ملخص
هكذا شيدت قوات "الدعم السريع" إمبراطورية الذهب التي مولت بناء الميليشيات وشراء السلاح.
على رغم غنى دارفور بشتى أنواع الموارد من نفط ويورانيوم ومياه جوفية وثروة حيوانية وموارد طبيعية أخرى يتصدرها معدن الذهب النفيس، لكنها ظلت أبداً في حال من الصراع والنزاعات الدموية، تشكو التهميش وتعيش حياة البداوة وشح الخدمات الحضرية من صحة وتعليم وطرق وكهرباء. وسط هذا الواقع وفي ظل التهميش ظهرت قوات "الدعم السريع" ما بين عامي 2016 و2017 لتبني إمبراطورية خاصة بها من ذهب دارفور تمول عبرها أنشطتها وعملياتها العسكرية.
موارد وصراع
في خضم الحرب الدائرة والصراع المحتدم حول مدينة الفاشر عاصمة شمال دارفور، وخلال زيارته إلى مخيم للاجئين السودانيين على الحدود مع دولة تشاد المجاورة للسودان من جهة الغرب، في يناير (كانون الثاني) 2025، قال وزير الخارجية البريطاني السابق ديفيد لامي، إن "المعركة على الفاشر ليست سياسية فحسب، بل اقتصادية أيضاً"، فيما أشارت بعض الهيئات والمنظمات، إلى أنه وعلى رغم موارد وإمكانات دارفور التعدينية الهائلة، غير أن معدن الذهب يظل المحرك الأساس للصراع، بينما أشار خبراء من الأمم المتحدة إلى أن تعدين الذهب يعد "المصدر الرئيس لتمويل الصراع"، منوهين بأن "السيطرة على شمال دارفور عبر عاصمتها الفاشر يفتح منفذاً مباشراً إلى كل من ليبيا وتشاد مما يسهل عمليات تهريب الذهب واستيراد السلاح".
فكيف أشعلت المنافسة على مصادر ومورد الذهب الصراع في دارفور، وأججت حرب السودان؟
الذهب وتمويل الحرب
في السياق يرى المتخصص في الشأن الاقتصادي السياسي، أزهري عبدالرؤوف عثمان، أن "معدن الذهب تحول فعلياً إلى مصدر تمويل مباشر للمجموعات المسلحة وللمسلحين العاملين في المناجم والبيع غير الرسمي للذهب الذي يحقق مكاسب مالية فورية وكبيرة، ويوفر سيولة سريعة وقيمة نقدية كبيرة تستخدم لشراء الأسلحة والمعدات العسكرية، وتسديد رواتب المقاتلين، وتمويل العمليات الحربية، مما يحول المناجم إلى هدف استراتيجي يجب السيطرة عليه". ويضيف أنه "يصعب الجزم بأن الذهب والمعادن هي التي خلقت الصراع بحد ذاتها، لكن يمكن القول إنها أعطت أصحاب السلاح حافزاً اقتصادياً للبقاء والتمدد، وتكمن الخطورة في ذلك، ليس في كونه يحمل شبهة الدخل غير المشروع فحسب، بل أيضاً لأنه يحول استخراج الموارد إلى مكاسب عسكرية من دون أن تستفيد منها المجتمعاًت المحلية".
ويضيف أنه "على مدار أعوام طويلة سيطرت قوات 'الدعم السريع' على أكبر منجم في جبل عامر الغني بالذهب في شمال دارفور ومن بعده مناجم 'سونغو' بوضع اليد وقوة السلاح، مما مكنها من بناء إمبراطورية من شبكات التنقيب والتصدير والتجارة والاستيراد خارج دورة الاقتصاد السوداني. ومع التسهيلات التي كانت تتمتع بها قوات 'الدعم السريع' مستغلة عملها آنذاك تحت مظلة الجيش، فكانت تمول صفقات السلاح وتستورده ثم يذهب بعد دخوله البلاد إلى معسكراتها".
حوافز السيطرة
كما يشير عثمان إلى أنه "بدل إدارة الموارد عبر مؤسسات الدولة أو السلطات والمجتمعات المحلية، فإن حوافز السيطرة العسكرية تحول كل مردودها لمصلحة ميليشيات مسلحة، مما يزيد من أهمية سيطرتها العسكرية على أراض معينة، وغالباً ما تحدث مثل هذه الممارسات بوجود جهات داخل الدولة أو خارجها تتواطأ بصورة أو بأخرى بدافع المصلحة أو الخوف، مع أولئك المسلحين بتمكينهم من الاستحواذ على الموارد العامة والثروات القومية، في علاقات مصلحة مشبوهة ومتداخلة".
ويعتقد المتخصص في الشأن الاقتصادي السياسي أن "مثل تلك الممارسات، التي على رأسها سياسة وضع اليد بقوة السلاح على موارد البلاد ومنها مناجم الذهب، هي التي أدت إلى ظهور اقتصاد الظل والتهريب الذي تديره شبكات موازية للأجهزة الرسمية، ساعد في ذلك وفرة طرق التهريب العابر للحدود ووجود الأسواق السوداء والرمادية التي تسمح بتدوير الذهب خارج إطار الدولة، إلى جانب ظهور طبقة من الوسطاء والسماسرة وتجار الحرب عبر الحدود لتكريس استفادتها من استمرار الفوضى".
نار النزاعات
ويتابع "غالباً ما يؤدي توافر المجموعات المسلحة على موارد تمثل مصدراً للأرباح الفورية الكبيرة، إلى تقلص رغبتها في الحلول السياسية لأنها ببساطة ستحرمها من تلك المكاسب، ومن ثم يصبح البحث عن المصالحات أقل جاذبية بالنسبة إليها، إلا إذا كانت تنطوي على صفقة تضمن مصالحها الاقتصادية بعد انتهاء النزاع". ويلفت عثمان إلى أن "المنافسة على مواقع التعدين في دارفور تسببت في صب مزيد من الزيت على نار النزاعات التي كانت قائمة أصلاً حول الأراضي الزراعية والرعي، وتطورها إلى نزاعات مسلحة بين المجموعات السكانية العرقية أو القبلية الزراعية والرعوية، في ظل تداخل مسارات الرعي مع مواقع الزراعة أو التنقيب".
ليس ذلك فحسب فقد عزز نمط احتكار الموارد وفق الأكاديمي، "إذكاء الصراع داخل النسيج الاجتماعي مما أدى بدوره إلى نزاعات نزوحاً وتهجيراً، وكسر هياكل الحماية التقليدية، فأصبح الميدان أكثر هشاشة وانتشرت عناصر العنف والانتقام".
إنتاج مستمر
ويتركز معظم نشاط "الدعم السريع" في عمليات التنقيب والتعدين في منطقتي جبل عامر بمحلية "السريف" (100 كيلومتر شمال مدينة الفاشر عاصمة شمال دارفور)، ومناجم "سونغو" بمحلية "الردوم" بولاية جنوب دارفور، الخاضعة لسيطرتها منذ وقت مبكر من نشوب الحرب في السودان، وذلك عبر شركة الجنيد لتعدين وتصدير الذهب التابعة لها، التي تتركز معظم أنشطتها في الاستفادة من مخلفات التعدين التقليدي المعروفة بـ"الكرتة" أي البواقي، بإعادة طحنها واستخلاص الذهب منها، وتصدير المنتج النهائي إلى الإمارات التي تشكل المركز الرئيس لشركات "الدعم السريع" المرتبطة بشراء وبيع وتصدير الذهب، التي يسيطر عليها الجنرال محمد حمدان دقلو (حميدتي) وأقاربه وتوظيف العائدات لشراء الأسلحة.
ويرى باحثون في مجال الذهب أنه "على رغم الاضطراب الذي أحدثته حرب منتصف أبريل (نيسان) 2023، بالنسبة إلى أنشطة التعدين في المناطق الغنية بالمعدن، غير أن الإنتاج في المناطق التي يسيطر عليها كل من الجانبين المتحاربين في غرب وشرق وشمال البلاد ظل مستمراً بمعدلات كبيرة".
العقوبات الأميركية
في العام التالي للحرب (2024)، فرضت الولايات المتحدة عقوبات على شركة الجنيد، كما شملت عقوبات لاحقة 11 شركة تابعة لـ"الدعم السريع" لها صلة بتجارة الذهب، معظمها مسجل أيضاً في الإمارات.
وبررت الولايات المتحدة استهداف تلك الشركات بالعقوبات، بدعوى أن الذهب أصبح المصدر الأول لإيرادات "الدعم السريع" وقائدها.
وبحسب وزارة المعادن، فقد استولت قوات "الدعم السريع" على 1273 كيلوغراماً من الذهب عند اندلاع الحرب من مصفاة الذهب الحكومية بالعاصمة الخرطوم.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
مواجهات سونغو
في الشهر التالي لنشوب الحرب، وانتقالها في مايو (أيار) 2023، من الخرطوم إلى دارفور في غرب السودان، وصلت المواجهات بين الجيش و"الدعم السريع" إلى منطقة مناجم سونغو بولاية جنوب دارفور، إلا أن قوات "الدعم السريع"، ومن أجل الحفاظ على مناجم الذهب، تمكنت من إجبار الفرقة 21 للجيش على الانسحاب وسيطرت على مدينة نيالا عاصمة جنوب دارفور، مما ضمن لها استمرار الهيمنة على مناجم الذهب في منطقة سونغو.
تجفيف ومنع
وفي سعيها لتجفيف أهم مصادر دخل "الدعم السريع"، ظلت طائرات الجيش تقصف منطقة جبل سونغو مرات عدة بصورة متكررة، كما عمل الجيش بقوة لمنع دخول "الدعم السريع" إلى شمال السودان، حيث يتركز ثقل قطاع تعدين الذهب. وعلى رغم نجاح الجيش في ذلك لكن تهديدات "الدعم السريع" للتوسع في شمال البلاد لا تزال قائمة.
وكانت قوات "الدعم السريع" وفق باحثين، تهرب ذهبها من دارفور عبر الحدود التشادية وكذلك عبر جنوب السودان، قبل أن تتمكن من السيطرة على مدينة نيالا، وتجهز مطارها الإقليمي لاستخدامه في تصدير الذهب بعيداً من أعين الجميع.
ودفع هذا الوضع بالجيش إلى توجيه ضربات جورية أخرجت المطار من الخدمة مرات عدة، غير أن "الدعم السريع" ظلت في كل مرة تعيد تأهيله وتلجأ أحياناً إلى استخدام مهابط فرعية أخرى في حقول بليلة للنفط بغرب كردفان.
قفزة في الإنتاج
وقدرت إحصاءات رسمية الفجوة الناجمة عن التهريب والتهرب من إعادة حصيلة الصادر من الذهب، بأكثر من 6 مليارات دولار سنوياً. وبينما بلغ الإنتاج خلال الأشهر الـتسعة الماضية، 53 طناً من الذهب، بقيمة 7 مليارات دولار، غير أن ما دخل إلى خزانة الدولة كان أقل من مليار دولار، 909 ملايين دولار فقط على وجه التحديد.
وكشف تقرير لشركة السودانية للموارد المعدنية، للفترة من يناير (كانون الثاني) إلى سبتمبر (أيلول) 2025، أن إنتاج الذهب بلغ خلال هذه الفترة 53 طناً، مقارنة بـ64 طناً لكامل العام السابق 2024.
ومنذ بدء الحرب يتم تهريب كل كميات الذهب المنتجة من المناجم التي تهمين عليها قوات "الدعم السريع" بسرية تامة، من دون علم حتى كبار المهندسين العاملين بشركة الجنيد.
ويقدر باحثون إنتاج قوات "الدعم السريع" من الذهب قبل الحرب بما يفوق 30 طناً سنوياً، مما مكنها من تمويل العمليات الحربية، بينما حققت تلك القوات في العام السابق (2024)، مكاسب كبيرة تقدر بنحو مليار دولار من عائدات الذهب من المناجم الخاضعة لسيطرتها، يرجح أنها استخدمتها في شراء طائرات من دون طيار.
ومنذ انفصال جنوب السودان عام 2011، وذهاب جل آبار النفط إلى الدولة الجديدة، بات الذهب يشكل مورداً استراتيجياً تعتمد عليه موازنة الدولة السودانية بصورة أساسية. وتشير بعض التقديرات إلى أن ما بين 48 و60 في المئة من إنتاج "المعدن النفيس" يهرب أو يباع بصورة غير رسمية ولا يدخل القنوات الرسمية. وقدرت تقارير خسائر الدولة خلال الفترة من عام 2014 وحتى 2024 بما يراوح بين 23 و36.8 مليار دولار وفق متوسط السعر العالمي للذهب.
ووفقاً لدراسة حديثة أجرتها منظمة المعونة السويسرية ذات الطابع التنموي، تم بين عامي 2012 و2022، تهريب 2500 طن من الذهب غير المعلن من أفريقيا، بقيمة تبلغ نحو 115 مليار دولار.