Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

في مصر "العربية"... ما أثقل "لغة الضاد" على الألسنة

بعد أخطاء أداء اليمين الدستورية في مجلس الشيوخ يطرح أكاديميون حلولاً جذرية للأزمة

تبني العامية وحتى ما هو أقل من العامية ظاهرة باتت واضحة في توجهات عديد ممن المصريين (أ ف ب)

ملخص

يبدو أن هناك خصاما ما بين اللغة العربية الفصحى وعديد من الوجوه التي تتصدر المشهد في مصر، تمثل هذا في لقطات عديدة استحوذت على سخرية رواد مواقع التواصل الاجتماعي، لعل أبرزها الأخطاء اللغوية التي وقع فيها بعض أعضاء مجلس الشيوخ أثناء أداء اليمين الدستوري.

لا يزال عالقاً في أذهان المصريين مشهد اضطرار ثمانية من أعضاء مجلس الشيوخ إلى إعادة أداء اليمين الدستورية عدة مرات بسبب التلعثم والأخطاء في القراءة والحفظ، فرغم مرور نحو أسبوعين على الجلسة الافتتاحية لدور الانعقاد العادي الأول من الفصل التشريعي الثاني للمجلس، تبدو تلك اللقطات كعلامة استفهام كبيرة، بخاصة وأن من يتصدى لعمل بهذا الحجم يدرك أن الأمر ليس مجرد بروتوكول، وإنما هي مؤهلات متعددة، بينها سلامة التعبير المرتبط بشكل وثيق بسلامة اللغة.

اللافت أن الأمر طاول أيضاً قراءة ونطق وتشكيل بعض آيات القرآن الكريم خلال الجلسة ذاتها، ولكن على ما يبدو أن الأمر أكثر من مجرد موقف عابر، فهناك استياء عام من مستوى اللغة العربية الفصحى لكثير ممن يظهرون للجماهير، وحتى في إطار المستوى اللغوي المستخدم في بعض الخطابات الرسمية، وبينها صفحات المؤسسات الحكومية عبر مواقع التواصل الاجتماعي، التي هي منبر ووسيلة للتواصل ولتشكيل آراء وتوجهات متابعيها.

تبني العامية، وحتى ما هو أقل من العامية، ظاهرة باتت واضحة في توجهات عديد ممن رواد مواقع التواصل الاجتماعي حتى من هم على وعي ودراية، والتبرير أن العامية المصرية متفردة بحد ذاتها وتستحق أن تسيطر على جميع المخاطبات، كذلك طاولت الظاهرة معالم كثيرة بالحياة في مصر سواء في الإعلانات بالطرقات أو تلك المعروضة على الشاشات، مروراً بالأغنيات والدراما، وحتى عناوين بعض المواقع الصحافية المفترض أنها تصدر عن مؤسسات كبيرة لها حيثية، وذلك على الرغم من المبادرات والدعوات المستمرة التي تطالب بالاهتمام باللغة العربية كوعاء للفكر والثقافة والحضارة، والهوية كذلك.

 

كما أنها لغة الدولة الرسمية وفق النصوص الدستورية، فما هو سبب هذا التدهور؟ ولماذا تبدو تلك المبادرات بالرغم من أنها تتمتع باهتمام كبير كونها تأتي عادة من المؤسسات الحكومية، وكأنها تسير في خط متواز مع باقي الأنشطة الرسمية، فلا يلتقيان أبداً؟. ففي حين يجري العمل على مشروعات قومية لحماية اللغة العربية الفصحى والتشجيع على الحديث بها، تأتي مؤسسة "صديقة" وتضرب تلك المحاولات في مقتل، وتسير في اتجاه عكسي بالترويج لخطاب يفتقر لأدنى قواعد الفصحى السليمة، والنتيجة تكون تحويل تلك المبادرات إلى مجرد ديكور، وتلاشي بعضها تماماً، ثم تظهر تأثيرات هذا الإخفاق في مشهد مثل الذي أثار الضيق لدى الجماهير خلال جلسة مجلس الشيوخ المنتخب!

الوجاهة باللغات الأجنبية

يبدي الدكتور حجاج أنور ‎أستاذ النحو والصرف والعروض‎، و‎وكيل كلية دار العلوم لشئون التعليم والطلاب‎ ‎بكلية دار العلوم جامعة القاهرة‎، استياءه من مستوى اللغة العربية لدى من يتصدون للعمل العام ومن يظهرون عبر منصات جماهيرية، مشيراً إلى أن الأمر لا يخص النواب فقط، وإنما أيضاً رجال ونساء المجتمع في مواضع عديدة. ويحاول أنور رصد وتحليل تلك الظاهرة، بالإشارة إلى نقطة يراها ساهمت بشكل ملحوظ في تراجع الحديث بالعربية الصحيحة لدى النخبة وعموم الناس في البلاد العربية عموماً، ولعل أبرزها في رأيه، هو شعور البعض بالانبهار من الثقافة الغربية، وبالتالي يلجأون للحديث باللغات الأجنبية كعلامة على التقدم والتحضر، حتى بات الأمر ظاهرة رائجة، ومن الطبيعي في رأيه هنا أن تتراجع العربية والتعامل معها على أنها لغة متخلفة غير مواكبة، رغم أن العكس هو الصحيح.

ويشدد أستاذ العروض والنحو والصرف، على أن اللغة العربية قادرة على مواجهة كل المستجدات، في كافة فروع العلوم بما فيها التكنولوجيا، كما أنها محور مهم من محاور الهوية الوطنية.

الإقبال على متقني اللغات الأجنبية في مؤسسات العمل، هي نقطة أشار لها أنور بشكل غير مباشر، بتأكيده على رواج نغمة مشجعة للجميع بالتحدث باللغات الأجنبية واعتبار العربية درجة ثانية، وهي النقطة التي استند إليها المفكر المصري الراحل عبدالوهاب المسيري حينما رفع دعوى قضائية ضد الرئيس السابق محمد حسني مبارك والحكومة آنذاك، أمام هيئة مفوضي الدولة، مطالباً بتطبيق الدستور الذي ينص على أن العربية هي لغة الدولة الرسمية، معتبراً حينها أن مصر كانت تتعرض لهوس تغريبي يتعلق باعتماد الإنجليزية لغة أولى في إعلانات الشوارع والصحف، وكذلك تفضيل تعيين خريجي الجامعات الأجنبية في أماكن العمل المرموقة بما فيها الوزارات الحكومية المهمة لمجرد تمتعهم بمهارات الإنجليزية والفرنسية، من دون الاهتمام بإتقانهم العربية السليمة.

اهتمام رئاسي ومبادرات شتى

اللافت أن الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي لا يفوّت فرصة إلا ويطلق دعوات للاهتمام باللغة العربية، حيث تحدث قبل نحو أربع سنوات في مداخلة هاتفية تليفزيونية عن ضرورة الاهتمام باللغة العربية وبحفظ القرآن الكريم بالنسبة للنشء، وكرر الأمر نفسه في شهر أبريل (نيسان) الماضي، خلال كلمته في حفل تخرج الدورة الثانية لتأهيل أئمة وزارة الأوقاف من الأكاديمية العسكرية، مشيراً إلى دور الدعاة في الحفاظ على اللغة العربية الفصحى، كذلك جرى تداول مقاطع متعددة توضح خط يده المنمق في اللغة العربية وسط إعجاب المتابعين، مما يشير إلى حرصه الحقيقي على اللغة ومهاراتها وبينها حسن الخط.

 

على المستوى التنفيذي، تبعت تصريحات السيسي حول الاهتمام باللغة، استجابات لدعواته، بينها مبادرة الأزهر الشريف لتمكين اللغة العربية "قَـوِّمْ لِسانًا تَبْنِ إنسانًا"، وأيضاً المبادرة التي أطلقتها وزارة الهجرة وشؤون المصريين بالخارج "اتكلم عربي"، والتي حظيت بدعم إعلامي كبير ثم خفتت تماماً، والمفارقة أن هذه المبادرة الموجهة للمصريين بالخارج تعتمد شعاراً عامياً، كما أنها تعبر عن نشاطاتها بالعامية شديدة البساطة أيضاً، ولم تتبن حتى الفصحى الخفيفة سهلة الفهم.

 ضافة إلى ذلك هناك مبادرات كثيرة متعلقة بتلاميذ المدارس، بينها مبادرة أطلقتها وزارة التربية والتعليم والتعليم الفني، بالتعاون مع منظمة يونيسف، تهدف إلى تعزيز مهارات القراءة والتعلم الرقمي للأطفال الأكثر احتياجاً، كما تنفذ الوزارة هذه الأيام المرحلة الثانية من البرنامج القومي لتنمية مهارات اللغة العربية، مستهدفة حوالي نصف مليون طالب من الصف الثالث وحتى السادس الابتدائي، في عشر محافظات. ووفق البيانات الرسمية فقد حققت المرحلة الأولى نجاحاً وأسهمت في تحسين مهارات الطلاب في اللغة العربية وكذلك قدراتهم على التعبير والفهم، واندرجت تحتها عديد من المبادرات على نطاق أقل، بينها "اقرأ بالعربي" التي تستهدف بها الإدارة التعليمية  بالقليوبية شمال القاهرة، طلاب مدارس اللغات والمدارس الدولية على مستوى المحافظة.

فهل "النجاح" والتحسن الملحوظ في مهارات الطلاب تحقق لهذه الدرجة؟ وبماذا تختلف تلك المبادرة عن مشروع "القرائية" الذي أطلقه وزير التربية والتعليم السابق محب الرافعي قبل نحو عشر سنوات، وكان يهدف أيضًا إلى تحقيق إجادة تلاميذ المرحلة الابتدائية القراءة والكتابة بالتشكيل؟

تساؤلات مشروعة

نفس التساؤل يطرحه الدكتور محمد عبدالعزيز أستاذ العلوم والتربية بجامعة عين شمس، قائلًا إنه كان ينبغي تقييم مشروع القرائية أولاً لنعرف نتائجه، وبناء عليه يجري إعادة تدويره باسم جديد، موضحاً أيضاً أنه كان ينبغي الإعلان تفصيلياً عن نتائج المرحلة الأولى من المبادرة الجديدة ومناقشتها.

وقال عبدالعزيز، "مسألة استهداف النشء المنخرط في المدارس أصلا بتطوير مهاراته اللغوية هي بمثابة اعتراف ضمني بفشل منظومة تعليم اللغة العربية، فكيف يبدأ الأطفال مراحل التعليم منذ عمر الثالثة والرابعة ومع ذلك يواجهون كل تلك الصعوبات، بل ويحتاجون إلى مساعدة إضافية أيضًا في لغتهم الأم؟"، مشيراً إلى ضرورة توجيه ذلك الاهتمام لمشروعات محو الأمية أولًا، ثم التركيز على إصلاح خلل منظومة التعليم نفسها لأن هذا أجدى نفعاً.

 

ولفت الانتباه إلى أن طريقة تعليم العربية في المدارس أصلاً منفرة، والمناهج شديدة الصعوبة وتحمل استعراض عضلات على التلاميذ، مستغرباً من أن التعليم قديماً كان أفضل بكثير وحتى خريجو الطب والهندسة كانوا يمتلكون مستوى رائعاً في العربية بدليل أن كثيراً منهم أصبحوا أدباء وشعراء. وتابع، "لا أريد أن ألقي باللوم على المجتمع، لأن التلاميذ في سن صغيرة يمكنهم تعلم حتى ست لغات، فلماذا ينجحون في تعلم لغات بعينها والعربية لا؟، إذن المشكلة في طريقة التعليم نفسها التي تفقد الطلبة الشغف، ولهذا يصبح أي برنامج من هذا القبيل إهداراً للوقت والمال والأعمار والأجيال، فينبغي العودة للدور الحقيقي للمدرسة الحقيقي تربوياً وتعليمياً، فاللغة هي وعاء القيم والثقافة".

وبينما يلقي الدكتور محمد عبد العزيز اللوم الأكبر على المؤسسة التعليمية الرسمية لمسؤوليتها في رأيه عن تشوه اللغة العربية على ألسنة أجيال كثيرة، فإن الدكتور حجاج أنور يعتقد أن هناك عناصر كثيرة لها دور في هذا التردي اللغوي، وبينها مؤسسات المجتمع المدني، والإعلام والفنون، فنجوم الفن باتوا يتحدثون في غالبية حوراتهم المصورة بألفاظ أجنبية وتتراجع مساحة العربية على لسانهم، إضافة إلى دور المؤسسات التعليمية بطبيعة الحال.

أين التخطيط؟

هذا الرأي يعود بنا إلى جدل أثير منذ عدة أشهر، يتعلق بالمقارنة بين قدرات الممثل المصري مقارنة بالسوري في اللغة العربية، وإتقانها في الأدوار ذات الطبيعة التاريخية إثر تصريح كان قد أطلقه الممثل سلوم حداد، حيث الأستاذ بكلية دار العلوم، الأكاديمي حجاج أنور، أن قدرات الممثلين المصريين في إلقاء العربية قوية للغاية، ضارباً المثل بنماذج عدة، ومذكراً بعديد من الأعمال البارزة بهذا الصدد مثل "الطارق"، و"عمر بن عبد العزيز".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وتابع، "الفنانون أجادوا بحق، على مستوى مخارج الألفاظ والتراكيب والقدرة على إيصال المعنى والدلالة"، ولكن مع ذلك يشير حجاج إلى أن هناك توجهاً عاماً في الفترة الأخيرة بالتراجع عن الحديث بالعربية الفصحى، حتى على مستوى المؤسسات ذات الطبيعة الجادة، وفيما يتعلق بالأعمال الفنية يستغرب أيضاً من اللجوء إلى اللهجة العامية في الأعمال التاريخية والدينية. وشدد على أن هذا انعكس على النشء، مذكراً بكيف كان الصغار يتحدثون بالفصحى حينما يشاهدون مسلسلاً كرتونياً مدبلجاً بشكل سليم.

التوجه إلى العامية يبدو ظاهراً في عديد من منشورات الصفحات الرسمية للمؤسسات الحكومية، والأكثر دهشة أن وزارة الثقافة تنتهج النهج نفسه رغم أنه من المنوط بها أن تتمسك بالفصحى باعتبار دورها مكملاً للمؤسسة التعليمية، ومن بين نماذج ما نشرته الوزارة على مدار الفترة الماضية، "احكيلنا عن تراثك! شاركنا بصورة، قصة من بلدك، رسمة، تصميم، مقطع موسيقي أو فيديو قصير يعكس ميراثك"، بل إن بعض تلك التدوينات تضمنت أخطاءً إملائية مثل "يعني إيه ثقافة، أرسم رأيك"، إذ يجري وضع همزة أعلى حرف الألف في "ارسم".

وأخيراً يصف الدكتور محمد عبدالعزيز أستاذ العلوم والتربية بجامعة عين شمس، هذا الأمر بأنه انفصال تام بين المؤسسات المعنية، مشيراً إلى أن هناك افتقاداً واضحاً جداً للتنسيق بين الوزارات، مشيراً إلى أنه طالما هناك مشروع قومي للنهوض بمستوى اللغة العربية، فينبغي أن تشترك فيه كل المؤسسات وأولها الثقافة. ونوه إلى أن وزارة التخطيط ينبغي هنا أن تقوم بدورها كي لا تذهب المجهودات سدى.

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات