Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

كيف تحول الذهب إلى هوس اللبنانيين الجديد؟

يلجأ اللبنانيون إلى شراء المعدن الاصفر بالأموال المدخرة في المنازل خوفاً من تكرار خسارة الودائع في المصارف

مع تراجع أسعاره انخفض الإقبال على شراء الذهب في لبنان (صورة مصممة عبر الذكاء الاصطناعي)

ملخص

يعيش سوق الذهب في لبنان على وتيرة غير منطقية، إذ يقوم العملاء بالشراء عند ارتفاع الأسعار، فيما يؤدي هبوط الأسعار إلى امتناع المواطنين عن عمليات الشراء، مما يعكس التأثير النفسي والخوف من الخسارة على سلوك هؤلاء.

ما إن بلغ الذهب مستويات تاريخية، اصطف اللبنانيون في طوابير لشراء الأونصات والدراهم الذهبية، ومع قدوم مرحلة التصحيح السعري، خلت الأسواق من الشارين الباحثين عن الملاذات الآمنة. المشهد بات مألوفاً لدى بعض، فقد اعتاد اللبناني خلال الأعوام القليلة الأخيرة الوقوف في "طابور الانتظار"، من الاصطفاف أمام البنوك المغلقة لاسترجاع جزء قليل من وديعته المصرفية، وطوابير البنزين والخبز والطحين مع اقتراب رفع الدعم، وطابور الدواء مع تزايد المخاوف من انقطاعها. هذا الأمر على سورياليته، فإنما يعكس "القرارات الانفعالية غير المبنية على معطيات علمية"، وحال اللايقين والخوف من المستقبل بعدما تعرض لصدمات هائلة منذ عام 2019 وما بعده، حين عصفت الأزمة المالية والاقتصادية بالبلاد، وخسر اللبنانيون ودائعهم ومدخراتهم في القطاع المصرفي.

من الورق إلى الذهب

شهد الذهب قفزات تاريخية منذ بداية عام 2025، وتجاوز سعر الأونصة 4300 دولار أميركي منتصف أكتوبر (تشرين الأول) قبل أن يبدأ بالتراجع، وبلغ عتبة 3950 دولاراً خلال الأسبوع الأخير من الشهر نفسه. ودفعت "شهية الربح" اللبنانيين إلى الاتجاه نحو استبدال مدخراتهم النقدية الورقية لقاء أونصات ذهبية.

وتشير السيدة رنا إلى أنها استبدلت مدخراتها المالية واشترت 10 أونصات على رغم سعرها المرتفع، معللة قرارها بقول الخبراء إن "السعر قد يصل إلى 5 آلاف دولار خلال عام، أو حتى 8 آلاف دولار". وتتحدث عن وضع مريب، فهي "تعيش حالاً من الحيرة، والخوف، وقد تبادر إلى بيع الأونصات في حال وجدت أن الأسعار ستنخفض بسرعة"، مكررة "دفعتني فيديوهات السوشيال ميديا إلى التحرك سريعاً وشراء الذهب، وتطالعني كل النهار على ’إنستغرام‘ فيديوهات وتوقعات، بعض يقول إنها سترتفع فأشعر بالفرح لأنني سأربح، ولكن أعيش حالاً من الخشية عندما أجد بعضاً يتحدث عن انهيار في الأسعار، لأنه في ذاك الحين سأتعرض لخسارة بفعل قرارات قد تكون متسرعة".


من جهة ثانية، يلفت المواطن زياد إلى أنه بعد الأزمة الاقتصادية وخسارة الوديعة المصرفية، بدأ بتجميع مدخراته في المنزل، وخوفاً من سرقة الأوراق المكدسة في الخزانة بسبب عدم الثقة بالقطاع المصرفي المحلي، قرر شراء الذهب "لأن حجمها أصغر وقيمتها في ارتفاع متواصل"، معبراً عن أمله بتحقيق ربح من خلال استثماره في "المعدن الأصفر" الذي شهد ارتفاعات كبيرة، وهو "ما يمكن أن يؤمن دخلاً واضحاً مقابل نقود ورقية تتآكل قيمتها بسبب التضخم".

حمى الذهب

لم تكتمل بوادر "حمى الذهب" في لبنان، إذ يشكو عدد من التجار من شح في الأونصات والليرات الذهبية على رغم ارتفاع العمولة، إذ يعانون للحصول عليها، بحسب أحمد الشرقاوي صاحب محل مجوهرات، الذي يشير إلى أن "قرارات غير عقلانية تتحكم بالسوق"، مؤكداً أن "هناك شيئاً غير مفهوم في سلوك اللبناني، عندما ترتفع أسعار الذهب بمستويات قياسية، يتهافت إلى الشراء، ونتلقى الاتصالات بالعشرات من أجل شراء الأونصات. في المقابل، ما إن يبدأ بالتراجع حتى نجد أن الزبائن يتوقفون عن الشراء ظناً منهم بأن السوق في حال انهيار، هذا الأمر أشبه ما يكون بالجنون، يشترون عند الارتفاع ويبيعون مع بوادر الانخفاض بسبب الخوف، إذ يعرضون أنفسهم للخسارة".

ويدعو الشرقاوي الناس إلى الشراء مع كل هبوط "لأننا تعلمنا من التجارب في سوق الذهب أنه في أعقاب كل انخفاض محدود قفزة كبيرة وربح"، متحدثاً عن عوامل متعددة مؤثرة في سعر الذهب، بعض منها اقتصادي بفعل قانون العرض والطلب واستحواذ البنوك المركزية عليها، ولكن هناك تأثير مباشر لتزايد التوترات والحروب الدولية، إضافة إلى استخدام الذهب في الصناعات التكنولوجية المتطورة في صناعات السيارات والهواتف والمركبات الفضائية والصناعات الطبية والعلاجية".

تقودنا جولة إلى سوق الذهب في مدينة طرابلس حيث تباع الأونصة الواحدة لقاء 3950 دولاراً أميركياً بعدما تراجعت 400 دولار. كانت الحركة أقل من المعتاد، إذ تراجعت حركة البيع والشراء، مما يعكس حال الخوف. داخل المحال، لا يوجد سوى أصحاب المتاجر وأُجرائهم، يتداولون أخبار خفض الفيدرالي الأميركي معدلات الفائدة، والمداولات المتوقعة بين الرئيسين الأميركي دونالد ترمب والصيني شي جينبينغ، وتأثيراتها في "لهيب الأسعار".

الملاذ الآمن

اختلفت التحليلات حول أسباب "حمى الذهب" والطوابير أمام محال الصاغة في لبنان. فخلال وقت وضعها بعض في خانة الطمع، والخوف من فوات فرصة متاحة. يرى نقيب تجار الذهب والمجوهرات في لبنان نعيم رزق أن "ما يجري هو نتيجة طبيعية لما عاشه اللبناني خلال الأعوام الأخيرة، وهي تأكيد على أن الذهب ملاذ آمن لكل مواطن ودولة، وليست الأوراق"، لافتاً إلى "تهافت المصارف المركزية على شراء الذهب، إذ اشترت أكثر من ألف طن، وهناك طلبات لكميات كبيرة غير مصرح عنها".
يعتقد رزق أن "ثمة أسباب إضافية تدفع اللبناني للبحث عن ملاذات آمنة بعد خسارة الودائع في المصارف، وانهيار سعر صرف الليرة، إذ طاولت الخسارة الجميع على قدر حجم ثرواتهم ومدخراتهم"، ولكن في المقابل، يعتقد رزق أن "ثمة أمل لنهوض لبنان من باب الذهب، إذ يمتلك 9 ملايين أونصة اشتُريت في عهد الرئيس السابق للجمهورية إلياس سركيس عندما كانت الأونصة عند عتبة 40 دولاراً خلال السبعينيات، وأقر قانون منع المساس بها، قبل أن تتضاعف قيمتها أضعافاً كثيرة، ووصلت قيمتها خلال عام 2010 إلى 10 مليارات دولار عندما بلغ سعر الأونصة ألف دولار، وهي اليوم فوق الـ4 آلاف دولار".
يعتقد رزق أن "مراقبة المواطن لهذه التطورات وخسارة العملات الورقية المدخرة لقيمتها فيما ترتفع قيمة المدخرات الذهبية، فمن اشترى قبل عامين الذهب، تضاعفت قيمة مدخراته تقريباً مع الارتفاعات المتكررة"، مرجحاً "لعب عامل الغيرة دوراً مهماً في قرار الشراء، والخوف من فوات الفرصة السانحة. ومن يمتلك مبلغاً محدوداً بين 40 و50 ألف دولار، يجد أنه غير كافٍ لشراء عقار أو شقة صغيرة مثلاً في بيروت وضواحيها، ولكن في المقابل، لديه مقدرة لشراء أونصات ذهبية".
يروي نعيم رزق مشاهداته، "نعاين كل يوم إقبالاً متزايداً على الشراء، فبعض يأتي لشراء أونصة أو حتى ليرة واحدة".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

قفزات مقبلة

يلفت رزق أن الطوابير لا تقتصر على لبنان، بل تكررت في أستراليا وفي تركيا وفيتنام، ومختلف الدول الغربية بأعداد هائلة، متحدثاً عن "شح في المناجم إذ استخرج قرابة 85 في المئة من الكميات المتاحة داخل المناجم العاملة". ويضيف أن "هناك 9 مليارات و85 مليون أونصة، استخرج منها العمال نحو 8 مليارات أونصة حتى الساعة"، متطرقاً إلى أسباب الارتفاع بدءاً بالحرب الروسية - الأوكرانية، وحالات التضخم، وازدياد نسب البطالة في الولايات المتحدة التي تقع تحت عبء 38 تريليون دولار ديوناً، والتوجه إلى تخفيف معدلات الفائدة، مما يحفز مزيداً من الارتفاعات على رغم محطات التصحيح السعري، فخلال عام ونصف العام ارتفعت الأونصة من 2500 دولار إلى أعلى من 4 آلاف دولار، وهو مرجح إلى قفزات متتابعة بفعل المخاوف والتوترات.

أين ذهبت الليرات؟

في موازاة الإقبال الشديد، لاحظ المواطنون وأصحاب المتاجر شحاً في الأونصات والدراهم الذهبية، وسرت إشاعات عن تهريب الأونصات من لبنان إلى الخارج من أجل الربح بفارق العمولة، ويعلق النقيب نعيم رزق بأن "هناك ظلماً لأصحاب محال الصياغة والذهب، إذ أسهم الطلب الشديد بفقدانهم الاحتياط من الأونصات، فمن يمتلك 20 أونصة، يجد نفسه مضطراً لبيعها تأميناً لطلب زبونين اثنين، بعدما كان في السابق يبيع أونصة واحدة في اليوم وأحياناً في الأسبوع"، إذ "يأتي الصاغة بكميات كبيرة من الخارج ولكنها لا تصمد لأيام، وتضطر لانتظار توريد كميات جديدة والدفعة الثانية، إذ يستورد التاجر اللبناني الذهب من سويسرا، والأونصات الـ’فالكانبي‘، إذ تحول السبائك الكبيرة إلى أونصات وطنية ذات جودة عالية جداً في لبنان". ويستبعد رزق وجود عمليات التهريب إلى تركيا، "لأن فارق العمولة للأونصة لا يتجاوز 100 دولار، كما لا يمكن للمسافر أن يحمل في الحقيبة أكثر من 10 أونصات، والتاجر المحترم لا يدخل في هكذا أفعال خطرة، ويفضل أن يبقى في متجره، يبيع ويشتري على رأس عمله، إذ وصلت العمولة في لبنان إلى المستوى التركي".

الذهب اللبناني الممتاز

ويستغرب رئيس نقابة تجار الذهب والمجوهرات في لبنان ما يُثار عن "عدم إمكان بيع الأونصة اللبنانية في الخارج، والتشجيع على شراء السويسرية حصراً"، لافتاً إلى أن "الأونصة اللبنانية مصنوعة من الذهب نفسه، ووفق العيار والوزن عينه، ولكن تباع بعمولة أقل".

أما في ما يتعلق بضبط عمليات بيع أونصات مزورة، إذ أعلنت القوى الأمنية عن توقيف سيدة تبيع أونصات مزورة بين صيدا وصور جنوب لبنان، يوضح رزق أن "لبنان يمتلك سمعة ممتازة على مستوى صناعة الذهب، وهو رمز للذوق الرفيع ونظافة المنتج، ونحن لسنا أمام أونصات ذهبية مغشوشة، وإنما نحن أمام عمليات نصب واحتيال من خلال استخدام أونصات مزورة، إذ تشتري الفاعلة الأونصات المزورة (فوبيجو) وموجودة في السوق للزينة الرخيصة، ولا تنطلي إلا على البائع القليل الحيطة"، مضيفاً "ما إن تبلغنا بتعرض أحد التجار للغش، قمنا بتعميمها على مستوى تجار الذهب، وضبطت القوى الأمنية السيدة، وفي حوزتها ثلاث أونصات مزورة، وليس هناك علاقة لصائغي المجوهرات بها لأن التجار خاضعون للمراقبة والتدقيق المستمر". وطالب رزق بالانتظار قبل الحكم على ما يثار عن الذهب الصيني إلى حين استيراده إلى لبنان، ومن ثم فحصه والتحقق من قيمته وتركيبته.
في المقابل، لاحظ تجار الذهب إقبالاً على شراء الأونصات والليرة بعيار 21 قيراطاً على حساب تراجع الطلب على الذهب المشغول للزينة، من أجل تجنب الخسارة عند بيع السلاسل والأطقم الذهبية حسب أحمد الشرقاوي. ومن جهته، يؤكد النقيب نعيم رزق أن العمولة على الأونصات المحلية والسويسرية تضاعفت بفعل تراجع الكميات المتاحة، إذ تجاوزت العمولة على القطعة السويسرية عتبة الـ200 دولار بينما بلغت عمولة المحلية مستوى 100 دولار أميركي وهي أرقام غير مسبوقة، وكذلك الوضع بالنسبة إلى الليرات الذهب لأن أعداد السبائك تراجعت بصورة كبيرة داخل لبنان.
يلفت رزق إلى أن "بعض اللبنانيين يستندون في قراراتهم إلى مصادر غير دقيقة في الشراء والبيع، ويتأثرون بالمحيط وما يحكى على مواقع التواصل الاجتماعي"، معتبراً أن "السوق في حال عطش، ويمكن لأي عميل بيع بعض الأونصات التي يمتلكها، واشتراها على المستويات المنخفضة".
من ناحية أخرى، يحذر رزق من شراء الذهب عبر الشاشة، لأنها أشبه بالمقامرة وتدخل في دائرة المضاربة، مفضلاً "البيع والشراء للأونصات الحقيقية ذات الوجود المادي".

اقرأ المزيد

المزيد من تقارير