام سواحل فنزويلا قطع بحرية أميركية من السفن والحاملات الصغيرة، عطفاً على احتمالات وجود غواصات نووية، وتجهيزات لبضعة آلاف من مشاة البحرية، مما يطرح علامة استفهام كبرى ترتسم في الأفق حول الهدف الرئيس من التحركات الأميركية، وهل تتجاوز هدف حماية الداخل الأميركي من تهريب المخدرات إلى غرض سياسي آخر؟

مادورو وإشكالية تغيير النظام

عشية الأحد الـ26 من أكتوبر الماضي، وعبر برنامج "60 دقيقة" الأميركي الشهير على قناة "سي بي أس نيوز"، استبعد عضو مجلس الشيوخ السيناتور ريك سكوت من ولاية فلوريدا حدوث غزو بري لفنزويلا، لكنه أضاف أنها لن تكون مفاجأة بحال حدوث ذلك.

غير أن التصريح الأخطر الذي فاه به هو قوله إن "أيام مادورو في الحكم باتت قليلة، وعليه أن يسعى من الآن إلى خروج آمن، وأن يجد لنفسه ملاذاً مضموناً، واقترح رحيله إلى موسكو أو بكين".
وحتى تكتمل الصورة، وجدنا السيناتور النافذ رئيس لجنة القوات المسلحة السابق في مجلس الشيوخ ليندسي غراهام وعبر برنامج "واجه الأمة" على المحطة التلفزيونية عينها، يصرح بأنه يتوقع تدخلاً برياً في فنزويلا.

خلال صباح اليوم التالي، أي الإثنين الـ27 من أكتوبر، حاورت شبكة "أكسيوس" (Axios) الأميركية، والتي تعد اليوم الناقل الرئيس لأخبار البيت الأبيض والكونغرس الأميركي، وزير الدفاع السابق ليون بانيتا، الذي شغل كذلك منصب مدير الاستخبارات المركزية الأميركية (أف بي آي) فما الذي قاله؟

فتح بانيتا الباب واسعاً أمام الهواجس والشكوك كافة التي تنتاب الأميركيين، وطالب إدارة ترمب بأن تخاطب الكونغرس والشعب الأميركي بصراحة تامة حول ما يجري، وهل الهدف هو كارتلات المخدرات أم النظام الفنزويلي نفسه؟

حديث بانيتا ذكر الأميركيين بأن الإدارة الأميركية الحالية تضم في هيكليتها وزير الخارجية مارك روبيو، الذي اعتبر في حديث سابق مع "فوكس نيوز"، أن مادورو رئيس غير شرعي لفنزويلا، وأن عملية إزاحته لا تعد تجاوزاً للقانون الدولي الذي يضفي شرعية على رؤساء الدول.

بالتالي، سيكون من الطبيعي أن يصدق الأميركيون أن المطلوب هو رأس النظام الفنزويلي، لا سيما أن إدارة ترمب كانت رصدت 50 مليون دولار لمن يسلمه لواشنطن، أي أكثر من ضعف المكافأة التي رصدتها واشنطن مقابل أسامة بن لادن أو أبو مصعب الزرقاوي.

من هنا يبدو واضحاً أن هناك توجهاً عسكرياً ما، يتجاوز في حقيقته قطع الطريق على تجار المخدرات وبضاعتهم الفاسدة التي تقتل الشباب الأميركي، ويدخل المشهد في سياق صراع أيديولوجي أوسع وأعرض بكثير.

أميركا: مادورو رئيس غير شرعي

على رغم المناشدات التي أطلقها الرئيس الفنزويلي مادورو حول رغبته في العيش بسلام، فإنه من الواضح أن قراراً فوقياً أميركياً اتخذ لإنهاء وجوده كرئيس لفنزويلا، وهناك لائحة من الاتهامات المتطايرة بمواجهته.

يتهم الأميركيون مادورو بأنه كان السبب وراء التضخم الاقتصادي الكارثي الذي أصاب البلاد، وتسبب في صراع مسلح داخلي.

منذ تصاعد الأزمة في عام 2015، فر ما يقدر بثمانية ملايين فنزويلي من بلادهم، واستقر 85 في المئة منهم في دول أخرى في أميركا اللاتينية، بما في ذلك 3 ملايين في الأقل في كولومبيا وحدها.

وعلى رغم تزايد الضغوط والعقوبات في أوائل عام 2019، تمكن مادورو من الحفاظ على قبضته على السلطة بل وترسيخها، فيما كانت واشنطن ترى أنه يجب عليه الرحيل.

أحيا الرئيس ترمب حملته "الضغط الأقصى" على فنزويلا، متهماً إياها بتهريب كميات كبيرة من الكوكايين إلى الولايات المتحدة.

لكن الواقع كان يشير إلى أن هناك في البيت الأبيض من يرى ما هو أخطر من ذلك. لم يكن توجه ترمب لجهة تغيير اسم وزارة الدفاع إلى وزارة الحرب، أمراً من قبيل المصادفة القدرية، بل يعد تخطيطاً استراتيجياً يراد منه وبه مستقبل أميركا اللاتينية برمتها، حتى وإن بدأ الأمر من عند مادورو في فنزويلا، وتالياً كولومبيا، وربما تصدق هنا نظرية أحجار الدومينو.

على أنه وفيما آلة الحرب الأميركية العسكرية تتجه نحو فنزويلا، فإن الجدل السياسي ينشب في الداخل الأميركي حول آلية الاشتباك، وهل يأخذ ترمب بلاده إلى مستنقع جديد في أميركا اللاتينية من خلال أوامر تنفيذية عليا، ومن غير التشاور مع الكونغرس واستصدار موافقات رسمية من نواب الشعب الأميركي؟
في كل الأحوال يبقى البعد السياسي الأكثر خطورة بالنسبة إلى الولايات المتحدة، وهو تمدد النفوذ الأجنبي داخل القارة اللاتينية، مما يمكن أن يدفع نواب الشعب، ديمقراطيين وجمهوريين، على السير في طريق العسكرة كأداة للتعاطي مع القارة الجارة، وقطعاً على التمدد القطبي لقوتين متحدتين معاً، وتشكلان معاً محاولة لمكافحة النفوذ الأميركي في الجزء الغربي من الكرة الأرضية... ماذا عن ذلك؟

قطع الطريق على التنين الصيني

منذ بداية الألفية الثالثة، ومع بدايات صعودها القطبي، بدا واضحاً أن الصين تقدر لرجلها قبل الخطو موضعها، وقد قر لديها أن العالم القديم المتمثل في أوروبا استنفذ فرص التنمية كافة، فيما ركزت جهودها على قارتي أفريقيا وأميركا اللاتينية، حيث الموارد الطبيعية موجودة بوفرة، والديموغرافيا تتصاعد كقوة عمل.

يكتب رئيس تحرير مجلة "فورين بوليسي" الأميركية نعيم موسى، منبهاً من أن الصين ستكسب معركة القلوب اللاتينية والأفريقية من خلال القروض الساخنة التي تقدمها، من غير شروط مرتبطة بالديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان كما تفعل الولايات المتحدة.
من هنا أضحت الصين أكبر شريك تجاري لفنزويلا، وبسبب الحصار الاقتصادي الأميركي المستمر منذ عقد والعقوبات الدبلوماسية، ازداد اعتماد فنزويلا على التجارة والاستثمار الصينيين على مر الأعوام. وفي إطار مبادرة "الحزام والطريق" الصينية، حصلت فنزويلا على عشرات المليارات من الدولارات على صورة قروض ومعاملات تجارية واستثمارات.

في الواقع، ليس من قبيل المبالغة القول إن فنزويلا أصبحت أكبر عميل للصين داخل أميركا اللاتينية، فمنذ وصول نظام هوغو تشافيز ذي الميول اليسارية إلى السلطة قبل نحو ثلاثة عقود، قدمت بكين قروضاً لفنزويلا تصل قيمتها إلى 62.5 مليار دولار. وفي ظل الظروف الراهنة، لا تزال الصين أكبر دائن لفنزويلا.

من هنا يمكن التساؤل، هل من يدفع للجوقة هو من يحدد اللحن؟

المؤكد أن هذا هو أكثر ما باتت تخشاه واشنطن، وبخاصة في ظل سعي الصين الحثيث إلى بناء إمبراطوريتها الخراسانية داخل القارة اللاتينية، بدءاً من قناة بنما، مروراً بفنزويلا، وصولاً إلى البرازيل والإكوادور وبقية الدول النامية هناك، لا سيما أن ما يجمعها هو المقت الشديد للفوقية الإمبريالية الأميركية.

هل من جزئية بعينها تجعل فنزويلا مطمعاً وموقعاً استراتيجياً بالنسبة إلى الصين، مما يتسبب لواشنطن بقلق بالنهار وأرق بالليل؟

بكين - كركاس والمخزون النفطي

لا يغيب عن أعين واشنطن، مالئة الدنيا وشاغلة الناس، أن فنزويلا تمتلك أكبر احتياطات نفطية مؤكدة في العالم، تتركز بصورة رئيسة في "حزام أورينكو"، ويعتمد اقتصادها بصورة كبيرة على صناعة النفط. وعلى رغم مواجهة تحديدات مثل نقص الاستثمار وسوء الإدارة بدأ إنتاج النفط في الارتفاع، إذ وصلت الصادرات إلى ما يقارب مليون برميل يومياً، موجهة بصورة رئيسة نحو الأسواق الآسيوية.

يشكل المخزون الاستراتيجي من النفط في فنزويلا، رقماً وازناً في خريطة الاحتياطات العالمية، ويصل إلى 303 مليارات برميل، وصادرات تصل إلى مليون برميل يومياً.

استثمرت الصين بكثافة في هذا القطاع، وغني عن القول إن شركاتها تمتلك حالياً حصصاً كبيرة في النفط الفنزويلي وشبكات الكهرباء والبنية التحتية.

خلال الوقت ذاته تحافظ الصين على مصالح اقتصادية استراتيجية طويلة الأمد في فنزويلا. وخلال أواخر أغسطس (آب) الماضي، أعلنت شركة صينية خاصة عن خطط لاستثمار أكثر من مليار دولار داخل بئر نفطية في البلاد، من المتوقع أن تنتج 60 ألف برميل من النفط الخام بحلول نهاية عام 2026، بموجب عقد تقاسم إنتاج مدته 20 عاماً.

وعلى رغم هذا الاعتماد الشديد، تمكن مادورو من استخدام احتياط النفط كوسيلة ضغط لتصوير نفسه، ليس فقط كمتلق يستحق المساعدة الصينية بل كأصل استراتيجي لبكين.

لا تكتفي الصين بالنظر إلى المخزون النفطي الفنزويلي كورقة رابحة في صراعاتها الاقتصادية مع الولايات المتحدة، بل تمتد أطرافها لتكون صانعاً وفاعلاً مباشراً على الأرض الفنزويلية، لا سيما في جانب القطاع التصنيعي مثل تجهيز الأغذية والمنسوجات ومواد البناء، وإنتاج الحديد والصلب، ما يعني أنها هي من سيقدر لها استخدام النفط الفنزويلي على الأرض، وجعل فنزويلا مركزاً تصنيعياً متقدماً لبكين يقوم بتصدير منتجاته إلى النصف الغربي من الكرة الأرضية بأكمله.

هل يمكن لواشنطن أن تقف عاقدة الأذرع على الصدور فيما ترى النفط الفنزويلي يتسرب إلى النفوذ الصيني؟

 من المؤكد أنه وحتى عقدين مقبلين، سيظل النفط هو سائل الحضارة المؤكد، وواشنطن تتطلع إلى تأمين مزيد منه لتأكيد هيمنتها على العالم، وتنفيذ رؤية "أميركا العظيمة" لصاحبها دونالد ترمب، إلى نهاية القرن الـ21، ورسم المحافظون القدماء خلال التسعينيات، والمحدثين منهم من جماعة "هيرتاج فونديشن" في حاضرات أيامنا، وعلى رأسهم جي دي فانس، نائب ترمب اليوم، والرئيس الجمهوري المتوقع خلال عام 2028.
ليس سراً أن إدارة ترمب الحالية تدرك أن الأزمة الروسية – الأوكرانية تتعقد يوماً تلو الآخر، وأن بوتين يتلاعب بالجميع، وربما ينفلش (يخرج عن السيطرة) المشهد عن غير قصد إلى مواجهة أوسع وأشمل، وساعتها ستكون أزمة الطاقة عالمية.

من جانب آخر، ومهما قيل خلاف ذلك، فإن هناك تسريبات تخص مستقبل المواجهة مع إيران، والتي ترتبط ارتباطاً جذرياً بالصين.

ترتبط طهران ارتباطاً جذرياً ببكين، ويعد النفط الإيراني أحد أهم مصادر الطاقة في الصين. في هذا السياق فإنه حال تعرض إيران لهجمات ساحقة ماحقة من جانب إسرائيل والولايات المتحدة، ستكون فنزويلا البديل الجاهز لتكمل القطبية الصينية مساراتها، ولتتعاظم جهودها في نصف الكرة الغربي.
هل المشهد في فنزويلا، والأخطار الجيوسياسية التي تتعرض لها الولايات المتحدة قاصرة على الصين، أم أن هناك مهدداً آخر يدعو إلى التعجيل برحيل مادورو، وليس بمطاردة كارتيلات المخدرات كما تزعم إدارة الرئيس ترمب بعد هجماتها الأخيرة في الكاريبي؟

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

روسيا وفنزويلا علاقة عضوية

خلال الـ27 من أكتوبر الماضي، أي في عز الزوبعة الأميركية مقابل شواطئ فنزويلا، جرى أمر غريب، فقد وقع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قانوناً يصادق على معاهدة الشراكة الاستراتيجية والتعاون مع فنزويلا.

يهدف الاتفاق الذي وقع خلال السابع من مايو (أيار) 2025، إلى تعزيز "الشراكة القائمة على الثقة" بين البلدين في المجالات الاقتصادية والعسكرية.

وتنص الوثيقة صراحة على أن روسيا وفنزويلا "ستعارضان بشدة التدابير القسرية والتنفيذية الأحادية الجانب (العقوبات)، بما في ذلك، تلك التي تتجاوز الحدود الإقليمية. وتصف المعاهدة هذه العقوبات بأنها "انتهاك لميثاق الأمم المتحدة" و"مظهر من مظاهر الاستعمار الجديد"، و"أداة ضغط وخنق اقتصادي"، ضد الدول ذات السيادة.

هل يمكن أن يكون توقيع بوتين في هذا التوقيت من قبيل المصادفات العشوائية؟

الجواب يأخذنا إلى عمق العلاقات الروسية – الفنزويلية، فقد كانت روسيا من أوائل الدول التي اعترفت بفوز مادورو في الانتخابات الرئاسية الأخيرة.

ضمن هذا السياق تصف الناشطة السياسية الفنزويلية مرسيدس دي فريتاس مديرة منظمة "شفافية فنزويلا" لموقع "غيه كيو"، مشهد العلاقات بين موسكو وكركاس بأنه "لو كان الأمر بيد مادورو لكانت فنزويلا أقرب ما تكون إلى مستعمرة روسية، لأن بوتين يحتاج إلى مواد فنزويلا الخام، ومادورو يحتاج إلى مليارات بوتين".

أحد الأسئلة المثيرة في العلاقة الروسية – الفنزويلية هو "هل موسكو راضية عن العلاقات الوثيقة بين بكين وكركاس؟".

الجواب أشرنا إليه ضمن تقارير عدة سابقة، وهو أنه على رغم المشاهد الوفاقية بين روسيا والصين خلال الأعوام الأخيرة، فإنها ليست علاقة عضوية، ذلك أن الطبقات الحضارية بين البلدين مختلفة اختلافاً شاسعاً وواسعاً، والخلاف كبير بين الكونفوشيوسية والأرثوذكسية الروسية.

ومن هنا قد لا يبدو مريحاً بالنسبة إلى الروس أن يشاهدوا مثل هذا التغول الصيني داخل القارة اللاتينية، وعليه تبدو هناك منافسة خفية في الفوز بقلب وعقل فنزويلا، مع وجود مادورو أو من دونه.

لكن ضمن سياق العلاقات الفنزويلية - الروسية، تطفو على السطح إشكالية أخرى أكثر إزعاجاً لـ"العم سام"، تلك المتعلقة بالأسلحة الروسية، والتي تمتلك كركاس منها أنواعاً متقدمة كفيلة بأن تحدث خسائر جسيمة بالفعل في صفوف القوات الأميركية بحال تعرضت فنزويلا لغزو بري... ماذا عن تلك الجزئية تحديداً؟

الأسلحة الروسية والصينية والمواجهة الأميركية

ضمن تقرير مطول نشر خلال الـ28 من أكتوبر الماضي، أشار مراسل أخبار الدفاع في أوروبا والمحقق في عالم الاستخبارات ذات المصادر المفتوحة لينوس هولر، إلى أنه نهار الأحد الـ26 من الشهر عينه وصلت طائرة النقل الروسية "إليوشن إيل- 76" إلى كاراكس بعد رحلة استغرقت يومين، انطلقت من روسيا عبر أرمينيا والجزائر والمغرب والسنغال وموريتانيا متجهة إلى أميركا اللاتينية، ويبدو أن الطائرة انطلقت من مطار في منطقة موسكو الكبرى.

تجسد هذه الرحلة متعددة المحطات الطرق غير المباشرة المستخدمة لتجنب المجال الجوي الغربي أو عمليات تفتيش البضائع المحتملة داخل دول غير صديقة. ومن المحتمل أيضاً أن تكون جرت عمليات تسليم أو تسلم على طول الطريق.

تستطيع هذه الطائرة نقل قرابة 50 طناً من البضائع أو ما يصل إلى 200 شخص. ومن المعروف أن طائرات من هذا النوع نقلت أسلحة صغيرة وإمدادات عسكرية، بل وحتى مرتزقة لمصلحة روسيا في الماضي، والسؤال هنا، هل كانت تحمل أسلحة وعتاداً لفنزويلا؟

مع احتدام ما يشبه الحصار البحري على فنزويلا، وبدء المناورات العسكرية في الداخل، فوجئ العالم كله بتصريحات مثيرة للرئيس الفنزويلي أعلن فيها أن بلاده تمتلك قرابة 5000 صاروخ مضاد للطائرات روسي الصنع داخل "مواقع دفاع جوي رئيسة".
وخلال حديث مع أفراد عسكريين بثته قناة فنزويلا التلفزيونية (VTV) أكد مادورو أن "أية قوة عسكرية في العالم تعرف قوة إيغلا- أس، وفنزويلا لديها ما لا يقل عن 5000 منها".

صواريخ "إيغلا – أس" الروسية، هي أنظمة قصيرة المدى ومنخفضة الارتفاع تشبه صواريخ "ستينغر" الأميركية، بإمكانها إسقاط أهداف جوية صغيرة مثل صواريخ كروز والطائرات المسيرة، إضافة إلى المروحيات والطائرات التي تحلق على ارتفاع منخفض.

هل هذا هو السلاح الروسي الوحيد الذي تملكه فنزويلا؟

بالقطع لا، فهناك الصواريخ من نوعية KH-31 والتي يصل مداها إلى 50 كيلومتراً، ويمكنها تهديد عدد من قطع السفن البحرية الأميركية في مياه الكاريبي.

هل يعني ذلك إذا حاولت واشنطن التدخل بالقوة في فنزويلا، سيكون هناك صراع وتناحر بين الأسلحة الروسية والأميركية؟

بالقطع ستكون هناك في ساحات الوغى نوعيات مختلفة من الأسلحة الصينية، وغالب الظن أن الجميع سيعاين أسلحة حديثة ستظهر فاعليتها، لا سيما أن 90 في المئة من شحنات الأسلحة الصينية إلى أميركا اللاتينية خلال الأعوام الماضية، وجهت إلى فنزويلا. وعلى رغم أن هذا الجانب ليس بارزاً بقدر استثماراتها الاقتصادية، فإنه يشكل تحدياً كبيراً للولايات المتحدة.

فما الذي تتطلع إليه الولايات المتحدة عبر سياساتها الخارجية بالنسبة إلى القارة الجارة؟

لقاء الجنرالات ونصف الكرة الغربي

من بين أفضل الذين قدموا رؤية واضحة لما يجري على صعيد علاقات واشنطن ببقية العوالم والعواصم اللاتينية، يأتي البروفيسور ليون هدار محلل السياسة الخارجية وصاحب المقالات الشهير في "نيويورك تايمز"، و"واشنطن بوست"، وغيرهما من كبريات الصحف الأميركية.

هدار يرى أنه لأعوام طوال اهتمت السياسات الأميركية الخارجية بقضايا تخص الشرق الأوسط وآسيا الشرقية، وانخرطت في محاولات وهمية لاحتواء الصين من خلال تطويقها عسكرياً في غرب المحيط الهادئ.

خلال الوقت عينه نُظر إلى دول نصف الكرة الأميركي كفكرة ثانوية، وكمجموعة من الدول التابعة التي يتوقع منها ببساطة أن تتوافق مع التفضيلات الأميركية، بينما القيادات الأميركية تركز على مناطق أكثر أهمية.

هنا يبدو أن الرئيس ترمب، عاد وبقوة إلى صميم "مبدأ مونرو"، والذي يعد النفوذ الأميركي في نصف الكرة الغربي شأناً أميركياً خالصاً.

الذين تابعوا لقاء الجنرالات الأميركيين مع وزير الحرب بيت هيغسيث، رسخت لديهم قناعة مفادها أن هناك عودة قوية إلى دول أميركا اللاتينية، والتي بدأت تتحرك وبقوة نحو "البريكس" مجتمعة، أو لجهة الصين وروسيا منفردة.

في نهاية المطاف، يبدو أن هناك اليوم داخل البيت الأبيض من يؤمن بأنه في نصف الكرة الغربي تكمن المصالح الاستراتيجية الحقيقية للولايات المتحدة، لا من قبيل التعصب القومي أو الحنين إلى الإمبريالية، بل ببساطة الجغرافيا والاقتصاد، والحدود والعلاقات التجارية، وتحديات الهجرة ومواجهتها، وأمن الطاقة ومستقبله، مخاوف حقيقية في شأن الأمن القومي كلها مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بما يحدث داخل أميركا اللاتينية ومنطقة بحر الكاريبي.

 غير أن السؤال الذي يطرح ذاته بذاته هو "هل ستتمكن الولايات المتحدة من إعادة بسط نفوذها دفعة واحدة بالقوة العسكرية داخل أميركا اللاتينية، أم أن هناك ميكانيزمات دبلوماسية يمكن من خلالها العودة من جديد كقوة تبشيرية سياسية، إن جاز القول، تحمل ملامح ومعالم الحرية والليبرالية والديمقراطية الحقيقية غير المنحولة؟

ربما يتطلب الأمر متابعة محققة ومدققة لمجريات الأحداث في مقبل الأيام.

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات