ملخص
على رغم أن الشيطان يسكن في التفاصيل تبقى تفاصيل ما جرى في الأيام القليلة السابقة لافتتاح المتحف المصري الكبير جديرة بالسرد والتحليل. حال مصرية جماعية من الفرحة والفخر والسعادة لم يصنعها الإعلام أو تحركها الحكومة أو يبتكرها تيار أو يحركها هوى، باستثناء هوى مصري وطني يهفو إلى الفرحة ويشتاق إلى الفخر عمّت أرجاء البلاد، في الشارع وعلى الأثير.
حال من الفرحة العارمة والفخر الجارف والاهتمام الكبير تعتري المصريين من كل الأعمار والطبقات والانتماءات. الفقير والغني، المتعلم في "بلاد برّه" ومن ذاق التعليم بالكاد، ساكن المنتجع الفاخر المغلق على ملاكه وابن القرية الصغيرة في المدينة النائية، الجميع - إلا قليل - يطل هذه الأيام بزي مصري قديم، أو يقف مختالاً بفعل الذكاء الاصطناعي، أو بفضل كونه "في آي بي" أمام الملك رمسيس الثاني، وذلك في فورة وطنية مصرية قديمة، يسميها البعض في اختزال غير دقيق "فرعونية" ويصر آخرون على نعتها بـ"المصرية القديمة".
فرحة المتحف
المصريون القدماء، قدماء المصريين، مصر القديمة، حتى مصر الجديدة تحولت إلى أرض معركة بين مصريين احتفظوا بعقولهم، وآخرين سلموها لتيارات وأفكار وأيديولوجيات جعلت من المتحف المصري الكبير، وافتتاحه الموصوف بـ"الأسطوري"، عملية فرز عنيفة بين مصريين يعدون الحدث عالمياً يستوجب الفخر وتاريخياً تستحقه بلادهم، وبين مصريين دفعهم الحدث إلى الكشف عن ميل يصفه البعض بـ"المريض"، وكراهية مكتومة، وثقافة نشأوا عليها، أو وقعوا في شباكها، مفادها أن الحضارة المصرية القديمة كفر، وأن ما تركوه للأحفاد شرك، وما خلفوه من علم وثقافة وتاريخ وهندسة وطب وفنون هي رجس من عمل الشيطان!
وعلى رغم أن الشيطان يسكن في التفاصيل تبقى تفاصيل ما جرى في الأيام القليلة السابقة لافتتاح المتحف المصري الكبير جديرة بالسرد والتحليل. حال مصرية جماعية من الفرحة والفخر والسعادة، لم يصنعها الإعلام أو تحركها الحكومة أو يبتكرها تيار أو يحركها هوى، باستثناء هوى مصري وطني يهفو إلى الفرحة ويشتاق إلى الفخر عمت أرجاء البلاد، في الشارع وعلى الأثير.
في الشارع، أججت مظاهر الاهتمام الكبير بمستويات النظافة ورصف الطرق وتعليق الأعلام وتزويد الشاشات بفيديوهات وأفلام وثائقية قصيرة عن المتحف الكبير الذي ينضم إلى الثروة الثقافية الطائلة التي يملكها المصريون، حتى وإن صرفتهم عنها موقتاً مشكلاتهم الاقتصادية وهمومهم المعيشية، رغبتهم في الاحتفال بالحدث الكبير، والاحتفاء بالقادم الجديد الذي يترقبه العالم.
وبينما هذه الملايين تتبارى في البحث عن تقنيات وأدوات الذكاء الاصطناعي جعلت من الجموع الغفيرة ملوكاً وملكات من مصر القديمة، إذ بمصريين آخرين يسابقون الزمن من أجل تكثيف تدوينات وتغريدات وتحذيرات من مثل هذا الانجراف وراء "ما يسمى الحضارة المصرية القديمة"!
وعلى رغم أن الفريقين ليسا متناسبين أو متقاربين في العدد، حيث الأول يفوق الثاني بكثير، فإن ما تنضح به تعبيرات الفريق الكاره والناقم والمحذر من المتحف وما يمثله من تهديد للدين وخطر على العقيدة الإسلامية وإلهاء عن القرآن وجذب نحو المعصية أدهش وصدم وأغضب أصحاب المزاج الاحتفالي.
تدوينة الشيخ العنكبوتي
تدوينة مقتضبة لـ"شيخ" عنكبوتي نصّب نفسه داعية ومفتياً ومتخصص تنمية بشرية ومفسر قرآن وسارد حديث قال فيها "رجاء الانتباه: صور التشبه بالفراعنة حرام. من تشبه بقوم فهو منهم". أتباع "الشيخ" أمطروه ثناء ودعاءً وشكراً على هذا التنبيه المهم، لكن ما إن انتشرت التدوينة خارج دائرة أتباعه، وبينهم "مشايخ" آخرين صنعوا علمهم بأنفسهم منصّبين أنفسهم شيوخاً ودعاة ومفتين على الأثير، حتى جاءت أمطار من اتجاه مخالف. بين متهم له بالجهل، وناعت له بالانتماء لدعاة الخراب والانغلاق والرجعية والغرق في تفسيرات دينية متطرفة تجعل الدنيا جحيماً والثقافة ناراً والتاريخ سبة، وموجهاً له دعابات حادة تراوح ما بين دعوته إلى قراءة كتاب التاريخ المقرر على الصف الرابع الابتدائي، وناصحاً له بأن يتغطى جيداً قبل أن ينام حتى لا تنتابه مثل هذه الهلاوس مجدداً.
الحقيقة أن ما تعتبره الغالبية من الفرحين والفخورين والمبتهجين "هلاوس"، هي عقيدة ومنهج وفهم للدين بحسب تيارات عديدة جميعها يندرج تحت مظلم الإسلام السياسي. هذه المظلة تتسع لأفكار مختلفة، ولكن جميعها يصب في اعتبار أن كل ما عدا "الحضارة الإسلامية" هو كفر ومعصية، أو بؤس وشقاء، أو هباء منثور. كاتبة مصرية تحولت من أقصى يسار السياسة إلى أقصى يمين الدين اختارت "هباءً منثوراً" لتصف به كل ما عدا الحضارة الإسلامية.
عمليات الفرز
وعلى رغم عمليات الفرز والانكشاف والاكتشاف الدائرة رحاها منذ بدء العد التنازلي لافتتاح المتحف المصري الكبير، وعلى رغم الصدمة التي أحدثها ظهور "أعداء الحضارة المصرية القديمة" ومكفريها ومكفري من يسعدون بها ويتابعون فعالياتها ويبتهجون لمتاحفها ويرتدون ملابسها، ولو كان ارتداءً افتراضياً، ومن يتبعونهم من بسطاء لا يفكرون كثيراً في أسباب العداء أو يناقشون عوامل التكفير أو يفندون مرجعيات ومصالح من يعتبرونهم "مشايخهم" و"علماءهم" وأساتذتهم، إلا أن هذا العداء والتكفير والتحذير ليس وليد الافتتاح، أو حديث العهد، بل هو وليد جماعات وحركات، وقديم قدم الإسلام السياسي.
ابحث عن الأصل
تتبع أصل هذه الكراهية التي تجمع الغالبية المطلقة من جماعات الإسلام السياسي من "داعش" إلى جماعة الإخوان المسلمين مروراً بتيارات وجماعات وحركات سلفية ونصف سلفية وثالثة تقول عن نفسها إنها وسطية، أمر صعب، وذلك لاكتفاء غالب "المشايخ" و"القادة" و"الدعاة" في تلك الحركات بإصدار حكم التحريم أو الحديث عن "التكفير"، وهو ما يكفي لتحريك قلوب جماهيرهم الغفيرة وتصديق العقول لما يصدر عنهم.
على سبيل المثال، وبحسب مقال منشور في دورية "ناشونال جيوغرافيك" تحت عنوان "لماذا يكره ’داعش’ الآثار، ولماذا فجر التنظيم قصراً عراقياً تاريخياً؟" عام 2018، فإن مفهوم التنظيم المتطرف للشرك، لا ينطبق فقط على أية مواقع وحضارات سبقت الإسلام، بل على أي تراث إسلامي لا يتبع تفسيره الصارم للإسلام. وإضافة لاستعراض القوة الذي كان يبديه تنظيم الدولة الإسلامية وهو يدمر التراث، فإنه أيضاً كان يظهر "تقواه"، لا سيما أن علم الآثار بالنسبة إليه هو منتج مستورد من الخارج، ويغذي القومية العراقية، ويعرقل هدفه النهائي، وهو دمج دول الشرق الأوسط في خلافة أوسع تشمل العالم الإسلامي.
ويشير المقال إلى شرح للباحث في جامعة كولومبيا كريستوفر جونز والذي وثق الأضرار التي لحقت بالعديد من المواقع الأثرية في العراق على مدونة "بوابات نينوى"، إذ يقول إن "تنظيم داعش" باستحضاره خطايا ما يعدها شركاً وعبادة أصنام، كان يحاول ترسيخ شرعيته كورثة شرعيين لإرث "مدمري الأصنام" السابقين، وعلى رأسهما النبيان إبراهيم ومحمد.
لا يسود الفكر "الداعشي" في مصر في الأقل على الملأ، لكن أفكاراً أخرى تسود، بعضها كان خلف الأبواب المغلقة، ولكن الأبواب المغلقة آخذة في الفتح أخيراً.
قيادات ودُعاة وبسطاء
قيادات ودُعاة وأفكار ومواقع وتيارات سلفية عدة تعاود كسب أرضية في مصر بعد عمليات "جس نبض" متتالية. وكلما أسفرت عملية جس سكوتاً رسمياً، تبعتها بعملية جس جديدة، وهلمّ جرّا. الصحوة السابقة للسلفية في المجتمع المصري، التي يسميها البعض اختزالاً المتطرفة أو المتشددة أو الرجعية ضمن تسميات أخرى، كانت في أعقاب أحداث عام 2011، وهي الأحداث التي أسالت لعاب الحالمين بحكم مصر، ومن بينهم دعاة وأمراء السلفية. وبين عامي 2011 و2013، تصاعدت أصوات هذه التيارات. وفيما يختص بالحضارة المصرية القديمة، وآثارها من تماثيل ومعابد ومومياوات وغيرها، تراوحت مواقف هذه التيارات بين مطالبات بالتحطيم لأنها أصنام يجب إزالتها، لما في ذلك تمثال أبو الهول والأهرام، أو تغطية وجوهها لمنع فتنة الناس بها.
وأطلت على المصريين في تلك الفترة قيادات سلفية عدة تطالب بتحطيم كل هذه المظاهر الحضارية المصرية القديمة، وبينهم على سبيل المثال لا الحصر الناطق باسم الدعوة السلفية عبدالمنعم الشحات الذي قال في حوار تلفزيوني عام 2012 إن الحضارة المصرية القديمة "عفنة"، "بسبب عدم تطبيق الشريعة الإسلامية"، وهو ما أثار إعجاب وفرحة مريدي الحركة، من دون أن يسأل أحدهم مثلاً عن الفارق الزمني بين مصر القديمة ونزول الإسلام. كما أكد الشحات أنه لا يشعر بالفخر "لصور الفراعنة العراة لأنها كفر"، مؤكداً أن أي مخالفة للشريعة الإسلامية هي مرض.
المرض والعرض
ومن المرض إلى العرض. يتعجب كثر من ضلوع "مفتين" و"دعاة" متعددي الجنسيات في الحديث عن ضرورة هدم تماثيل المصريين القدماء، أو طمس أهرامهم، أو إحراق مومياواتهم، باعتبارها معصية وشركاً وكفراً إلى آخر المفردات التي تثير الفزع في قلب كل "مؤمن".
وضمن الكتابات الموثقة القليلة عن الحضارة المصرية القديمة والتي تساعد في تشريح العقلية المكفرة أو الكارهة لها مقال عنوانه "مصر بين الهوية الإسلامية والهوية الفرعونية" عام 2021 على موقع "إخوان أونلاين" لكاتبة إخوانية عربية وليست مصرية، وذلك تعليقاً على "موكب المومياوات" الأسطوري الذي نظمته مصر في ذلك العام لنقل 22 مومياء مصرية. جاء فيه بعد انتقاد عنيف للنظام السياسي في مصر، أن "مصر الإسلامية العربية تواجه تحدياً كبيراً يتمثل في استدعاء الهوية الفرعونية. المسألة ليست نقل المومياوات فحسب، بقدر ما هي تداعيات الحدث وأصداؤه، فهناك حال من الترويج الممنهج لفرعونية مصر، والاعتزاز بها بصورة غير مسبوق، ظهر ذلك في تصريحات عديد من المثقفين والمنتسبين إلى العلم الشرعي".
دهشة وصدمة
وعكس المقال دهشة وصدمة ممن يعبر عن الاعتزاز بالأجداد الفراعنة، ومن يحذر من كارثة طمس الهوية الفرعونية". كما عد المقال ما يطالب به البعض في مصر من تدريس اللغة الهيروغليفية في المدارس كارثة ومصيبة، لا تقل مصيبة المطالبة بعودة ارتداء الأزياء المصرية القديمة.
وقال المقال المنشور على موقع "إخوان أون لاين" إن "مثل هذه المطالبات تعكس رائحة نفاذة في الحدث وتداعياته، وتحمل خطورة بالغة على هوية الشعب المصري، التي انتهت في صياغتها الأخيرة إلى الإسلام، الذي انصهرت فيه جميع الحضارات الأخرى التي نشأت على أرض مصر". وسمى المقال استدعاء الهوية الفرعونية (المصرية القديمة) بـ"النعرة".
وانتقدت الكاتبة بشدة ما جرى طوال القرن الـ20، من "اصطباغ الحياة المصرية بصبغة فرعونية نوعية تمثلت في إطلاق رموز الفراعنة وآلهتهم على الفنادق والشوارع والصحف، وإدراج صورها في طوابع البريد والعملات المحلية، وشعارات الجامعات، كما دعم هذه النظرة تلك التحولات الظاهرة في العمارة المصرية، إلى النسق الفرعوني، والاهتمام البالغ بالآثار القديمة، بينما تواجه الآثار الإسلامية أزمة إهمال واضح".
ونبه المقال إلى أن هذا الاستدعاء للهوية الفرعونية ليس وليد اللحظة، "غير أن اليقظة الإسلامية وجهود المفكرين والمصلحين حالت دون تغلغل هذه النعرة في الشعب المصري، الذي كان ينظر إلى الحضارة الفرعونية على أنها ماضٍ عريق له جوانبه المضيئة، وليس على أنه هوية تصبغ الحياة المصرية".
"نعرة" الحضارة
وخلص المقال على موقع "إخوان أونلاين" على أن الدعوة إلى فرعنة مصر ليست جديدة، لكنها وجدت مناخاً أكثر مناسبة بعد إسقاط حكم الجماعة عام 2013، "وفتح أبواب العبث بالهوية المصرية أمام المد العلماني مقابل التضييق على الدعاة والمصلحين".
وحذر المقال من "الاستمرار في تغليب التاريخ الفرعوني لإقصاء الهوية الإسلامية، ومن محاولة خطرة تهدف إلى ردة العالم الإسلامي إلى كيان وهمي تحت اسم حضارة مصرية قديمة عمرها 7 آلاف سنة، أو حضارة فينيقية، أو فارسية أو هندية"، مشيراً إلى أن "قرع الخطر تنبيهاً واتقاءً للشرور أمر محمود. حفظ الله مصر وشعبها من كيد كل الكائدين".
فرعون إمبابة
في تلك الأثناء، وبينما هذا المقال يعاد تدويره "اتقاء للشرور"، كان "فرعون إمبابة" ينشر صورته بعد تدخل الذكاء الاصطناعي الذي بدله من "حودة" إلى "تحوت" إله الحكمة، ومرفت وقد تحولت إلى "إست نفرت الثانية"، وعائلة الأستاذ مدحت وزوجته منار وأبناؤهم تشارك صورة الأسرة في أزيائها المصرية القديمة وهي تمتطي عجلة حربية اقترضوها من الملك سقنن رع وابنه أحمس، والأستاذة منة جمال المحبة لقطط الشارع وكلابه قد أصبحت على "فيسبوك" باستيت (إلهة القطط في مصر القديمة) وتجلس حولها عشرات القطط الفرعونية وذلك عند قدمي رمسيس الثاني المهيبتين في بهو المتحف المصري الكبير.
قدما رمسيس
قدما رمسيس الثاني ستظلان مثار جذب بين غالبية مصرية تفخر بحضارتها القديمة، وشد من أقلية ضربتها سيولة الخطاب الديني على مدار عقود، حتى طاولت معلماً يلقن طلابه ما ورد في المنهج المقرر عن عصر الأسرات، ومينا موحد القطرين، وتوت عنخ آمون بكنزه الذهبي، ثم يغلق الكتاب ويحذرهم من حضارة كفرت وملوك عصوا وعلوم فتنت، وموظف سجل مدني ينصح والد المولودة الجديدة الذي قرر أن يسميها "إيزيس" أن يختار لها اسماً آخر بدلاً من التشبه بمن أشركوا بالله، وغيرهما ممن يعتبرهم البعض "ضحايا نسخة تدين السبعينيات والمستمرة شوكتها حتى اليوم" في حين ينظر إليهم أتباع هذه النسخة باعتبارهم ملتزمين مؤمنين قدوة لغيرهم.
في ركب التطرف
وإذا كانت الغالبية من البسطاء ممن يسيرون في ركب دعاة التطرف لا تشغل بالها كثيراً بمسألة التفكير النقدي أو تحكيم العقل فيما يعرض عليها أو اللجوء للعلم والبحث من دون وسيط تتلقف تكفير الحضارات ووصم التاريخ باعتبارهما تحصيلاً حاصلاً، يغيب التفسير الذي يشرح تعلق تيارات الإسلام السياسي والتدين المتطرف بتلابيب قصة فرعون الواردة في القرآن الكريم.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويسود احتكار التفسير لقصة فرعون بغرض تحولها إلى أداة للحكم، عبر تفسيرها في ضوء الطغيان والاستبداد وادعاء الألوهية، حيث صراع الأنبياء ضد الحكام الطغاة الرافضين لسلطة الله وحاكميته المطلقة في الأرض، وأن الدعوة إليه أمر واجب، ومفهوم الخلافة القائم على أن الحاكمية لله وأنه جل جلاله هو صاحب السلطة والتشريع الوحيد، وهي السلطة التي يقوم الوسيط، أي القائمون على أمر الدين، بترجمتها عبر مفهوم الخلافة، وهو المفهوم الذي تقوم عليه جماعات الإسلام السياسي على اختلافها.
الأزهر والحضارة القديمة
اللافت أن شيخ الأزهر الشريف الدكتور أحمد الطيب ما إن غرد بكلمات احتفائية بالمتحف المصري الكبير، واصفاً إياه بـ"الصرح الحضاري" و"الذي يؤكد أن مصر كانت وستظل منارة للتراث والثقافة والحضارة والإنسانية"، ومعبراً عن تقديره لـ"جهود الدولة في الحفاظ على التراث، وتعزيز قيمة الانتماء للوطن" واعتزازه بما "تزخر به مصر من كنوز الحضارة والتاريخ والتراث الإنساني الفريد"، ومؤكداً "ضرورة استلهام مشاعر الفخر من هذا الإنسان المصري القديم الذي أدهش العالم بحضارة استثنائية"، وأن الحفاظ على التراث واجب وطني وإنساني، حتى هاجت رموز التيارات الكارهة، وصدرت التوجيهات للقواعد بمهاجمة الإمام الأكبر، ورفع أصوات الندب والتحذير.
وبينما يكثف هؤلاء جهودهم في الندب والعويل والتحذير من أخطار الوقوف عند أقدام رمسيس الثاني المهيب، أو تداول صور الفرحين بالزي الفرعوني، أو المجاهرة بـ"معصية" الفخر بحضارة الأجداد، تدق الغالبية بعنف على أبواب الفرح والبهجة التي لا تخلو من دعابة، حيث أمحوتب يدخن الشيشية على مقهى في المطرية، ومومياوات المتحف تستعد للافتتاح عبر الخضوع لـ "تاتو" حواجب و"نتواياج" عميق لرونق البشرة، ورمسيس يغني "مهرجانات" ويقول: "فرحتنا فرعونية، يعني الهرم فاضي، وخوفو راضي، ولو قلبك جايبك تعالى وهات حبايبك"، وميم فيها أحد أبرز دعاة تكفير وكراهية الحضارة المصرية وهو يرتدي زياً مصرياً قديماً وقد أصبح اسمه "فلان عكنن اكتئاب رع".
إلحاح الاكتئاب
وعلى ذكر الاكتئاب، وعقب موجة موازية، ولكن "مكسورة الجناح" نظراً إلى قلة الأتباع وشح المريدين، من معبرين عن رفض فكرة المتحف الجديد، والقول إن هذه الكلفة كان ينبغي أن تضاف على بطاقات التموين في هيئة شاي وسكر وزيت، أو اعتبار الاحتفال بـ"أموات" المصريين القدماء لا يصح طالما الأحياء يدفعون 150 جنيهاً في "طبق البيض"، شنت مجموعة من المصريين حملة للمطالبة بـ"تأجيل الاكتئاب" لما بعد الافتتاح.
في هذه الحملة، أطلق العنان للإبداع الشعبي مرة أخرى. كتب أحدهم، "ممكن بعد إذنكم تضعوا الاكتئاب في الثلاجة يومين أو ثلاثة، نفرح ونعدكم بالعودة إلى الحزن والبؤس والسواد؟". الطريف أن آخر رد على هذه الدعابة بقوله، "الحمد لله على نعمة الإسلام، ونعوذ بك من نقمة المتحف".
في تلك الأثناء، يستكمل بقية المصريين الاحتفاء بـ"نقمة المتحف" كما لم تحتف من قبل. طبل وزمر، وأزياء الأجداد والجدات، وأدوات ذكاء اصطناعي أنهكت لفرط تحويل المصري الحديث إلى قديم.