Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

 كتاب في وداع موفق محمد شاعر "الكوميديا العراقية"

صاحب تجربة شعرية وحياتية أثرت فيها تقلبات العراق

الشاعر العراقي موفق محمد (صفحة الشاعر- فيسبوك)

ملخص

من الأحداث الأليمة هذه السنة في العراق رحيل الشاعر العراقي موفق محمد (1948-2025)، وهو صاحب تجربة شعرية وحياتية أخذت منها تقلبات العراق الكثير، ليس على مستوى محدودية الاهتمام النقدي بها في مشهد الثقافة العربية فحسب، بل في إطار ما لحقه من محن وأثمان لبقائه في الداخل العراقي، أصعبها خسارته لابنه في أحداث انتفاضة عام 1991 في الجنوب، وما تبعها من معاناة اضطرته لبيع الشاي في الشارع سنوات الحصار الاقتصادي.

"أتعبت الموتى يا موفق"، كتاب صادر حديثاً عن مؤسسة أبجد في بابل في 320 صفحة، لمؤلفه الكاتب والمترجم حسين نهابة، ضمن جهد توثيقي لسيرة موفق محمد. في عنوانه توظيف لأحد مقاطع الشاعر التي رثى فيها صديقه حسن عمران من قصيدة "حسن في بلاد ما بين القتلين".

شاعر نهر الحلة

الكتابة عن موفق تستدعي الخوض في عقود من العواصف التي طاولت مجمل الحياة العراقية، الاجتماعية والثقافية، وتداعيات ضياع الأفق في البلاد على مصائر الكتاب والأدباء، يوم أصبح الأفراد عموماً منقسمين بين مقيمين يواجهون واقعهم ومهاجرين ينتفضون على هذا الواقع ويرفضونه بالمغادرة. وفي هذا التفصيل المرتبط بالمكان العراقي وحضوره في الأدب لدى المقيمين أو المهاجرين، يمكن أن نضع تبويباً لأشكال من تعبير شعراء عراقيين من أجيال مختلفة عن ارتباطهم بأمكنتهم، فمع السياب تأسطرت جيكور (القرية) وبويب (النهر)، ومن سيرة ونصوص سركون بولص ومن جايله، تقدمت كركوك كجماعة ومركز من المركزيات الثقافية في عراق الستينيات وما بعده، وفي حال موفق محمد تخلد نهر الحلة وكانت مدينته متناً ارتقى به منصات الشعر لسنوات.

تألف الكتاب من قسمين، فصول كتبها المؤلف، وقسم آخر خصص للشهادات عن الراحل، مع عديد من القصائد بخط يد الشاعر موفق محمد ونسخ من صحف ضمت نصوصه في مراحل عدة.

"عبديئيل" العراقي

تحت عنوان "فايق"، تطرق نهابة إلى النشأة الأولى لموفق وعلاقته بالحلة انطلاقاً من محطات طفولته وتكوينه العائلي، واعتياد المحيطين به على مناداته منذ الصغر بـ"فايق" حتى التحاقه بالجامعة. "إلى بغداد... إلى الجامعة"، تحت هذا العنوان إضاءة للخطوات الأولى للشاعر في بناء الذات الاجتماعية، من خلال شقة صغيرة مستأجرة في منطقة الأعظمية ببغداد، طالباً في كلية الشريعة عام 1966 ينسج صداقات آخذة في التوسع (الراحل فوزي كريم كان من بين أصدقائه الجدد)، ومعها يدخل في عالم جديد عليه، حيث الوجوه المختلفة واللهجات المتعددة في العاصمة، هناك جرى "صقل شخصيته الأدبية وذائقته الشعرية".

"الكوميديا العراقية"، باب خصص لاستحضار قصيدة لموفق بهذا الاسم، والتي نشرتها له مجلة "الكلمة" عام 1972، يوم كانت تصدر من النجف كل شهرين بوصفها دورية تعنى بالأدب الحديث، مديرها المسؤول الكاتب الموسوعي حميد المطبعي ورئيس تحريرها القاص موسى كريدي.

القصيدة الطويلة والمكتوبة عام 1967، ظلت مضيئة وحاضرة في المراحل اللاحقة من تجربة الشاعر، لبنائها الحداثي المتناغم مع نبرة احتجاجية عبر صور مركبة تتحرك من الأفق المحلي إلى الإطار العالمي، في ارتداد للسطوة الثورية وانعطافات تلك الفترة من القرن الماضي. ومن كوميديا موفق هذه المقاطع: "في "سباخ الكرخ" بعد الواقعة الأولى/ صادفني الحلاج مقتولاً/ أوجدني في الرأس/ ثم اخترقنا جثث الموتى/ تواجدنا/ وكان الماء/ حمامة خضراء/ تنتقل من جثة إلى أخرى، تلتقط الكلمات من أفواه الموتى..."، و"ألمح العراق مختبئاً/ ومرتجفاً/ تحت عناوين الصحف المحلية/ يهدد الخونة بالقتل/ وأميركا بالدمار/ والبائسين بالسعادة"، و"الفضيلة تركت/ قصورها العالية/ وهي الآن/ تسافر على طريقة/ الـAuto Stop/ في الأحياء الشعبية".

"الكوميديا العراقية"، وبمعزل عن احتفاء هذا الكتاب بها، لربما كانت تجريباً أولياً لما ستكون عليه قصائد الشاعر، الحادة، الغاضبة، والقريبة في لغتها من الناس الباحثين عن أدب يعبر عنهم، سواء كان بالفصحى أم بالعامية المحكية.

ولأن غالب ما كتبه موفق لاحقاً، كان قد جسد فيه الوظيفة التي أرادها "إيتالو كالفينو" للإبداع الأدبي، لجهة تحقيق الاتصال بين أشياء مختلفة، وهي في هذه الحالة: اليوميات الحياتية، المأساة الوطنية، منازلة العقائد وعدم مهادنة أي سلطة سواء من الما قبل أو الما بعد، وأيضاً الإبقاء على صوت الأمل بقوة الشجب، وإن كان الشاعر يستسلم أو يمتثل أحياناً لتضمين منطوق مألوف، غير أن الركيزة المهمة عنده أن يكون صوتاً لمجموع ينتظر ما يكتبه.

مرحلة البدايات

باب "الثمانينيات" مكرس للتعليق على بدايات موفق في سلك التعليم، بوصف هذا العقد الذي سيطرت عليه أجواء الحرب العراقية - الإيرانية، مرحلة لمعاينة القلق المصحوب بالتمهل الشخصي في الإنتاج الشعري، وما رافقها من تأسيس لحضور وتأثير بين طلابه. أما "التسعينيات... سنوات الوجع العجاف"، فتناول فيه المؤلف ما حل بعائلة الشاعر بعد فقدهم لابنهم عدي الذي ابتلعته إلى الأبد مصادفة خروجه من البيت مع سريان حملات قمع انتفاضة 1991، وكيف رافقته هذه الحادثة المأسوية حتى آخر يوم في حياته، بالتوقف عند قصيدة "ميت أنا" المكتوبة بالعامية العراقية عن الابن الفقيد، وهي من القصائد المعروفة للشاعر رثى فيها ولده "المحروم من تابوته"، ليكون بلا مشيعين وبلا قبر وبلا شاهدة تدل عليه، خالداً في ذاكرة أبيه الذي ظل مكلوماً وحزيناً عليه.

وفي هذا الجزء من الإصدار، استرسل نهابة في سرد ظروف رفض الرقابة آنذاك لطباعة ديوانه "عبديئيل"، وما أعقبها من إصرار على نشر المجموعة خارج العراق، ومن ثم توزيعها بطريقة الاستنساخ سراً داخل البلاد، حتى نشر القصيدة التي تحمل هذا الاسم في مجلة "المصور العربي" عام 1996، وكان ذلك من بين أسباب التضييق التي لاحقت المطبوع نفسه فيما بعد، حينما أفصح الشاعر في نصه عن أحوال الإنسان العراقي المستلب مرة من نظامه الحاكم، وثانية من حصار اقتصادي فتك به...

"ماذا يصنع عبديئيل في راتبه اللا يكفي يوماً/ باع أثاث الدار/ كليته اليسرى/ باع الدار". "الشهر المشؤوم"، عنوان أحد أبواب الكتاب، وفيه رصد لآخر أيام الشاعر في المستشفى وفشل محاولات الإنعاش الرئوي له، مطالباً برفع التنفس الاصطناعي عنه، كي يخرج ويواجه نهايته قرب شط الحلة، لكن ذلك لم يتحقق له بوفاته على سريره في الـ15 من مايو (أيار) 2025.

تمثال في حياته

في باب "شهادات" من الإصدار نتصفح أوراقاً عدة قدمها أدباء وكتاب من أجيال عدة، جاءت لتكريم ذكرى الراحل، وإن غلب على بعضها شيء من التوصيفات العاطفية. في استذكار الكاتب جمال العتابي عودة لعمل موفق غير المخطط له في الصحافة، عبر إحدى المجلات المهنية نهاية الستينيات.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

الكاتب سلام حربه استرجع في شهادته تاريخاً من الصداقة الطويلة مع الراحل، مستذكراً قيمة وأثر قصيدته "عبديئيل"، ومشهد بحثهما - بعد 2003 - عن أي دليل على رفات ابنه عدي بين مئات القبور الجماعية، ولكن من دون جدوى. حربه في مشاركته استعاد حدثاً لم تألفه الثقافة العراقية فيما سبق، حينما تبرع أحد الطلبة السابقين للشاعر لإقامة تمثال له في حياته، وهذا ما جرى ليشهد موفق تلك اللحظة النادرة بين محبيه وأصدقائه، ليكون الشاعر بمواجهة تمثاله متمعناً فيه يراجع حصاد السنوات التي أوصلته لهذا المقام، وربما كان على المؤلف أن يفرد مساحة خاصة في إصداره لهذا الحدث التكريمي غير المسبوق عراقياً وعربياً، يوم افتتح الراحل نصبه بنفسه، حيث أزيح الستار عن هذا العمل للنحات طه وهيب عام 2020 بتجمع صغير بسبب الإجراءات الوقائية (فترة كورونا)، ثم افتتح بحفل رسمي وشعبي عام 2023.

شهادات أخرى وقصائد ضمها الإصدار لكل من الكتاب: أحمد الناجي وجبار الكواز وشكر حاجم الصالحي وصلاح السعيد وعامر حسن وعلي الغاوي وعمر السراي وكريم الموسوي، مع استعادة لدراسة كتبها الباحث ناجح المعموري متناولاً قصيدة الراحل "محلة الطاق". أكثر من شهادة اهتمت بملامح شعر موفق، بأنه "مشاكس ومحرض أقام جسوراً من التواصل مع المتلقين" في "نصوص لم تهادن الحكومات الجديدة، إنما انتصرت للمحتجين في وقفاتهم المتلاحقة بعد 2003".

بضع ملاحظات

من الملاحظات التي تسجل على الكتاب هي حاجة بعض عناوين الفصول لمزيد من الترشيق والتحرير الذي يشمل حتى آراء أوردها نهابة نقلاً عن متداخلين آخرين، مع وجود أخطاء طباعية في بعض الصفحات ونصوص القصائد. قصيدة "فتاوى للإيجار" لم تنل أيضاً أي تنويه أو إشارة في الـ 320 صفحة من هذا الجهد التوثيقي، على رغم ما أثارته من ردود فعل في توقيت صعب، أيام موجات العنف والتكفير عام 2005 وما تلاه.

أفرد الكتاب جزءه الأخير لملحق احتوى مجموعة من قصائد الشاعر بخط يده، فإضافة إلى "ميت أنا"، نجد "لا تكسروا الأنهار"، و"لا نجمة للغائب". الغلاف الأمامي لـ"أتعبت الموتى يا موفق"، احتضن بورتريهاً للراحل في آخر سنوات حياته، بينما ضم غلافه الأخير مقطعاً من قصيدة بخطه، نعني هنا نفسها "ميت أنا"، مهداة من جديد إلى مؤلف الكتاب قبل عقد ونصف تقريباً.

إجمالاً، وفي سياق الملاحظة، كان ممكناً دعم صفحات هذا المشروع بملحق صوري، يوثق أهم محطات الراحل ومشاركاته الشعرية العديدة، لكن الكتاب يبقى وثيقة جاءت بدافع الوفاء بعد أشهر قليلة من فقد صاحب مجموعات "غزل حلي" "وسعدي الحلي في جنائنه".

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة